من سيرة القديس إليـــان الحمصي
وديــره في حمص
المهندس جورج فارس رباحية
وُلِدَ القديس إليان في مدينة حمص في القرن الثالث الميلادي من أب يُدعى(
كنداكيوس) (1) من عباد للأصنام ومن الأعيان وذو مركز كبير في المدينة ومن
أم تُدعى ( أخثسترا ) يُقال أنها من أصل يوناني حيث يعني اسمها ( سمكة
النجوم ) وكانت على درجة عالية من الوداعة وحُسْن التربية .وكان ابنهم
يُدعى ( يوليان ) واعتنت بتربيته مربيّة تُدعى ( مطرونة ) وكانت مسيحية
وبدأت تعطيه مبادىء المسيحية سِرّاً دون علم أهله . وعن طريقها كان يزور
الناسك القس الطبيب ( إيباتيوس ) عند نبع الهرمل ـ شمال غرب حمص ـ وكان
يُسَمّى ناسك (الأورانتس ) الذي يعني نهر العاصي ويحفظ منه أسرار الدين
المسيحي وأيضاً يجتمع مع أسقف حمص ( سلوانس ) (2) وتلميذه لوقا والقارىء
موكيوس .كان إليان مسروراً جداً بالحياة العسكرية التي أكسبته بنية قوية
ومتانة عضل وشجاعة قلب ، وقد رأى في زياراته المتكررة للناسك أن يكتب
لوالده كي يسمح له باعتزال الأعمال العسكرية ليتفرّغ لتحصيل العلوم الطبية
، فسمح له بذلك فتفهّم معلومات طبية جديرة بالتقدير بفترة قصيرة فمارس
الطب بمهارة فائقة وكان يحرص على شفاء المرضى ومعالجتهم بمحبة المسيح
وإيمان الرسل وهذا ماتدل عليه أيقونته الرسمية وهو بلباس الفرسان
الرومانيين يمتطي الخيل ويحمل في يده اليسرى رمحاً وبجانبه الهاون
والمطرقة الذي يدل على انه طبيب . فاشتكى أطباء حمص إلى والده وقالوا له :
( إن إبنك يُبَشِّرْ باسم إله النصارى ويهزأ بآلهتنا فكيف ترضى بذلك ولو
علم الإمبراطور لغضب عليك ) .
كان إليان رجلاً مؤمناً يضع كل رجائه
بالسيد المسيح غير مكترث بمغريات هذا العالم الفاني وكان يصلّي ليلاً
ونهاراً ويتمسّك بالصوم ويقوم بأعمال الخير فيعالج المساكين ويوزع عليهم
كل ما يقع بيده من مال أبيه .
وفي عام 284 عندما أمر الإمبراطور (
نوميريان ) باضطهاد المسيحيين في جميع أرجاء الإمبراطورية . اضطر معظم
أهالي حمص إلى ترك عبادة الإله الحقيقي واتبعوا الديانة الوثنية غير أن
إليان كان من القلائل الذين لم يخفهم الاضطهاد فبقي محافظاً على إيمانه
المستقيم وكان من بين الذين لم يحيدوا عن عقيدتهم الأسقف سلوانس وتلميذاه
لوقا وموكيوس .وعرف والد إليان بأنهم يبشرون بدين المسيح فألقى بهم فريسة
للوحوش فاستشـهدوا بتاريخ
10/آذار / 284 .
بدأ إليان بعد
استشهاد رفاقه يُظهِر علانية احترامه لهم ويجهر بإيمانه ويهاجم الأصنام ،
فأمر والده الجنود بالقبض عليه . بقي إليان في السجن أحد عشر شهرا ًكان
خلالها يحث كل الذين يأتون اليه على ترك عبادة الأصنام واللحاق بالسيد
المسيح . فأغاظ هذا التصرف والده فنفذ صبره وقرّر تعذيبه وقتله ، فسلّمه
إلى الجلاّدين فقادوه إلى شرقي المدينة وقيدوه بالحبال وحلقوا شعره ثم
غرزوا اثني عشر مسماراً طويلاً في رأسه ويديه وقدميه . وعندها صـرخ: (
اسبّحك يا إلهي الساكن في السماء والأرض ..... اعطني القوة لأتحمّل مرارة
هذا العذاب وأغمي عليه ، فتركه الجلادون وانصرفوا ظنّاً منهم انه مات .
أما اليان فكان حياً وما لبث أن جمع قواه وتمكّن من جرّ نفسه إلى مغارة
قريبة كانت مصنعاً لفخّاري مسيحي وعندما دخلها مجّد الله قائلاً " أشكرك
يا إلهي الذي أهّلتني لهذا العذاب من أجل اسمك القدّوس " ثم أسلم الروح
وكان ذلك في 6/ شباط /285 . وبعد يومين أخذ الفخّاري جسد القديس ووضعه في
كنيسة ( الرسل والقديسة بربارة ) .
تعيّــد له الكنيسة الأرثوذكسية في اليوم السادس من شباط .
تــاريخ دير القــديس إليان بحمص
في عهد الإمبراطور قسطنطين ( 274 ـ 337 ) عادت حمص إلى الإيمان المسيحي
ففي سنة 313 كان قد صدر قرار ميلانو الشهير الذي أعلن حرية الأديان في
جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية . وأصبح قبر القديس إليان موضع إجلال
جميع الناس وكانت رفاته تشفي المرضى وتُحقّق عجائب متنوّعة . ولم تتغلّب
المسيحية على الوثنية نهائياً إلاّ في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (
408 ـ 450 ) الذي أمر بهدم المعابد وإحراق الأصنام . ففتحت الكنائس ودُقّت
الأجراس وأُقيمت الصلوات علناً في كل مكان .
كان على حمص في تلك
الفترة أسقف يُدعى بولس ، فعندما علمَ بسيرة القديس إليان وقصة استشهاده ،
قرّر أن يبني من ماله الخاص كنيسة على اسم القديس مكان المغارة التي
استشهد فيها وأن تُنقَل إليها رفاته ، فأُقيمت شرقي المدينة كنيسة كبيرة
مجهزة بالأعمدة ومزينة بالرخام والفضة .وتم نقل رُفات القديس إليان إليها
ووضعها وراء المذبح بتاريخ 15/ نيسان /432 ، في تابوت من الرخام أبعاده :
الطول 23ر2 م ، العرض 35ر1 م ، الارتفاع 06ر1 م والغطاء هرمي الشكل ويزيّن
جوانبه مع الغطاء 11 صليباً نافراً ) . وتُعْرَف الكنيسة حتى الآن باسم :
( دير مار إليان ) .
في النصف الأول من القرن التاسع عشر كانت
الكنيسة مجرّد بناء صغير طوله تسعة أمتار وعرضه خمسة أمتار ، فلم تًعُدْ
تتسع للمصلين فلا بد من توسيعها ، فعزم كاهن المدينة آنذاك الخوري يوسـف
رباحيـة البدء بتوسيعها وترميمها في 18/إيلول /1843 واستغرق العمل 45
يوماً شارك فيه أبناء الطائفة .
في عام 1970 قرر مطران حمص أليكسي
عبد الكريم إجراء ترميمات للكنيسة وجدرانها ، وبينما كان العمال عاكفين
على كشط الجدران لطليها من جديد وإذ بهم يعثرون ـ بالغرفة التي فيها قبر
القديس ـ على رسوم جدارية ( فريسك ) حول وفوق التابوت تحمل كتابات يونانية
وعربية كما ظهرت في بقعة تحت الرسوم بقايا من الفسيفساء ، وتم إعلام
مديرية الآثار بالكشف على هذه الرسوم ودراستها وتحديد تاريخها حيث تبين أن
قطع الفسيفساء تعود إلى القرن السادس ( عهد جوستينيان ) أما الرسوم فتعود
إلى القرن 12" أو 13" ، على أثر هذا الإكتشاف تقرّر تزيين الكنيسة برمّتها
برسوم جدارية جديدة . فعهد إلى الرسامين الرومانيين الأخوين ( جبرائيل
وميخائيل موروشان ) في عام 1973 لتنفيذ هذا العمل ، فتم تزيين كل جدران
الكنيسة وأقبيتها وسقفها برسوم تشغل مساحة قدرها 800 م2 تمثلأ أكثر من 70
صورة من حياة السيد المسيح ولعدد من القديسين ومشاهد من حياة القديس إليان
. وفي عام 1974 تم تركيب هيكل ( إيقونسطاس ) جديد مصنوع من الخشب المحفور
جاء هدية من رومانيا . وبعد الانتهاء من هذه الأعمال جرى تدشين الكنيسة
بتاريخ 3/شباط/ 1974 بحضور البطريرك الياس الرابع معوًّض .
ولاتزال عمدة الدير بإجراء إصلاحات مستمرة في الكنيسة والساحة والواجهة الرئيسية له .
يتبع الدير إلى مطرانية حمص للروم الأرثوذكس .
والجدير بالذكر إنه ترتّل في كل قدّاس يُقام في كنيسة الدير هذه الترنيمة
التي نظمها : الأديب والشاعر داود قسطنطين الخوري ( 1860 ـ 1939 ) :
ترنيمة القديس إيليان
نظمها الأديب داود قسطنطين الخوري ( 1860 ـ 1939 )
نغمتها حجاز بوزن : نورنا آسير يانتو ( لكِ يا أرض الشآم )
تُرتَّل في نهاية القدّاس في كنيسة القديس إيليان بحمص
من قِبَل جوقة الكنيسة
لكِ ياحمصُ افتخارُ ثابتٍ طولَ الزّمانِ
أنتِ للأبـرارِ دارُ أنتِ منشا يولـيانِ
قــرار
يا إيليــان يا بهاء الشهدا
اشفِ نفسي وداوِ للجسـدا
1
يا من استشهدّتَ في ثا لث قرن للمســيحِ
ذقت موتاً رغبـة في دينه الحق الصحيحِ
2
ذقت في الإيمان ذلاًّ وثبـاتاً وجــلاده
واحتملت الذلّ حتى نلتَ إكلـيل الشهاده
3
لم يكن يُثنيك في الإ يمانِ عنف الحاكمين
وقبلتَ الموت موت الشــهداء الباسلين
4
فأبوك العــابد الأو ثان والمـر النـكال
شجّ منك الرأس عنفاً بالمسامير الطــوال
5
في الورى كنت مجيداً وابن إجــلالٍ رفيع
عِفتَ هذا المـجد والإ جلال حُبّاً بيســوع
6
ياشــهيداً قد تجـلّى في البرايا نور فضله
كُن لنا خــير شفيعٍ عنـد مَنْ مُتَّ لأجله
7
يا طبيباً كم شفى في الناس من داءٍ وســقمِ
داوِ آلامـي لأُشْـفى من ضنى نفسي وجسمي
===========
20/8/2008 المهندس جورج فارس رباحية
المفـــردات :
(1) ـ ورد في كتاب جبرائيل سعادة أن والد إليان يُدعى ( خسطارس )
(2) ـ سلوانس: فلسطيني الأصل نشأ في قيصرية فلسطين في العشر الأول من القرن 3"
المصــادر والمـــراجع :
ـ السواعي الكبير : القدس 1886
ـ إنارة الأذهان في ترجمة الشهيد الحمصي إيليان : الخوري عيسى أسعد 1928
ـ تاريخ حمص الجزء الأول : الخوري عيسى اسعد 1939
ـ القديس إليان الحمصي : جبرائيل سعادة 1974
ـ نشرات صادرة عن دير القديس إليان
...........................