لم ترتبط مدينة في العالم باسم شاعر، كما ارتبطت مدينة (حمص) باسم شاعرها (عبد السلام بن رغبان) أو (ديك الجن) الحمصي المولود سنة 161 هجرية الذي صنع من حياته وشعره أسطورة عربية ترددّت أصداؤها في كل الأمكنة والأزمنة، فكانت الشخصية القلقة لهذا الشاعر مثار الكثير من الأقاويل والحكايات والقصص لغرابة أطوارها وتناقضاتها السيكولوجية، وربما كان هذا سبب الوصف الذي أطلق على (ديك الجن)، كما قيل أيضاً: إنه كان أشقر، أزرق العينين، ويصبغ حاجبيه بالزنجار، وذقنه بالحناء، لذلك سمي بـ: ديك الجن.
كل هذه التناقضات الغريبة لم تُقصِه عن أن يحتل مكانة مرموقة بين شعراء عصره، وعلى الرغم من أنه –كما قيل– لم يغادر مدينته (حمص) إلا في حالات نادرة، ولم يقصد بلاطات الخلفاء والأمراء مادحاً، فإن شهرته تجاوزت (حمص) فعمت كل بلاد الشام والعراق ومصر، وكان بيت (ديك الجن) في حمص الذي يقع في حي يسمى اليوم (باب الدريب) مقصداً لكبار شعراء عصره. فقد زاره (دعبل الخزاعي) وقال عنه: (إنه أشعر الجن والإنس)، كما زاره (أبو النواس) وهو في طريقه إلى (مصر)، وله معه قصة طريفة، حيث يُروى أن (أبا النواس) عندما اجتاز (حمص) قاصداً (مصر) لامتداح (الخصيب) وسمع (ديك الجن) بوصوله اختبأ خشية أن يرى فيه (أبو النواس) قصوراً، فقصده هذا في داره وطرق الباب، فقالت له الجارية: إن سيدها ليس في المنزل فعرف (أبو النواس) الدسيسة فقال لها: قولي له اخرج، فقد فتنت أهل العراق بقولك:
مورَّدة من كف ظبي كأنما- — تناولها في خده فأدارها. فلما سمع (ديك الجن) ذلك خرج إليه، وأضافه أياماً معدودات.
كما أن (أبا تمام) وهو في مسيرة الشعر العربي، كان واحداً من تلاميذ (ديك الجن) النجباء. فطّور مذهب أستاذه صاحب المدرسة الشامية في قول الشعر ليصبح بدوره أهم علم من أعلام الشعر، ويذكر (د. فريد وجدي) في (دائرة معارف القرن العشرين) الجزء الرابع- ص104 : أن ديك الجن أعطى أبا تمام درجاً فيه قصائد من شعره وقال له ما معناه: تكسّب بهذا واعمل على منواله. فقد توسم فيه ديك الجن أنه سيكون شاعراً فحلاً. كذلك جاءه (البحتري) ليتتلمذ على يديه، كما ورد في (وفيات الأعيان) للمؤرخ (ابن خلكان).
وربما تأتت شهرة ديك الجن أيضاً من مأساته الفاجعة مع زوجته وحبيبته ( ورد ) التي قضت على يديه مقتولة بسيف غيرته ….وذلك على إثر مكيدةٍ دبرها ابن عمه أبو الطيب، على إثرِ صدِّ زوجة وحبيبة ديك الجن (ورد)له، بعد العديد من المراودات والعروض التي قدمها لها لينال من نفسها، وحكاية ذلك أن ديك الجنِّ قام برحلةٍ ،بعيداً عن حمص طلباً للمالِ كي يردَّ بعض ديونه المستحقة، وعندما لاحَ خبر عودته قام ابن عمه أبو الطيبِ بالإيقاع بينه وبين زوجته، فقام بإعلامها أن ديك الجن قد قتل على الطريق، فسيطر عليها الحزن والكمد وملأها الهم والحسرةُ ..وفي ذات الوقت قام أبو الطيبِ بإعلامِ صديقِ ديك الجنِّ (بكر) بذات الخبرِ، وطلب منه الذهاب إلى بيت صديقه كي يهدِّئَ من روع زوجته (ورد) فذهب (بكر) إلى بيت صديقه وشارك ورداً في همها، وحزنها على زوجها، وشرع بمواساتها وتهدئتها، ومع وصول ديك الجنِّ (سالماً) إلى حمصَ ،أسرع إليه ابن عمه أبو الطيب وأخبره بوجود صديقه في بيت زوجته أثناء غيابه ،وأنه كان يتردد إليها باستمرار.. فاستبد الغضب بديك الجن ومضى هائجا إلى بيته، وعندما تحقق من صحة ما رواه أبو الطيب، شهر سلاحه وقتل زوجته وصديقه بسيفه..
توفي ديك الجنِّ بعد سنواتٍ مليئةٍ بالحزنِ والهم والندم على صديقهِ وزوجته سنة : 235 أو 236 هجرية.
أما اليوم فلم يبق من ذكرى (ديك الجن) في مدينته (حمص) سوى مقصف (ديك الجن) الذي أقيم على أرض (الميماس) وضفاف نهر (العاصي) تلك البقعة الفاتنة بغياضها وبساتينها ورياضها، وقد تركت هذه البقعة التي شهدت أيام لهو وأنس (ديك الجن) بصمات واضحة في نفسه وشعره، وتناولها في مجالس الشراب التي كانت تعقد في أحضان (العاصي) وبساتينه الغنّاء وسحر ورودها ورياحينها .
ويروي أهل (حمص) قصصاً عديدة عن علاقة ديك الجن بـ (الميماس) و(العاصي) ومنها أنه كان يجلس على ضفة (العاصي) ساعات طويلة ،وهو يرقب مياه (العاصي) المتدفقة .وعلى صوت خريرها كان ينظم أبيات شعره. وقد رسم الشاعر (ديك الجن) في إحدى لوحاته صورة رائعة لمجلس من مجالس الشراب على (العاصي) حين دهمه مطر ربيعي خفيف، أضفى على المجلس سحراً وبهجة بما قام بينه وبين الطبيعة من غزل رقيق فقال:
وليلــة أطــل الغيــث ينسجــها —- حتى إذا أكملت أضحى يدبجها
إذا تضاحك فيها الورد نرجسها —- باهى زكي خزاماها بنفسجها
ما بقي من شعر «ديك الجن» قليل جداً، والمطبوع من شعره لا يمثل سمعته الأدبية، لقلته، فقد قام الأستاذ عبد المعين الملُّوحي، والأستاذ محيي الدين الدرويش بجمع ونشر ديوانه في حمص عام 1960م، حيث ضم 417 بيتاً فقط. كما قام الأستاذ مظهر الحجي بجمع شعره ،فطبعته وزارة الثقافة بدمشق من خلال (سلسلة إحياء التراث) عام 1987م.
مقهى ديك الجن على نهر العاصي في حمص