تذكار القدّيسين الشهداء الأربعين المستشهدين في سبسطية
كاتب الموضوع
رسالة
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: تذكار القدّيسين الشهداء الأربعين المستشهدين في سبسطية الخميس مارس 09, 2017 8:47 pm
تذكار القدّيسين الشهداء الأربعين المستشهدين في سبسطية
إنّ حادث إستشهاد هؤلاء القدّيسين الأربعين، الذين ضحّوا بشبابهم ورتبهم ومستقبلهم وحياتهم لأجل المسيح في مدينة سبسطية، لهو من أروع الحوادث التي عرفها التاريخ بهولها وشدّتها. كانوا قوّداً في الفرقة الرومانية المعروفة بالنارية (La Légion Fulminante)، وكانوا تحت إمرة الإمبراطور ليكينيوس صهر الملك قسطنطين الكبير. وكانوا في حرب في بلاد أرمينيا على الحدود الشرقية. وكانت تلك الفرقة مشهورة ببسالتها وشدّة بأسها. وكان بين أفرادها رجال مسيحيون، ولكن من المسيحيين الحقيقيين الذين يعرفون لملك السماء حقوقه، ولأجله يقدّسون ملك الأرض وسلطانه. والرجال المسيحيون في تلك الفرقة هم الذين كانوا يوماً قد خلّصوا الفرقة بأسرها من أن تموت عطشاً في الصحراء على عهد مرقس أوريليوس، لمّا جثوا وصلّوا إلى السماء. فجادت السماء عليهم بأمطارة غزيرة أروت الجيش والخيل والبهائم. كان ليكينيوس الإمبراطور رجلاً متكبّراً جاهلاً. فلمّا قطع صلته بقسطنطين جاهر المسيحيين بالعداء، على مثال من تقدّمه من القياصرة. وكان إذ ذاك على رأس جيش جرار في إقليم أرمينيا. وكانت الفرقة تحت قيادة ليسياس الوثني. واجتمع الجيش بأمر ليكينيوس لتقدمة المذابح للأوثان. فامتنع أربعون من قوّاد تلك "الفرقة النارية" عن الإشتراك في تلك المذابح. وعلم بذلك والي مدينة سبسطية، حيث كانوا معسكرين. فجاء إلى مقرّ الجند لتنفيذ أمر الإمبراطور. واستدعى أغريكولا الوالي أولئك الضباط وأخذ يحقّق معهم. فكان كلّما سأل أحدهم ما إسمك، أجاب: أنا مسيحي. ومن بديع كلام القدّيس باسيليوس في تعليقه على جواب هؤلاء الأبطال قوله: "إنّ هؤلاء الرجال، على مثال الأبطال الذين يأتون إلى المشهد فيسجّلون أسماءهم بين المصارعين، تقدّموا فسجّلوا أسماءهم أيضاً. ولكن أبطالنا تناسوا أسماء عيالهم فلم يقل أحد منهم: أنا فلان، لأنّهم كانوا كلّهم أخوة المسيح من أسرة واحدة. بل أجابوا كلّهم على سؤال الحاكم: أنا مسيحي. إلاّ أن الحاكم إغريكولا عمل أولاً على إرضائهم وإقناعهم وإرجاعهم عن غيّهم. فذكر لهم شجاعتهم ومواقفهم البديعة وتاريخ حياتهم المجيد. ووعدهم بأن القيصر سوف يكافئهم على خدماتهم، وإن عليهم أن ينقادوا لإرادته ويخضعوا لأوامره. فأجابه أولئك الرجال القدّيسون: إذا كنّا قد عملنا أعمالاً مجيدة في سبيل الملك الأرضي، كما تقول، فما عساه أن يكون موقفنا في خدمة ملك السماوات؟ كن على ثقة إنّنا سنبقى أبطالاً، فلا نخون ذلك الملك. وسوف ننال الإنتصار. فغضب أغريكولا وانتقل من الوعد إلى الوعيد والتهديد. وقال لهم: إن لم يرجعوا عن غيهم، فأن الإمبراطور سوف يسقطهم من مناصبهم ويجرّدهم من أسلحتهم ويذيقهم مرّ العذاب. أمّا هو فيترك لهم الوقت الكافي لينظروا في أمرهم. ثم أرسلهم إلى السجن. فدخل أولئك الأبطال السجن، وما كانوا عرفوا إلى ذلك الحين سوى ميادين القتال. وقضوا الليل وهم يصلّون ويرددون هذا المزمور: "الساكن في عون العلي في ستر إله السماء يسكن". فظهر لهم الربّ يسوع بغتةَ وشجّعهم وقال لهم: كما بدأتم حسناً أتمّو حسناً. فأن الإكليل معدّ للذي يثبت إلى المنتهى. وفي اليوم الثاني أرسل الحاكم في طلبهم. فأتوا ووقفوا أمام منبره. فأخذ يثني على ماضيهم ويعلن أمام رفاقهم شهامتهم، حتى تطرّق إلى القول بأنّ عليهم أن يذعنوا لأوامر ملكهم وأن لا يكونوا من العصاة المجرمين. لكنّه إصطدم مرة ثانية بثباتهم على عزمهم وتمسّكهم بإيمانهم وعقيدتهم. فأعادهم إلى السجن. فقام أحدهم فيهم خطيباً وهو كريون وقال لهم: أيّها الرجال الأخوة، لقد شاءت عناية المولى أن تجمعنا في فرقة واحدة وفي إيمان واحد. فيجب ألاّ نفترق البتّة، لا في الحياة ولا في الموت. فكما خدمنا القيصر، وهو رجل مائت، كذلك علينا الآن أن نخدم ملك السماء. فإن الله أمين، وهو يعين الذين يتألّمون لأجل إسمه تعالى. وقضوا في السجن أسبوعاً كاملاً. ولم يكن الحرّاس يسمعون منهم سوى أصوات التسابيح ونغمات النشائد. وفي غضون ذلك وصل قائدهم "ليسياس". فاستدعاهم إليه. وفيما هم سائرون كان كريّون يقول لهم : "إنّ أعداءنا ثلاثة، وهم الشيطان والحاكم وقائدنا. أو بالأحرى إن عدوّنا واحد وهو إبليس، الذي يستخدم هذين الإثنين للتنكيل بنا. فلمّا مثلوا بين يدي قائدهم، بدأ أولاً فتملّقهم بغية أن يستميلهم. فلم ينجح. فوعدهم بالرتب والأموال. فلم ينجح. حينئذٍ إستشاط غضباً وأمر الجند أن يكسروا لهم أسنانهم بالحجارة بحضرته. فأخذ الجند حجارة وجعلوا يرمونهم بها على وجوههم. لكن الله أراد أن يشجّعهم، فوقاهم أذى تلك الحجارة، بل كانت بفعل إلهي تعود على من كان يرشقها وتدميه. فنسب ليسياس ذلك إلى فعل السحر. وأخذ هو حجراً ورمى به أحداً أولئك الرجال القدّيسين. فذهب ذلك الحجر وضرب الحاكم على رأسه فشجّه. حينئذٍ كفّوا عن ضربهم وأعادوهم إلى سجنهم. فعادوا إلى تلاوة التسابيح. وكانت نفوسهم تفيض شكراً على ما أولاهم من ثبات وشجاعة أمام قائدهم، وعلى دفاعه في تلك المعركة الأولى. وكانوا يرددّون المزمور: إليك رفعت عينيّ يا ساكن السماء، كما تكون عيون العبيد إلى أيدي مواليهم. فظهر لهم الربّ يسوع مرةً ثانية، وسمعوا صوتاً يقول لهم: "من آمن بي، وإن مات فسيحيا. ثقوا ولا تخافوا العذاب، فإنّه سريعاً يزول. جاهدوا جهاداً حسناً لتنالوا الإكليل". فكانت لهم زيارة يسوع تعزية كبرى. وقضوا الليل بطوله في تلاوة الصلوات والتسابيح. فلمّا كان الصبح قادوهم إلى مجلس الحاكم، حيث سمعوا حكم الإعدام الصادر في حقّهم، وهو أن يعذّبوا وسط بحيرة قد جمد ماؤها من شدّة البرد، إلى أن يموتوا. فقاد الجند أولئك الأبطال إلى البحيرة القائمة بالقرب من مدينة سبسطية، ليلقوهم في الماء. إلاّ أن الشهداء البسلاء ما كادوا يصلون إلى ضفاف تلك البركة حتى أسرعوا ونزعوا ثيابهم وألقوا في ذلك الجليد، وهم يشجّعون بعضهم بعضاً ويسبّحون الربّ. وكانوا يقولون بعضهم لبعض: "إن الجند نزعوا ثياب الفادي الإلهي واقتسموها بينهم. وإن يسوع احتمل ذلك لأجل معاصينا. فلننزع الآن ثيابنا لأجل حبّه، ونكفّر بذلك خطايانا". وكانوا يصلّون في وسط الجليد ويثبّتون بعضهم بعضاً بكلام ينعش فيهم روح الإيمان ويثير حماستهم. وكانوا يقولون: "نزلنا أربعين إلى الماء، فسنذهب أربعين إلى السماء." إلاّ أنه لا نعيم على الأرض بغير كدر يشوبه. فبينا كان هؤلاء الأبطال يضحّون بحياتهم في سبيل إيمانهم، خارت قوى أحدهم. فخرج مسرعاً من الجليد الى الماء الساخن. فناداه رفاقه. فلم يسمع لهم. بل أصرّ على النجاة من ذلك العذاب. إلاّ إن ذلك المسكين لقي حتفه قبل أن يعود إلى نعيم الحياة. ولكن خيانة أحدهم، وإن آلمت قلوبهم، لم تكن إلاّ لتثبّتهم في جهادهم. فصمدوا بنفس جبّارة للموت الذي كانوا يرونه مسرعاً إليهم. وانتصف الليل والشهداء يتألّمون، ولكنّم يسبّحون ويجاهدون. أمّا الحرّاس الواقفون فكانوا ينظرون إليهم بإكبار وإعجاب. وقبل الفجر بقليل، في تضاعيف ذلك الظلام الدامس، ظهر بغتة نور سماوي أضاء البحيرة وأذاب الجليد وسخّن الماء. ونزلت الملائكة من السماء وفي يد كل منهم إكليل فوضعوها على رأس كل شهيد من أولئك الشهداء التسعة والثلاثين. وشاهد تلك الأعجوبة أحد الحرّس، فحركت نعمة الروح القدس قلبه، وامتلأ من الإيمان وصاح برفاقه وقال: أنا مسيحي، وأريد أن أموت لأجل المسيح بدل ذاك الذي خانه وهرب من ميدان الجهاد. ثم نزع ثيابه ورمى بنفسه في الماء. فعاد الشهداء إلى عددهم الأول، وأضحوا أربعين ، وفاضت نفوسهم بالشكر لتدابير المولى عزّ وجلّ. فلمّا كان الصباح كان الكثيرون من أولئك الشهداء البسل قد ماتوا ونالوا في السماء إكليل الإستشهاد. ولمّا علم أغريكولا بما حدث في الليل اغتاظ جدّاً وأمر بأن يُخرج الجند الشهداء من البحيرة، وأن تكسر سوق من بقي منهم حيّاً، وأن تحرق أجساهم جميعاً في النار. فأخرجهم الحرّاس كلّهم، وكسروا ساقَي كل من وجدوه حيّاً بعد. ووضعوا تلك الأجسام المائتة والمهشّمة بعضها فوق بعض في عربة، وذهبوا بها ليحرقوها. وكان البعض من أهالي أولئك الشهداء، وغيرهم أيضاً من المسيحيين، قد أتوا ليتبرّكوا خلسةً بنظرةٍ إلى أولئك الأبطال أو بقبلة أجسامهم المائتة. وحدث أن الجند الذين هشموا أجسام أولئك القدّيسين أبقوا على واحد منهم كانت الحياة لا تزال قويّةً فيه، وكان الشباب يتدفّق من عينيه، على أمل أن ما قاساه من الآلام يثني من عزمه فيكفر بالمسيح ويعود إلى الحياة. فتركوه ملقىً على الحضيض وساروا بالباقين. وكانت والدة ذلك الشاب بين الحضور. فلمّا رأت ما كان، بدل أن تفرح بأمل عودة إبنها إليها، خافت عليه أن يفوته إكليل الإستشهاد. فركضت إليه تلك الأم القدّيسة وأعانته على الجلوس، وأخذت تشجّعه وتكلّمه عن أفراح السماء وأمجاد القدّيسين، وتقول له: يا نور عينيّ، تشجّع حتى تذهب إلى أنوار الملكوت فتعزّي قلبي الكسير وتجعلني أسعد الأمهات على الأرض. ثم حملته وركضت وراء العربة وألقته بين رفاقه. فشتمها الجند ولكموها، وحملوا ذلك الشاب مع سائر الشهداء إلى النار. فتبعته وهي تصلّي وتتضرّع إلى الله، لكي يثبت ويقبل ذبيحة قلبها. وهكذا قضى أولئك الشهداء الأربعون، بعد أن ذاقوا جميع أنواع العذابات، وصمدوا لها حبّاً لذاك المعلّم الإلهي والفادي الكريم الذي عاش ومات لأجلهم. وذهبوا إليه في ملكوته، لينعموا معه في الأفراح السماوية مدى الأبدية. وكان ذلك في اليوم التاسع من شهر آذار (مارس) سنة 320. وقامت الدنيا من بعد إستشهاد أولئك الجنود البسّل، تكرّمهم وتحتفل بيوم وفاتهم وإنتصارهم. ويقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن عبادتهم كانت قد انتشرت في بلاد الشرق والغرب، وأن الكنائس كانت تتهادى عظامهم كذخائر مقدّسة ثمينة. وكان باسيليوس وإميليا أبوا القدّيس باسيليوس من سبسطية. فلمّا تركاها وجاءا على أراضيهما في الإيريس، حملا معهما من ذخائر القدّيسين الشهداء الأربعين ما حملا. وبنيا فيها كنيسة لأجل إكرامهم وحفظ عظامهم. وأنشأت إبنتهما ماكرينا ديراً للراهبات على إسمهم. وكانت أول رئيسة لهذا الدير. ولا تزال كنيستنا الشرقية تعيّد لهم كل سنة في مثل هذا اليوم، طالبةً شفاعتهم لينالوا لنا الثبات في الجهاد ضد أعداء خلاصنا حتى النفَس الأخير، فنفوذ على مثالهم بالإكليل المعدّ لكل من يجاهد جهاداً شرعيّاً. آمين
_________________
تذكار القدّيسين الشهداء الأربعين المستشهدين في سبسطية