اشتهرت منطقة "وادي النضارة" قديماً بعدد من "الطواحين" التراثية التي ارتبط عملها بما يجنى من محاصيل سهل "البقيعة" وقوة نهر "راويل" لتحريكها، ومع مرور الوقت تحولت هذه الطواحين إلى هياكل أثرية وذكريات.
مدونة وطن"eSyria" زارت أشهر تلك "الطواحين" والتقت السيد "حديد برّو" الذي يقطن في قرية "المشتاية" والذي يبلغ من العمر82 عاماً، بتاريخ 25/2/2013 فقال: «احتاج رغيف الخبز على أيامنا لجهد كبير في الصناعة، فقد كانت المحاصيل تجمع من قبل أصحابها وتحمل على ظهر الدواب لتنقل إلى الطاحون الأقرب جغرافياً بالنسبة لهم، وكان أهالي القرى التي توجد فيها الطواحين هم الأوفر حظاً من تلك البعيدة، خاصة أن انتظار الطحنة قد يستمر حوالي الأسبوع وقد يتعدى الشهر، وكان الفلاحون يقسمون مواسمهم بين الصيف والشتاء، وأما أسلوب الدفع لأصحاب المطاحن فكان يتناوب بين الفرنك والمكيال، حيث كان الاقطاعيون والأغنياء يدفعون نقوداً مقابل الطحن، أما الفلاحون فكانوا يدفعون لصاحب المطحنة مكيالاً عن كل شنبل طحين».
حظيت أغلب القرى التي تقع على نهر "راويل" بطواحين تعمل بقوة دفع المياه ولها جميعها طابع عمراني متماثل حيث يتحدث السيد "مروان سكرية" من قرية "التلة" عن طاحونة جده فيقول: «امتلك جدي هذه الطاحون منذ أكثر من مئة عام وهي تعمل بقوة دفع الماء المتدفق من ساقية تحت الأرض تعمل في الشتاء فقط، وتتكون من عدة حجرات احداها لجمع الطحين وأخرى لمبيت الفلاحين، هذا عدا الحجرة الرئيسية التي يتموضع فيها حجر "الرحى"، كما كان يوجد في الخارج اسطبل صغير لربط الدواب، وخزان كبير لجمع الماء، وقد حولتها أنا اليوم إلى ورشة للحدادة».
بين طاحون "الجسر" في "عين العجوز", وطاحون "التلة", وطاحون "آل داوود", وطاحون "العسرة" في قرية "الحواش" تنقل معظم الفلاحين طالبين طحن محاصيلهم، وكانت الطاحون الأوفر حظاً تلك التي تقع على مجرى مياه ذو قوة دفع كبيرة لتسرّع من عملية الطحن وذلك قبل دخول الطواحين الحديثة في منتصف القرن الماضي إلى المنطقة.
وعن آلية عمل الطواحين وأقسامها، يتحدث الدكتور "يوسف الشامي": «أقيمت الطواحين في مواقع تدار بواسطة المياه عبر قناة من نهر راويل أثناء فصل الأمطار، وكان يقام سد على هذا النهر قرب جسر "الحرية" المتهدم حالياً لتخترق هذه القناة أراضي "الحواش" و"عش الشوحة" و"التلة" و"عناز"».
وعن أقسام الطاحون وبنائها يضيف: « يدار "فرّاش" الطاحون بتأثير الميل في المياه وبالتالي يدور "حجر الرحى" لطحن الحبوب، ويضاف إليه أهمية علو البئر الذي يصب به الماء، وقد كان البئر يبنى بشكل مائل وفي نهايته من الأسفل يخرج الماء بقوة
من فتحة ضيقة بواسطة "ماسور" من الخشب على "الفرّاش"، الذي يقوم بدوره بإدارة "حجر الرحى" الذي كان يأتيه "الحب" من دلو معلق فوق "الرحى"، وكان يحرك الدلو بعض القطع الحديدية المربوطة بحبل "الدلو" ليتدلى حتى "حجر الرحى"».
في فصل الشتاء كان الأهالي يقصدون طواحين "الحواش، والتلة" أما في فصل الصيف فكانت طاحونة "سعيد" التي تقع على النهر الكبير الجنوبي قرب قرية "حالات" مقصدهم، وبقي العمل بهذه الطواحين إلى أن بنيت طاحونة تدار بمحرك يعمل بالديزل في قرية "عين العجوز" وسميت طاحون "النار" وذلك في أربعينيات القرن الماضي، وأشتهرت بسرعتها في الطحين وتأمينها الطحين طوال أيام السنة.
وعن طريقة بناء الطاحون يضيف: «تبنى الطاحون من الحجر الأزرق الذي يتوافر في المنطة بكثرة وتثبت الحجارة بواسطة الكلس المستخرج من الحجارة الكلسية التي تصهر في "الأتون"، أما أحجار الرحى فكان يؤتى بها من مناطق بعيدة جداً لانها تحتاج حجارة ضخمة من البازلت الأزرق وعندما تصبح أسطح "الرحى" ملساء يعاد "تنقيرها" بواسطة أداة تشبه المطرقة مسننة من الأمام للحصول على نتيجة أفضل لطحن القمح».
ومع تطور الزمن وانحسار مياه نهر راويل لأدنى مستوياته فقد خزان الماء الخاص بالطاحون بدأت تتلاشى إلى أن أصبحت مجرد آثار يحكى عنها وأماكن يجتمع فيها الناس للتسلية. أما عن رمزيتها الأثرية فلا نجد فيها سوى مكان مهجور من الحجارة وأكوام القش وخاصة بعد تهميش تاريخها من قبل المؤسسات السياحية والأثرية في المنطقة».
الجدير ذكره أنه وحتى يومنا هذا مازال بعض أهالي القرى يقومون بطحن قمحهم بواسطة الرحى الحجرية ولكن الصغيرة منها والموجودة في بعض المنازل القديمة.