النص الكامل بالعربية للإرشاد الرسولي الكنيسة في الشرق الأوسط
الإرشادُ الرَّسوليُّ ما بعدَ السّينودُس
الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسط
للبابا بندكتُس السّادس عشر
إلى البطاركةِ والأساقفةِ
والإكليروسِ
والأشخاصِ المكرَّسين
والمؤمنين العَلمانيِّين
حول الكنيسة في الشَّرق الأوسط،
شَرِكة وشَهادة
مقدمة :
1. الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسط، والَّتي تَحجّ على هذه الأرضِ المباركة منذ فجر الإيمان المسيحيّ، تواصل اليومَ بشجاعةٍ شَهادتَها، ثمرةَ حياةِ شَرِكَةٍ مع الله ومع القريب. شَرِكةٌ وشَهادة! كانت هذه في الواقعِ القناعة الَّتي شَكَلّت محوَرَ الجمعيّة الخاصَّة لسينودسِ الأساقفةِ من أجلِ الشَّرقِ الأوسطِ الَّتي اجتمعت، حولَ خليفة بطرس من 10 وحتّى 24 من تشرين الأوّل/أكتوبر 2010، حولَ موضوع: الكنيسة الكاثوليكيّة في الشَّرق الأوسط، شَرِكة وشَهادة. "وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً" (أع 4، 32).
2. أودُّ في مطلعِ الألفِ الثّالثِ أن أستودعَ هذه القناعة، الَّتي تستمدُّ قوَّتَها من يسوعَ المسيح، إلى العنايةِ الرَّعَويّةِ لكافةِ رعاةِ الكنيسةِ الواحدةِ والمُقَدَّسةِ والجامعةِ والرَّسوليّة، وبنوعٍ خاصٍّ إلى الأخوةِ البطاركةِ ورؤساءِ الأساقفةِ والأساقفةِ الموقّرين الَّذين يسهرون مَعَاً، باتّحادٍ مع أسقفِ روما، على الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ في الشَّرقِ الأوسط. يَعيشُ في هذه المنطقةِ مؤمنون، من أبناءِ البلاد، ينتمون إلى الكنائسِ الشَّرقيّةِ الكاثوليكيّةِ ذات الحَقّ الخاصّ: كنيسة الإسكندريّة البطريركيّة للأقباط؛ كنائس أنطاكيا البطريركيّة الثّلاث: الرّوم الملكيِّين، السّريان والموارنة؛ كنيسة بابل البطريركيّة للكَلدان وكنيسة قيليقيا للأرمن. كما يعيش في المنطقة أساقفةٌ وكهنةٌ ومؤمنون ينتمون إلى الكنيسة اللاتينيّة. وهناك أيضاً كهنةٌ ومؤمنون قَدِموا من الهندِ، من الأبرشيَّتِين الكبريِّين: إيرناكولام أنغامالي للسّريان المالابار وتريفاندروم للسّريان المالانكار، ومن كنائسَ شرقيّةٍ ولاتينيّةٍ أُخرى في آسيا وأوروبا الشَّرقيّة، بالإضافة إلى مؤمنين كثيرين جاؤوا من أثيوبيا وإرتريا. يشهد هؤلاء مَعَاً لوحدة الإيمان ضمن تَنْوّع تقاليدهم. أريد أن أستودعَ هذه القناعةَ أيضاً إلى جميع الكهنةِ والرّهبانِ والرّاهباتِ والمؤمنين العَلمانيِّين الشَّرق أوسطيِّين، واثقاً بأنّها ستكون دافعاً لخدمةِ ولرسالةِ كلّ شخص داخلَ كنيسته، ووفقاً للمواهب الَّتي منحه إياها الرّوح، من أجل استنارة الجميع.
3. إنَّ الشَّرِكة، من منظار الإيمان المسيحيّ، هي "حياةُ الله نفسُها الَّذي يُعطيها لنا بالرّوح القدس بواسطة يسوع المسيح"[1]. إنَّها هبةٌ مِن عندِ الله الَّذي يَختبر حُرِّيَّتَنا وينتظر منَّا جواباً. إنَّ الشَّرِكةَ هي بطبيعتِها جامعة، لكونِ أصولِها إلهيّة. وإذا كانتْ ملزِمةً بالنّسبة للمسيحيِّين، بدافع إيمانِهم الرّسوليّ المشترك، فهي أيضاً منفتحةٌ على أشقَّائِنا اليهودِ والمسلمين وعلى جميع الأشخاص الَّذين ينتمون هم أيضاً، وبطرقٍ مختلفة، إلى شعبِّ الله. الكنيسة الكاثوليكيّة في الشَّرق الأوسط تعلم أنَّها لن تَتَمكّنَ من أن تُعبّر تعبيراً كاملاً عن هذه الشَّرِكة، على الصّعيدِ المسكونيِّ وفي مجالِ الحوارِ بين الأديان، إن لم تعملْ أوّلاً على تجديدِ هذه الشَّرِكةِ في داخلها، وعلى مستوى كلّ كنائِسها، ثمَّ لدى جميعِ أعضائِها: من بطاركةٍ وأساقفةٍ وكهنةٍ ورهبانٍ ومُكَرَّسين وعَلمانيِّين. إنَّ التّعمّق في حياةِ الإيمانِ الفرديِّةِ والتّجدّدِ الرّوحيّ داخلَ الكنيسةِ الكاثوليكيِّةِ سيسمحانِ ببلوغِ ملءِ حياةِ النِّعمةِ والثّيوسيس (التَّألُّه)[2]. هكذا تَكْتَسِّبُ الشَّهادة مصداقيّة.
4. يمكنُ أن يُشكِّلَ مثالُ الجماعةِ الأولى في أورشليمَ نموذجاً لتجديدِ الجماعةِ المسيحيِّةِ الحاليِّةِ كي تتحوَّلَ إلى مكانٍ للشَّرِكةِ من أجلِ الشَّهادة. يُقدِّم كتابُ أعمالِ الرُّسلِ، في الواقع، وَصْفَاً أوَّليّاً بسيطاً وجديراً بالاهتمامٍ لهَذه الجماعةِ الَّتي أبْصَرَتِ النورَ يومَ العنصرة: "وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً" (راجع أع 4، 32). يُوجدُ منذُ البدءِ رباطٌ أساسيٌّ بينَ الإيمانِ بيسوعَ والشَّرِكةِ الكنسيِّةِ، تشير إليه العبارتانِ المنسجمتان: "قلب واحد ونفس واحدة". فليست الشَّرِكة من صنعِ البشرِ على الإطلاق. هي قبلَ كلِّ شيء وليدةُ الرّوحِ القدس الَّذي يَخلقُ فينا الإيمانَ العامِلَ بواسطةِ المحبّة (راجع غل 5، 6).
5. ظهرت وحدةُ المؤمنين، بحسبِ كتابِ أعمالِ الرُّسلِ، بفعلِ أنَّهم "كانوا يُداوِمونَ على الاستِماعِ إلى تَعليمِ الرُّسُلِ وعلى الحياةِ المُشتَركَةِ وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلاةِ" (أع 2، 42). ومن ثمَّ فوحدة المؤمنين تتغذَّى إذاً من تعاليمِ الرُّسل (إعلان كلمة الله) الَّتي كانوا يتجاوبون معها بإيمانٍ مشترك، ومن الشَّرِكةِ الأخويّةِ (خدمة المحبّة)، ومن كَسْرِ الخبز (الإفخارستيَّا وجميع الأسّرَّار)، ومن الصَّلاةِ الفرديّةِ والجماعيّة. على هذه الأعمدةِ الأربعةِ ارتكزت الشَّرِكةُ والشَّهادة وسطَ جماعةِ المؤمنين الأولى. فلتتمكنِ الكنيسةُ، في الشَّرق الأوسط، بدون انقطاع منذ زمن الرّسل وحتّى يومنا هذا، من أن تجد في مثالِ هذه الجماعةِ القوتَ اللازم، لتَستمرّ حيّةً لديها ذكرى الأسلاف وديناميكيِّتهم الرّسوليّة!
6. اختبر المشاركون، في جمعيّةِ السّينودس، الوحدةَ داخلَ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ ضمنَ التّنوعِ الكبيرِ للسياقاتِ الجغرافيّةِ والدّينيّةِ والثّقافيّةِ والاجتماعيّة-السّياسيّة. يُعاشُ الإيمانُ المشتركُ ويُنشَر بشكلٍ رائعٍ ضمنَ تنوّعِ تعابيرهِ اللاهوتيّةِ والرّوحيّة واللّيتورجيّة والقانونيّة. وكما فعل أسلافي على كرسيّ بطرس، فإنِّي أجدّد هنا رغبتي في "أنّ طقوسَ الكنائسِ الشَّرقيِّةِ يجبُ حفظُها ودعمُها بورعٍ، لكونها تراثَ كنيسةِ المسيح بأسرها، يشعُّ فيه التّقليدُ المنحدرُ من الرُّسلِ عن طريق الآباء، ويؤكّدُ بتنوّعه وحدةُ الإيمانِ الكاثوليكيّ الإلهيّة"[3]. وأعرب لأخوتي اللاتين عن محبِّتي المتنبهةِ لاحتياجاتهم وضَرُوَراتِهم، تماشيا مع وصيّةِ المحبِّة، الَّتي تفوق كلّ الأشياء، ووفقا للقواعدِ القانونيّة.
الفصل الأوّل
"نَشكُرُ اللهَ دائِمًا في أَمْرِكمِ جَميعًا ونَذكُرُكم في صَلَواتِنا"(1 تس 1، 2)
7. بكلماتِ القدِّيسِ بولسَ نفسِّها، أودُّ أن أحيِّي المسيحيِّين المقيمين في الشَّرقِ الأَوسطِ مؤكِّدا لهم صلواتي الحارَّة والمتواصلة. الكنيسةُ الكاثوليكيِّةُ، ومعها الجماعةُ المسيحيِّةُ كلُّها، لا تَنسَاهم وتَعترفُ بامتنانٍ بإسهامهم النَّبيلِ والعريقِ في تشيّيدِ جسَدِ المسيح. وتَشكُرُهم على أمانتِهم وتُؤكد محبَّتَها لهم.
السّياق :
8. أَتَذكَّرُ بتأثِّرٍ زياراتي إلى الشَّرق الأوسط. الأرض الَّتي اختارها الله، بطريقةٍ فريدة، وسار عليها البطاركةُ والأنبياء. كانت المكانَ الَّذي تَجَسَّدَ فيه المسيحُ ورأت ارتفاعَ صليب المُخَلِّصِ، وكانت شاهدةً على قيامتِه من الموتِ وعلى حلولِ الرّوحِ القدّس. مرَّ عليها الرّسلُ والقديسون وآباء الكنيسة العديدُون فصارت بوتقةً للصياغاتِ العقائديّةِ الأولى. على الرّغم من ذلك، فإنَّ هذه الأرضَ المباركةَ والشَّعوبَ الَّتي تسكنها تَختبرُ الاضطراباتِ البشريّةَ بشكلٍ مأسويٍّ. عددٌ كبيرٌ من القتلى، ومن الأرواح الَّتي دمَّرها العمى البشريّ، ناهيك عن الخوف والمذلّة! يبدو أنَّ لا شيء يكبحُ جماحَ جُرمَ قايين (راجع تك 4، 6-10 و1 يو 3، 8-15) بين أبناء آدم وحوَّاء، المخلوقين على صورةِ الله (راجع تك 1، 27). فخطيئةُ آدمَ الَّتي عزَّزتها خطيئةُ قايين ما تزال تُوَلِّد شوكاً وحسكاً (راجع تك 3، 18) حتّى يومِّنا هذا. إنَّه لَمِن المحزنِ رؤيّةُ هذه الأرض المباركة تَتَألَّم بأبنائِها الَّذين يتقاتلون فيما بينهم بلا هوادة، ويموتون! يعرف المسيحيُّون أنَّ يسوعَ وحدَّه، الَّذي اختبرَ المحنَ والموتَ ليقوم من بين الأموات، قادرٌ على حملِ الخلاص والسَّلام إلى جميع سكان تلك المنطقة من العالم (راجع أع 2، 23-24، 32-33). إنَّه وحده، المسيح، ابن الله، الَّذي نعترف به! دعونا نرجع إذا ونتوب "فتُوبوا واَرجِعوا تُغفَرْ خَطاياكُم. فتَجيءُ أيّامُ الفرَجِ مِنْ عِندِ الرَّبِّ" (أع 3، 19-20أ).
9. إنَّ مفهومَ السَّلام، وفقاً للكتاب المُقَدَّس، ليس مجرَّدَ اتّفاقٍ أو معاهدةٍ تسمح بعيش حياةٍ هادئةٍ مطمئنةٍ، ولا يمكن أن يقتصر تحديدُه على غيابِ الحربِ وحسب. السَّلام يعني، وفقاً لأصل الكلمةِ العبريِّ: أن نكون كاملين، محميِّين من الأذى، يعني تحقيق شيء ما لبلوغ الطُّمأنينة التّامَّة. السَّلام هو حالة الإنسان الَّذي يعيش بتناغم مع الله، ومع ذاته، ومع قريبه ومع الطَّبيعة. السَّلام باطنيِّ قبل أن يكون ظاهريَّاً. إنَّه نِعْمَة. إنَّه تَوقٌ إلى واقع ما. السَّلام أمر منشود كثيرا لدرجة أنَّه تَحَوَّل، في الشَّرق الأوسط، إلى تحيِّة (راجع يو 20، 19؛ 1 بط 5، 14). السَّلام هو عدالة (راجع أش 32، 17) ويضيف القدِّيس يعقوب في رسالته: "والبِرُّ هوَ ثَمَرَةُ ما يَزرَعُهُ في سَلامِ صانِعو السَّلامِ" (يع3، 18؛ راجع أش 23، 17). لَقَد كان الكفاحُ النَّبويُّ والتّفكيرُ الحكيمُ نضالا وضرورةً من أجل البحثِ عن السَّلام الإسكاتولوجيّ. المسيحُ يقودنا باتِّجاه هذا السَّلام الأصيل مع الله. إنَّه بابه الوحيد (يو10، 9). والمسيحيُّون يتطلَّعون إلى عبور من خلال هذا الباب الأوحد.
10. من خلالِ بَدءِ التَّوبة إلى الله، وعيش الغفران في محيطه القريب والجماعيّ، يصبحُ الإنسانُ الصَّالحُ قادراً على الاستجابةِ لدعوةِ المسيحِ ليصير "ابنا لله" (راجع مت 5، 9). المتواضع وحده يَتَلذَّذ في كثرةِ السَّلام (راجع مز37 [36]، 11، أم 3، 2). بعدَ أن فتحَ لنا طريقَ الشَّرِكةِ مع الله، خلق يسوعُ الأخوَّةَ الحقيقيِّة، لا تلك المُشَوَّهةَ بفعل الخطيئة[4]. "فالمَسيحُ هوَ سَلامُنا، جعَلَ اليَهودَ وغَيرَ اليَهودِ شَعبًا واحدًا وهدَمَ الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهُما، أيِ العَداوَةَ" (أف 2، 14-15أ). المسيحيُّ يَعلمُ أنَّ سياسةَ السَّلامِ الأرضيِّةَ لن تكونَ ممكنةً إن لم ترتكزْ إلى العدالةِ في الله والعدالةِ بين البشر، وإن لم تقفْ هذه العدالةُ في وجهِ الخطيئة أساسِ الانقسام. لهذا السّبب، ترغبُ الكنيسةُ في تَخطِّي كلّ تمييز على أساسِ العرقِ والجنسِ والطّبقةِ الاجتماعيِّةِ (راجع غل 3، 28 وقول 3، 11)، مدركةً أن الكلَّ باتوا واحداً في المسيحِ الَّذي هو الكلّ في الكلّ. لذا تَدعم الكنيسةُ وتُشجّع كلَّ جهدٍ يبحثُ عن السَّلامِ في العالم، وفي الشَّرق الأوسطِ على وجه التّحديد. وهي لا تَدّخِر جَهداً- بشتَّى الوسائل- من أجلِ مساعدةِ البشرِ على العيشِ بسَلامِ وتؤيّد أيضاً مجموعةَ الآلياتِ القانونيّة الدّوليّة الَّتي تعزّز السَّلام. إنَّ مواقفَ الكرسيّ الرّسوليّ تجاهَ مختلفِ الصّراعاتِ الَّتي تدمي المنطقةَ، وتجاه وضعِ أورشليم والأماكنِ المُقَدَّسةِ معروفةٌ تماماً[5]. مع ذلك لا تنسى الكنيسةُ أنَّ السَّلام هو قبلَ كلّ شيء ثمرةُ الرّوح (راجع غل 5، 22) ينبغي طلبه من الله على الدّوام (راجع مت 7، 7-8).
الحياة المسيحيّة والمسكونيّة :
11. في هذا السّياق المُقَيِّد، غيرِ المستقرّ، والَّذي يميل حاليّاً إلىَ العُنفِ، سمح اللهُ لكنيستِه بأن تزدهر. وتعيشَ في بيئاتٍ متعدِّدة الأشكال. فإلى جانب الكنيسة الكاثوليكيّةِ، توجد في الشَّرق الأوسط من الكنائسِ العديدةِ المُوَقَّرة، أُضيفت إليها جماعات كنسيِّة أبصرت النُّور في فترات حَديثة. هذه الفسيفساءُ تتطلَّب جَهدَاً هامَّاً ومُتواصلاً من أجل تعزيز الوحدة، في إطارِ احترامِ غنى كلّ جماعة، بغيِّة توطيدِ مصداقيِّةِ إعلانِ الإنجيل والشَّهادة المسيحيّة[6]. الوحدة هِبةٌ من الله تُولَد من الرّوح وينبغي تنميتها بصبر دؤوب (راجع 1 بط 3، 8-9). نعلم أنَّها تجربة، تجربة الالتجاء فقط إلى المعايير البشَّرِيّة عندما تعترض الانقساماتُ طريقَنا، متناسين نصائح القدّيس بولس الحكيمة (راجع 1 كو 6، 7-8)، الَّذي يُناشد قائلا: "واَجتَهِدوا في المُحافَظَةِ على وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلامِ" (أف 4، 3). الإيمان هو قلبُ وثمرةُ العمل المسكونيّ الأصيل[7]. وينبغي أن نبدأ بالتّعمُّق فيه. تنبع الوحدة من الصَّلاة المثابرة، ومن التّوبة الَّتي تجعل كلّ شخص يعيش وفقا للحقيقة وفي المحبّة (راجع أف 4، 15-16). شجَّع المجمعُ المسكونيُّ الثّاني هذه "المسكونيِّةَ الرّوحيِّة" الَّتي هي روحُ المسكونيّة الحقيقيّة[8]. يشكِّل الوضعُ في الشَّرقِ الأوسطِ بحدِّ ذاته دعوةً مُلحَّةً لقداسة الحياة. إنَّ مجموعة سِير الشَّهداء تُثبت أنَّ قدِّيسين وشهداء، من جميع الانتماءاتِ الكنسية، كانوا - ولا يزال بعضهم حتَّى يومنا هذا - شهودا أحياء للوحدة في المسيح المجيد، تلك الوحدة الَّتي تُشكِّل استباقا لتذوّق طعم وحدتنا الأخيرة كشعب تصالح به[9]. ولهذا السّبب داخل الكنيسة الكاثوليكيّة لا بدّ من إرساء أُسس الشَّرِكة، الَّتي تقدّم شهادة لمحبِّة المسيح.
12. استنادا إلى توجيهات الدّليل المسكوني[10]، يُمكن للمؤمنين الكاثوليك تنميةُ المسكونيِّة الرُّوحيِّة في الرّعايا والأديرة، وفي المعاهد المدرسيّة والجامعيّة وفي الإكليريكيَّات. فليهتمَّ الرُّعاةُ بتربية المؤمنين على أن يكونوا شهودا للشَّرِكة في جميع مجالات حياتهم. هذه الشَّرِكة ليست بالطّبع درباً من الفوضى. فالشَّهادة الأصيلةُ تَتَطلَّب الاعترافَ بالآخر واحترامه والانفتاح على الحوار في الحقيقة، والصَّبر كوجه من أوجه المحبّة، والبساطة والتّواضع لِمنْ يُقرَّ بأنَّه خاطئ أمام الله والقريب، والقدرة على المغفرة والمصالحة وتطهير الذّاكرة، على الصّعيدين الشَّخصيّ والجَمَاعيّ.
13. إنِّني أشجِّع عمل اللاهوتيِّين الَّذين يسعون بلا كلل لبلوغ الوحدة، كما أحيِّي نشاطَ اللِّجانِ المسكونيِّة المحليِّة المتواجدة على كافة الأصعدة وجميعَ أنشطةِ الجماعاتِ المختلفة، والَّتي تصلِّي وتعمل من أجل الوحدة المنشودة من خلال تعزيز الصَّداقة والأخوِّة. إنّه لمِن المهمّ أيضاً، في إطارِ الأمانةِ لأصول الكنيسة وتقاليدِها الحيِّة، أن نتكلَّمَ بصوتٍ واحدٍ بشأن القضايا الأخلاقيّة الكبيرة المتعلّقة بالحقيقة الإنسانية، والعائلة والجنس والأخلاقيِّات البيولوجيِّة، والحرية والعدالة والسَّلام.
14. فضلا عن ذلك هناك أيضاً "مسكونيّةُ الخدمة" في المجال الخيريّ والتّربويّ بين مختلف مسيحيي الكنائس وأولئك المنتمين إلى الجماعات الكنسيِّة. ويشكل مجلس كنائس الشرق الأوسط، الَّذي يضم الكنائس ذات التّقاليد المسيحيّة المختلفة المتواجدة في المنطقة، فرصةً سانحةً لحوار يتمّ في إطار المحبّة والاحترام المتبادل.
15. يُوضِّحُ المجمعُ المسكونيُّ الثّاني أنَّ المسيرةَ المسكونيِّة، لكي تكونَ فَاعِلة، يجبُ أن تتمَّ "بالصَّلاة في بادئ الأمر ثمَّ بسيرةِ الحياة، وبأمانة تقويّة للتقاليد الشَّرقيّة القديمة، وبتعارف متبادل أعمق، وبالتّعاون والتّقدير الأخوي للأشياء والبشر"[11]. ينبغي، قبل كلّ شيء، أن يعودَ الجميعُ بشكل أقوى إلى المسيح نفسِّه. ويسوع يوحّد المؤمنين به والَّذين يحبّونه من خلال منحهم روحَ أبيه وأيضاً مريم، أمّه (راجع يو 14، 26؛ 16، 7 و19، 27). هذه العطيّة المزدوجة، على مختلف المستويات، تشكِّل مصدرَ دعمٍ قوي وتستحق اهتماماً أكبر من جانب الجميع.
16. تدفع المحبّة المشتركة للمسيح "الَّذي ما اَرتكَبَ خَطيئَةً ولا عَرَفَ فَمُهُ المَكرَ" (1 بط 2، 22) وكذلك "الرّوابطُ الوثِيقة"[12] بين الكنائس الشَّرقيِّة غيرِ المتحدةِ كُلِّيِّاً مع الكنيسة الكاثوليكيّة، نحو الحوار والوحدة. يرتبط الكاثوليك، في حالات عديدة، بكنائسَ شرقيّةٍ ليست في شَرِكة تامَّة، نتيجةَ أصول دينيِّة مشتركة. ولبلوغ رَعَويّة مسكونيّة متجدّدة، لتقديم شهادة مشتركة، من المُهمّ فَهم أعمق للانفتاحِ المجمعيِّ على "الاشتراك في القدسيِّات" لأسرار التّوبة والإفخارستيِّا ومسحة المرضى[13]، الَّذي هو ليس ممكنا فقط وإنَّما يُمكن التّوصية به في بعض الظَّروف المؤاتية، بحسب قواعد محدّدة وبعد موافقة السّلطات الكنسيِّة[14]. فحالات الزّواج بين مؤمنين كاثوليك وأرثوذكس عديدة وتتطلَّب اهتماماً مسكونيَّاً خاصَّاً[15]. أشجّع الأساقفةَ والمطارنةَ على تطبيق الاتّفاقات الرَّعَويّة، ضمن حدود الممكن، وحيث توجد هذه الاتّفاقات، بغية تعزيز رَعَويّة مسكونيّة مشتركة بشكلٍ تدريجيّ.
17. إن الوحدة المسكونيّة لا تعني التّطابقَ بين التّقاليد والاحتفالات. إنِّي لواثقٌ، بعونِ الله، أنَّه، كخطوة أولى، يمكننا التّوصُّل إلى اتِّفاقاتٍ حول ترجمة مشتركة للصلاة الرَّبانيّة، الأبانا، باللُّغات الدَّارجة في المنطقة، حيث تقتضي الضَّرورة ذلك[16]. فمن خلال الصَّلاة مَعَاً، بالكلماتِ نفسِّها، سيعترف المسيحيُّون بتأصِّلهم المشترك في الإيمان الرَّسوليِّ الواحد الَّذي يرتكز إليه البحث عن الوحدة الكاملة. فضلا عن ذلك، فإن التّعمّق المشترك في دراسة الآباء الشَّرقيِّين واللاتين وكذلك التّقاليد الرُّوحيِّة الخاصَّة بكلِّ طرف، سيساعد على التّطبيق الصَّحيح للقواعد القانونيّة الخاصَّة بهذه المادّة.
18. أدعو كاثوليكَ الشَّرقِ الأوسطِ إلى تدعيمِ عَلاقاتِهم مع مؤمني مختلف الجماعات الكنسيِّة الحاضرة في المنطقة. يمكن إطلاقُ مبادراتٍ مشتركة مختلفة. فالقراءة الجماعيِّة للكتاب المُقَدَّس ونشره، على سبيل المثال، قادران على فتح الطّريق في هذا الاتجاه. وإلى ذلك، إمكانيةُ تطوير أو تعميق مبادرات تعاون خصبة على صعيد النَّشاطات الخيريِّة، وتعزيز قيم الحياة البشريِّة والعدالة والسَّلام. هذه الأمورُ كلُّها ستساهم في بلوغَ معرفة متبادلة أكبر، وخلقِ مناخ من التّقدير، وهما شرطان أساسيَّان لتَنمية الأخوّة.
الحوار بين الأديان
19. إنَّ طبيعةَ الكنيسة ودعوتَها الكونيِّة تتطلَّبان منها إقامة حوار مع أعضاء باقي الدّيانات الأخرى. يرتكز هذا الحوار في الشَّرق الأوسط إلى عَلاقاتٍ روحيِّةٍ وتاريخيِّةٍ تجمع المسيحيِّين مع اليهود والمسلمين. هذا الحوار، الَّذي لا تفرضه بالأساس اعتبارات براغماتيِّا ذات طابع سياسيّ أو اجتماعيّ، بل يستند، قبل كلّ شيء، إلى أُسسٍ لاهوتيِّة مرتبطة بالإيمان. تلك الأسسُ الَّتي تجد مصدرَها في الكتاب المُقَدَّس، ويحدّدها بوضوح دستورُ الكنيسة العقائديّ نور الأمم والإعلان بشأن عَلاقات الكنيسة مع الدّيانات غير المسيحية، في عصرنا[17]. اليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بإله واحد، خالق جميع البشر. فليُعِدِ اليهود والمسيحيون والمسلمون اكتشاف إحدى الرّغبات الإلهيّة، أي الرّغبة في وحدة وتناغم العائلة البشريِّة. وليَكتشفِ اليهودُ والمسيحيّون والمسلمون في المؤمن الآخر أخا يُحترم ويُحَبّ كي يقدّموا، كلٌّ على أرضيّته أولاً، شهادةً جميلةً للصفاء والمودّة بين أبناء إبراهيم. فلتكن معرفة إله واحد بالنِّسبة للمؤمن الحقيقي– إذا تمَّ عَيشُها بقلب طاهر- دافعاً قوياً للسَّلام بالمنطقة وللتعايش المشترك، القائم على الاحترام بين أبنائها، وليس أداةً تُستغلّ في إشعال الصّراعات المُتَكَرّرة، وغير المبرَّرة.
20. العَلاقات بين المسيحيِّين واليهود مُتَشعّبة وعميقة. إنَّها ترتكز إلى الإرث الرُّوحيّ المشترك والثّمين. هناك بالطّبع الإيمان بإله واحد، الخالق، الَّذي كشف عن ذاته وارتبط مع الإنسان إلى الأبد، والَّذي بدافع محبّته يريد له الفداء. وهناك أيضاً الكتاب المُقَدَّس، وجزء كبير منه مشترك بين اليهود والمسيحيِّين. إنَّه كلمةُ الله بالنِّسبة للطرفين. إنَّ الرُّجوع المشترك إلى الكتاب المُقَدَّس يُقرّبُنا من بعضنا بعضاً. فضلا عن ذلك فإنَّ يسوع، ابنَ الشَّعب المختار، ولد وعاش ومات يهوديَّا (راجع روم 9، 4-5). والدته مريمُ تدعونا هي أيضاً إلى إعادة اكتشاف الجذور اليهوديّة للمسيحيّة. هذه الرّوابط الوثيقةُ تُشَكِّل إرثاً واحداً يعتزّ به جميع المسيحيِّين وهم مدينون به للشعب المختار. وإذ سمحت يهوديّة "النَّاصريّ" للمسيحيِّين بأن يتذوَّقوا بغبطةٍ عالمَ العهد وأدخلتهم بحزم في إيمان الشَّعب المختار، من خلال اتِّحادهم معه، فإنَّ شخص يسوع نفسه وهُويَّته العميقة، هما أيضاً سبب انفصالهما، لأنَّ المسيحيِّين عَرِفوا فيه المُخَلِّص (المسيِّا)، ابن الله.
21. مِنَ الأهمّيِّة بمكان أن يعيَ المسيحيِّون، بصورة أفضل، عمقَ سرّ التّجسّد ليحبّوا الله من كلِّ قلبِهم، ومن كلِّ نفسهم وكلِّ قوَّتِهم (راجع تث 6، 5). إنَّ المسيح، ابن الله، تَجَسَّد وسط شعب، وسط تقليد إيمانيّ، وسط ثقافة لا يمكن لمعرفتها إلا إثراء فهم الإيمان المسيحيّ. المسيحيّون أغنوا هذه المعرفةَ من خلال ما فعَله المسيحُ نفسُّه بواسطةِ موته وقيامته من بين الأموات (راجع لو 24، 26). ولكن عليهم أن يبقوا على الدّوام مُتيقِّظين لجذورهم وثابتين فيها، لأنَّ الفرع يقوم على الشَّجرة القديمة (راجع روم 11، 17-18) ويحتاج إلى العُصارة الآتية من الجذور.
22. تَأثَّرت العَلاقات بين الجماعتين المؤمنتين عبر التّاريخ بالانفعالات البشريِّة. فكانت حالات سوء التّفاهم وانعدام الثّقة عديدة ومتكرِّرة. إنَّ اضطهادات الماضي المشينة والعنيفة، لا يمكن تبريرُها وتَستحق أشد الإدانة! مع ذلك، وعلى الرّغم من هذه الأوضاع الحزينة، فإنَّ الطّرفين قد قَاما، على مرِّ العصور، بخطواتٍ مثمرةٍ أدّتْ إلى ولادة وتَفتّح براعم حضارة وثقافة، تُسمَّى عامَّة، "يهوديّة-مسيحيّة". وكأنَّ هَذين العالمين، اللّذين كانا مُختَلِفين عن بعضهما ومتضاربين لأسباب عديدة، قد قرَّرا أن يتَّحدا ليقدّما للبشريِّة "سبيكة" نبيلة. هذا الرَّباط الَّذي يوحّد بين اليهود والمسيحيِّين، ويفصلهما معا، ينبغي أن يفتح آفاقَهما على مسؤوليّة جديدة، مسؤوليّة كلّ جانب تجاه الطَّرف الآخر ومع الطَّرف الآخر[18]. لأنَّ الشَّعبين نالا البركة نفسَها والوعودَ بالحياة الأبديِّة الَّتي تسمح بالتّقدم بثقة صوب الأُخوّة.
23. بأمانة لتعاليم المجمع الفاتيكاني الثّاني تنظر الكنيسة الكاثوليكيّة، إلى المسلمين بأعين التّقدير، أولئك الَّذين يعبدون الله خصوصا بواسطة الصَّلاة والزّكاة والصّيام، يكرِّمُون يسوع كنبيٍّ، دون الإقرار بألوهيِّته، ويُكرِّمون مريمَ، أمَّه العذراء. نعلم أن اللّقاء بين الإسلام والمسيحيّة اتَّخذ غالباً شكل الجدل العقائديِّ. وقد شَكَلَّت هذه الاختلافاتُ العقائديّة وللأسف ذريعةً لدى هذا الطَّرف أو ذاك ليُبَّرِرَ، باسم الدّين، ممارساتِ التّعصب والتّمييز والتّهميش وحتَّى الاضطهاد[19].
24. على الرّغم من ذلك، يتقاسم المسيحيُّون مع المسلمين الحياةَ اليوميِّةَ نفسَها في الشَّرق الأوسط، حيث وجودهم ليس عرضيَّاً أو حديثاً إنما تاريخيّ. فالمسيحيون، لكونهم جزءاً لا يتجزأ من الشَّرق الأوسط، أقاموا على مرِّ العصور نوعاً من العَلاقة مع محيطِهم يُشكِّل مثالاً يُحتذى به. وتفاعلوا مع تَديّن المسلمين وواصلوا عيشَ حياتهم وتعزيز قيم الإنجيل في ثقافة بيئتهم، حسب إمكاناتهم وضمن حدود الممكن. ونتجت عن ذلك حياة تكافليِّة مُتَميِّزة. ولهذا السّبب، من المنصف أن نُقرَّ بإسهام اليهود والمسيحيِّين والمسلمين في نشأة ثقافة غنيّة في الشَّرق الأوسط[20]
25. من واجب وحَقِّ الكاثوليك في الشَّرق الأوسط، ومعظمهم من سكَّان البلاد الأصليِّين، المشاركةُ التَّامّة في حياة الوطن من خلال العمل على بناء أوطانهم. ينبغي أن يتمتَّعوا بمواطنة كاملة، لا أن يُعاملوا كمواطنين أو مؤمنين من درجة ثانية. وكما كانت الحال في الماضي، إذ كانوا من رُوَّادِ النَّهضة العربيِّة، وكانوا جزءاً لا يَتَجزَّأ من الحياةِ الثَّقافيِّة والاقتصاديِّة والعلميِّة لمختلف حضارات المنطقة، ها هم يرغبون، اليومَ وعلى الدّوام، في مقاسمة خبراتهم مع المسلمين مقدِّمين إسهاماتهم الخاصَّة. إنَّ المسيحيِّين، بفضل يسوع، هم حسَّاسون تجاه كرامة الشَّخص البشريّ والحُرِّيّة الدِّينيِّة النَّاجمة عنها. فقد قام المسيحيُّون- بدافع حبّهم لله والبشريّة، وممجّدين هكذا طَبيعةَ المسيح المزدوجة، وراغبين في الحياة الأبديّة- ببناء المدارس والمستشفيات وشتى أنواع المعاهد، حيث يُستقبل الجميع بدون أيّ تمييز (راجع مت 25، 31+). لهذه الأسباب بالذّات، يولي المسيحيون حقوقَ الشخص البشري الأساسيَّةَ اهتماماً خاصاً. إنَّ التّأكيد على أن هذه الحقوق ليست إلا حقوقا مسيحيّة للإنسان، هو تأكيد غير صحيح. إنَّها ببساطة حقوق تقتضيها كرامة كلّ كائن بشريِّ وكلّ مواطن مهما كان أصله أو قناعاته الدّينيّة أو خياراته السّياسيّة.
26. الحُرِّيّة الدِّينيِّة هي تاج كلّ الحُرِّيَّات. إنَّها حَقٌّ مُقَدَّسٌ وغير قابل للتفاوض. إنَّها تَشمل في الوقت ذاته، الصّعيدين الفرديّ والجماعيّ، حُرِّيّة اتباع الضَّمير في المسائل الدِّينيِّة، وكذلك حُرِّيّة العبادة. وتشمل حريّة اختيار الدّيانة الَّتي يرتئي الشَّخص أنَّها صحيحة والتّعبير علانية عن هذا المعتقد[21]. يجب أن يُسمح للإنسان بممارسة ديانته والتّعبير عن رموزه بحريّة، دون أن يعرض حياته وحريته الشَّخصيّة للخطر. تَستَمدُّ الحُرِّيّة الدِّينيّة جُذورَها من كرامةِ الشَّخص؛ إنَّها تضمن الحُرِّيّة الأخلاقيِّة وتنمّي الاحترام المتبادل. إنَّ اليهود الَّذين تعرضوا طويلا لأعمال عدائيّة، غالبا ما كانت قاتلة، لا يسعهم أن ينسوا فوائد الحُرِّيّة الدّينيّة. أما المسلمون فيتقاسمون من جانبِهم مع المسيحيِّين القناعة بأنَّ الإكراه فيما يتعلَّق بالدّين غير مقبول، خصوصاً إذا تَمَّ بواسطةِ العنف. إنَّ هذا الإكراه، الَّذي قد يتخذ أشكالا مُتَعدِّدة وخطيرة على الأصعدة الشَّخصيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والإداريّة والسّياسيّة، يتناقض مع مشيئةِ الله. وهو يُستخدم أداةً لتحقيق مآربَ سياسيّة-دينيّة، أداةً للتمييز والعنف الَّذي قد يؤدِّي للموت. إنَّ اللهَ يريد الحياةَ لا الموت. إنَّه يُحَرِّم حتَّى قتل القاتل (راجع تك 4، 15-16؛ 9، 5-6؛ خر 20، 13).
27. التّسامح الدّيني موجود في العديد من الدّول، لكنَّه لا يؤدِّي إلى نتيجة ملموسة لأنَّه يبقى محدوداً في نطاق تطبيقه. من الأَهَميِّة بمكان الانتقالُ من التّسامح الدِّينيِّ إلى الحُرِّيِّة الدِّينيِّة. هذا الانتقال لن يَتَسَبَّب في النِّسْبَويَّة، كما يؤكِّد بعضُّهم. فهذه الخطوة الواجبة ليست تصدَّعاً في المعتقد، لكنها إعادةُ نظرٍ في العَلاقة الأنتروبولوجيَّة مع الدّين والله. ليست تعدِّياً على "الحقائق المؤسِّسة" للمُعتقد، لأنَّه، على الرّغم من الاختلافات البشريّة والدّينيّة، ثمَّة بَصِيصٌ مِنَ الحقيقةِ يُنير جميع البشر[22]. نعلم جيِّداً أنَّ الحقيقةَ خارجَ الله غيرُ موجودةٍ "بحدِّ ذاتها" لأنَّها تصبح صَنَماً. فالحقيقة لا يمكن لها أن تنمو إلا في العَلَاقةِ مع الآخر، الَّذي يقودنا إلى الآخر (الله). والَّذي بدوره أن يُعَرِّفَنا على غنى غَيِّرِيَّتِيه من خلال أخوتي البشر وفيهم. لذا ليس جائزاً التَّأكيدُ بشيء قطعي: "أنا أملك الحقيقة". ليست الحقيقة ملكاً لأحد، إنَّها دائماً عطيّة تدعونا لمسيرةِ محاكاةٍ للحقيقة بشكل أعمق دائماً. يمكن معرفةُ الحقيقة وعيشُها فقط في الحرية، لهذا لا يمكن الإجبار على الحقيقة، إنَّما في لقاء المحبِّة فقط يُمكن سبر أغوارِها.
28. أنظار العالمِ كلّه موجَّهة صوب الشَّرق الأوسط الَّذي يبحث عن طريقه. فلتُظهر هذه المنطقة أن العيش مَعَاً ليس أمراً مثاليَّاً، وأنَّ انعدام الثّقة والأحكام المسبقة ليست أمراً حتميِّاً. فباستطاعة الأديان أن تلتقي مَعَاً لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنمية كلّ شخص وفي بناء المجتمع. يعيشُ المسيحيون الشَّرق أوسطيون منذ قرون الحوار الإسلاميِّ–المسيحيِّ، إنه بالنِّسبة لهم حوار عبر الحياة اليوميِّة ومن خلالها. ويدركون غنى الحوار وحدوده. يعيشون أيضاً الحوار اليهوديِّ-المسيحيِّ الأكثر حداثة. ويوجد منذ زمن بعيد حوار ثنائيّ أو ثلاثيّ الأطراف بين "مُثَقّفين أو لاهوتيِّين" يهود ومسيحيِّين ومسلمين. إنَّه مُختبر القاءات والبحوث المختلفة، لا بُدَّ من تعزيزه. تساهم في هذا المجال جميع المعاهد أو المراكز الكاثوليكيّة المختلفة- المعنيّة بالفلسفة واللاهوت وغيرهما - والَّتي أبصرت النُّور في الشَّرق الأوسط منذ زمن بعيد وتعمل أحيانا في ظروف صعبة. أوجِّه لهم تحيِّةً وديّة وأشجّعهم على مواصلة عمل السَّلام هذا، مدركين ضرورة دعم كلّ ما من شأنه التِّصدِّي للجهل وتَنمية المعرفة. الاتِّحاد المفرح بين حوار الحياة اليوميّة وحوار "المُثَقّفين أو اللاهوتيِّين" سيساهم حتما، بشكلٍ تدريجيٍّ وبمعونة الله، في تحسين التّعايش اليهوديّ-المسيحيّ، واليهوديّ-الإسلاميّ، والإسلاميّ-المسيحيّ. هذه هي أمينتي والنِّيّة الَّتي أصلّي من أجلها.
واقعان جديدان
29. يختبر الشَّرق الأوسط، كباقي أنحاء العالم، واقعين متضاربين: العَلمانيّة، بأشكالها الَّتي تصل أحيانا للتطرّف، والأصوليّة العنيفة، الَّتي تَدّعي قيامها على أصول دينيّة. وبكثير من الارتياب، ينظر بعضُ المسؤولين السّياسيِّين والدّينيِّين في الشَّرق الأوسط، من كافة الجماعات، إلى العَلمانيّة باعتبار أنَّها تعني الإلحاد أو اللأخلاقيِّة. وصحيح أنَّ العَلمانيِّة قد تصل أحيانا، وبطريقة مختزلة، إلى تأكيد أن الدّينَ ينحصر فقط في النُّطاق الفرديّ، وكأنه ليس إلا عبادة فرديِّة وبيتيِّة بعيدة عن الحياة وعن الأخلاق وعن العَلاقات مع الآخرين. وهذا الشَّكل المتطرّف والإيدولوجيّ، يحوّل العَلمانيِّة، إلى تَعلمُن يمنع المواطن من التّعبير العام عن دينه، مدِّعيّاً أن الدّولة وحدَها هي الَّتي تستطيعُ تشريع شكلها العام. هذه النَّظريات قديمة العهد، ولم تعد فقط غربيّة ولا يمكن الخلط بينها وبين المسيحيِّة. العَلمانيِّة الإيجابيِّة، عكس ذلك، تعني تَحرير المعتقد من ثِقَلَ السّياسة، وإغناء السّياسة بإسهامات المعتقد، بحفظ المسافة اللازمة، والتّمييز الواضح، والتّعاون الَّذي لا غنى عنه، لكليهما. لا يمكن لأيّ مجتمع أن يطوّر نفسه بطريقةٍ صحّيِّةٍ بدون تأكيد الاحترام المتبادل بين السّياسة والدّين ورفض السّقوط في التّجربة المستمرّة للخلط أو للتحارب. العلاقة المُثلى تُبني، قبل كلّ شيء، على طبيعة الإنسان– أي على أنتروبولوجيا صحيحة– وعلى الاحترام المُطلق لحقوقه الثّابتة. إنَّ إدراك هذه العَلاقة المُثلى يَسمح بفهم وجود نوع من الوحدة والتّمايز، الَّذي يجب أن يُحدّد ملامح العَلاقة بين ما هو روحيّ (الدّين)، وما هو زمنيّ (السّياسة)، لأنَّ كُلا منهما مدعوٌ، حتّى داخل التّميِّيز الواجب، إلى التّعاون بانسجام للخير العام. إنَّ العَلمانيِّة الإيجابيِّة هكذا تُؤمِّن للسياسة العمل بدون استغلال الدّين، وللدين أن يحيا حُرّاً من إثقال نفسه بالسّياسة، الَّتي تُمليها الفائدة، والَّتي أحيانا لا تتّفق، بل وقد تتعارض، مع المعتقد الدّيني. ولهذا فإنَّ العَلمانيِّة الإيجابيِّة (وحدة وتمايز) وضروريِّة، بل ولا غنى عنها، لكليهما. إنَّ التّحدّي القائم في العلاقة بين السّياسة والدّين يُمكن مواجهته بالصَّبر والشَّجاعة، وعن طريق تربية إنسانيّة ودينيّة مناسبة. يجب التّذكِيرُ دائماً بمكانةِ الله في الحياةِ الشَّخصيةِ والعائليِّةِ والاجتماعيِّةِ، وأيضاً بالمكانِ المناسبِ للإنسانِ في تصميمِ الله. وللوصول لهذه الغاية يجب الصَّلاةُ أكثر.
30. إنَّ الغموضَ الَّذي يكتنفُ الأوضاعَ الاقتصاديِّةَ والسّياسيِّةَ، ومهارةَ التّأثيرِ لدى بعضهم والفهم النَّاقص للدين، هي من بين العوامل الَّتي تشكل تُربة خصبة للتطرّف الدّينيّ. هذا التّطرّف يُصيب كلّ الجماعات الدّينيِّة ويرفض التّعايش المدنيّ معاً. وغالبا ما يسعى للسلطة، بواسطة العنف أحيانا، على ضَمير كلّ فرد وعلى الدّين من أجل دوافع سياسيّة. أُطلق نداءً ملحّاً لجميع المسؤولين الدّينيِّين اليهود والمسيحيِّين والمسلمين في المنطقة كيما يسعوا، من خلال مثالِهم وتعاليمِهم، إلى فعل كلّ ما هو ممكن، بهدف استئصال هذا التّهديد الَّذي يستهدف، بلا تمييز وبشكل قاتل، مؤمني جميع الدّيانات. إنَّ "استخدام كلمات الوحي، الكتابات المُقَدَّسة أو اسم الله لتبرير مصالحنا أو سياساتنا، الَّتي يمكن مراعاتُها بسهولة، أو لتبرير لجوئنا إلى العنف هو جريمة في غاية الخطورة"[23].
المهاجرون
31. إنَّ الواقع الشَّرق أوسطيّ غنيّ بتنوّعه، لكنَّه، في كثير من الأحيان، تقييدي وحتّى عنيف. وهو يمسّ جميع سكَّان المنطقة ويشمل كلّ أوجه حياتهم. يشعر المسيحيون بنوع خاصّ، ولكونهم يجدون أنفسهم غالبا في موقف دقيق، بشيء من الإحباط وفقدان بعض الأمل، بسبب النَّتائج السّلبيّة لتلك الصّراعات ولحالات الغموض. ويشعرون غالبا بالمهانة. ويعلمون، بفعل خبرتهم، أنّهم ضحايا محتملة لأيّ اضطرابات قد تقع. فبعد أن شاركوا بطريقة فاعلة، وعلى مرِّ العصور، في بناء أوطانهم وساهموا في نشأة هُويّتهم وفي ازدهارهم، يجد مسيحيّون كثيرون أنفسَّهم أمام ضرورة اختيار آفاق مؤاتيةً، واحات سَلام، حيث يمكنهم العيش مع أسرهم بكرامة وأمن، وفضاءات من الحُرِّيّة ليعبّروا فيها عن إيمانهم بعيدا عن القيود المختلفة[24]. إنَّه الخيار المأسويّ لما يحمله من نتائجَ خطيرةً على الأفراد والعائلات والكنائس. ويقلّص عدد السّكّان، ويساهم في تنامي الفقر البشريّ والثّقافيّ والدّينيّ في الشَّرق الأوسط. فالشَّرق الأوسط بدون- أو حتّى بعدد ضئيل من المسيحيِّين- ليس الشَّرق الأوسط، لأنَّ المسيحيِّين يشاركون مع باقي المؤمنين في صُنع الهُويّة الخاصَّة للمنطقة. فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله. من الأهمّيِّة إذا أن يَفهم القادة السّياسيّون والمسؤولون الدّينيّون هذه الحقيقة، ويعملوا على تفادي السّياسات والاستراتيجيّات السّاعية إلى تفضيل جماعة بعينها، لقيام شرق أوسط أُحاديّ اللّون، لا يعكس بأيِّ شيء واقعه الإنسانيّ والتّاريخيّ الغنيّ.
32. ينظر رعاةُ الكنائس الشَّرقيّة الكاثوليكيّة ذات الحَقّ الخاصّ بقلق وألم إلى تقلّص أعدادُ مؤمنيهم في الأراضي البطريركيّة، بحسب التّقليد، ويجدون أنفسهم مجبرين، منذ فترة ليست ببعيدة، على تنمية رَعَويّة المهجر[25]. إنِّي لواثقٌ بأنَّهم يبذلون ما في وسعهم لحثِّ مؤمنيهم على الرّجاء، وعلى البقاء في وطنهم، وعلى عدم بيع أملاكهم[26]. أشجّعهم على أن يحتضنوا بعطف كهنتهم ومؤمنيهم في بلاد المهجر، داعين إيَّاهم لإبقاء الاتّصال الوثيق والدّائم مع عائلاتهم وكنائسهم، والحفاظ، قبل كلّ شيء، بأمانة على إيمانهم بالله، بفضل هُويّتهم الدّينيِّة المبنيّة على التّقاليد الرّوحيّة العريقة[27]. فمن خلال حفاظهم على انتمائهم لله ولكنائسهم، وعلى عيش المحبِّة العميقة مع إخوانهم وأخواتهم اللاتين، هم بذلك سيحملون ثراءً كبيراً للكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة. إضافة إلى هذا، أُحثُّ رعاةَ المقاطعات الكنسيّة الَّتي تستقبل الكاثوليك الشَّرقيِّين، على احتضانهم بمحبّة وتقدير كأخوة، وعلى تعزيز روابط الشَّرِكة بين المهاجرين وكنائسِهم الأصليّة، وعلى إتاحة الفرصة لهم ليقيموا الاحتفالات حسب تقاليدهم الخاصَّة، وأن يمارسوا الأنشطةِ الكنسيِّة والرَّعَويّة حيث تسمح الظُّروف بذلك[28].
33. إنَّ الكنيسةَ اللاتينيّة الحاضرة في الشَّرق الأوسط، وبرغم معاناتها من هجرة مؤمنيها العديدين، تختبر وضعا آخر وتجد نفسها في مواجهة مع تحدّيِّات رَعَويِّة عديدة وجديدة. على رعاتها، لا سيَّما في الدّول ذات الاقتصادات القويّة في المنطقة، إدارة التّدفق الجماعي للعمال القادمين من أفريقيا، والشَّرق الأقصى وشبه القارة الهندية. يأتون رجالا ونساء بمفردهم أو عائلات بأكملها ويعانون حالة مزدوجة من انعدام الاستقرار. من حيث إنَّهم غرباء في الدّول الَّتي يعملون فيها، كما يواجهون غالبا أوضاعا من التّفرقة والظُّلم. إنَّ الغريب هو محطّ اهتمام الله ويستحقّ بالتّالي الاحترام، واستضافته ستؤخذ في الحسبان يوم الحساب الأخير (راجع مت 25، 35 و43)[29].
34. إنَّ هؤلاءِ الأشخاصَ معرّضون للاستغلال، بدون حَقّ الدّفاع عن أنفسِهم، وبعقود عمل نوعا ما مؤقّته أو قانونيّة، وهم أحيانا ضحايا خرق قوانين محلّيّة واتّفاقات دوليّة. زِد إلى ذلك، أنَّهم يعانون ضغوطاً قويّة وتقييداً خطيراً للحُرِّيّة الدّينيّة. إنَّ مهمَّة رعاتهم ضروريّة ودقيقة. أشجّع كلّ المؤمنين الكاثوليك وجميع الكهنة، لأيّ كنيسة انتموا، على الشَّرِكة الصَّادقة والتّعاون الرَّعَويّ مع الأسقف المحلّي، وبدوره على تفهّم أبويّ إزاء المؤمنين الشَّرقيِّين. فمن خلال التّعاون سوية، ولا سيَّما التّكلُّم بصوت واحد، والَّذي، وفي هذا الوضع الخاصّ، سيمكن الجميع من أن يعيشوا ويحتفلوا بإيمانهم، مغتنين بتنوّع التّقاليد الرُّوحيّة، من خلال البقاء على اتّصال مع الجماعات المسيحيّة في المنشأ. وأدعو أيضاً حكامَ البلدان الَّتي تستقبلُ هذه الشَّعوبَ الجديدة لاحترام حقوقها والدّفاع عنها، وتمكينها من التّعبير الحُرِّ عن إيمانها من خلال تعزيز الحُرِّيّة الدّينيّة وبناء أماكن العبادة. فالحُرِّيّة الدّينيّة "يمكن أن تصبح موضوع حوار بين المسيحيِّين والمسلمين، وهو حوار أكّد آباء السّينودس على ضرورته الملحّة وفائدته"[30].
35. وبينما يُقرّر كاثوليك من أبناء الشَّرق الأوسط، إمَّا بسبب الحاجة والتّعب أو اليأس، اتّخاذ الخيار المأسَويّ بترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة، فإنَّ آخرين، وبالعكس، ممتلئين بالرّجاء، يتمسّكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم. إنّي أشجّعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان. هناك كاثوليك آخرون- من خلال الخيار المؤلم نفسه لمسيحيي الشَّرق الأوسط الَّذين يهاجرون- هربا من غياب الاستقرار والأمل في بناء مستقبل أفضل، يختارون بلدان المنطقة ليعملوا فيها ويعيشوا.
36. وبصفتي راعي الكنيسة الجامعة، أتوجّه إلى جميع المؤمنين الكاثوليك في المنطقة، لأبنائها وللقادمين إليها- وقد تقاربت نسبتهم العددية في السّنوات الأخيرة- لأن هناك شعبا واحدا لله، وإيمانا واحدا للمؤمنين! اسعَوا للعيش في اتّحاد وشَرِكة أخويّة مع بعضكم بعضاً في المحبّة والاحترام المتبادلين للشهادة، بطريقة قابلة للتصديق، لإيمانكم بموت المسيح وقيامته! سيسمع الله صلاتكم وسيبارك سيرتكم وسيهبكم روحه لمواجهة التّعب اليوميّ. لأنَّه، "حَيثُ يكونُ رُوحُ الرَّبِّ، تكونُ الحُرِّيَّةُ" (2 كو3، 17). وأتَوجّه إليكم، وبطيبة خاطر، بالكلمات ذاتها الَّتي كتبها القدِّيسُ بطرس لمؤمنين اختبروا أوضاعا مماثلة "فمَنْ يُسيءُ إلَيكُم إذا كُنتُم حَريصينَ على الخَيرِ؟ (...) لا تَخافوا مِنْ أحدٍ ولا تَضطَرِبوا، بَل قَدِّسوا المَسيحَ في قُلوبِكُم وكَرِّموهُ رَبُّاً، وكونوا في كُلِّ حينٍ مُستَعِدِّينَ لِلرَّدِّ على كُلِّ مَنْ يَطلُبُ مِنكُم دَليلاً على الرَّجاءِ الَّذي فيكُم". (1 بط3، 13 - 15).
الفصل الثّاني
"وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً" (أع 4، 32)
37. ظهرت حياةُ الجماعةِ المسيحيِّةِ النَّاشئةِ وتأكَّدت عبرِ صفات غير مَادِّيِّة، تَتَجلَّى في الشَّرِكة الكنسيّة: قلب واحد وروح واحدة، مترجمةً هكذا معنى الشهادة العميق. إنَّها انعكاس لحياةٍ داخليِّةٍ شخصيِّةٍ وجماعيِّة. فلتستطِع كلُّ كنِسةٍ خاصَّة، من خلال الانصهارِ الدَّاخليِّ، وبفعلِ النّعمةِ الإلهيِّة، أن تكتشفَ مجدَّداً غنى جماعةِ المؤمنين الأولى، المجبولة بإيمان تنعشه المحبِّة، إنَّ هذا ما يميّز تلاميذ المسيح في أعين البشر (راجع يو 13، 35). تعطي الشَّرِكةُ الشهادةَ قوةً وتناغماً وتتطلَّب توبةً دائمة. في هذا تكمل الشَّرِكة والَّتي بدورها توطِّد الشَّهادة. "فلا تُوجد شهادة بدون شَرِكة: إنَّ الشَّهادةَ الوحيدةَ والحقيقيِّةَ هي حياةُ الشَّرِكة"[31]. الشَّرِكةُ عطيِّةٌ على الجميع أن يتقبَّلوها تقبلاً كاملاً، إنَّها واقعٌ ينبغي بناؤه بلا انقطاع. وبهذا المعنى، أدعو جميعَ أعضاءِ الكنائسِ الموجودة في الشَّرق الأوسط، كلَّ واحدٍ حسب دعوتِه الخاصَّة، لإنعاش الشَّرِكة، بتواضعٍ وفي الصَّلاة، كي تَتَحقَّق الوحدةُ الَّتي صَلَّى يسوعُ من أجلِها (راجع يو17، 21).
38. إنَّ مفهوم الكنيسةِ الـ"كاثوليكيّة" يتأمَّل الشَّرِكةَ بين العّام والخاصّ. لأنه توجد عَلاقةٌ "داخليّة متبادلة" بين الكنيسةِ الجامعة والكنائسِ الخاصَّة، عَلاقةٌ تُحّدِّد وتُحقِّق جامعيِّة الكنيسة. إنَّ وجودَ "الكلّ في الجزء" يضع الجزء في انجذاب نحو العالميِّة، انجذابٍ يَظهر، من جهة أولى، في النَّفحة التّبشيريِّة لكلٍّ من الكنائس، ومن جهة أخرى، في التّقدير الصَّادقِ لصلاح "باقي الأجزاء"، والَّذي يتضمَّن العمل بتناغم وتعاون معها. إنَّ الكنيسة الجامعة هي واقع سابق للكنائس الخاصَّة الَّتي تولد في الكنيسة الجامعة ومنها[32]. هذه الحقيقة تعكس بأمانة العقيدة الكاثوليكيّة لا سيَّما عقيدة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني[33]. وتقود إلى فهم البعد "الهيراركي" للشَّرِكة الكنسيّة، وتتيح للتنوّع الغنيّ والمشروع للكنائس الخاصَّة أن يجد التّرابط دوما في الوحدة، حيث المكان الَّذي تصبح فيه العطايا الخاصَّة مصدرَ ثراءٍ حقيقياً لجامعيِّة الكنيسة. فليكن إذا الوعي المتجدد والمعاش لهذه النِّقاط الجوهريّة للإكليزيولوجيَّا دافعا لإعادة اكتشاف خاصّيِّة وغنى الهُويّة "الكاثوليكيِّة" في أرض الشَّرق.
البطاركة :
39. "آباءُ ورؤساء" الكنائس ذات الحَقّ الخاصّ، البطاركة هم العلاماتُ المنظورةُ المرجعيّة وحُرَّاس الشَّرِكة اليقظون. ومن خلال هُويتهم ورسالتهم الخاصَّتين، إنَّهم رجال شَرِكة وساهرون على القطيع بحسب الله (راجع 1 بط5، 1-4)، وخدَّام الوحدة الكنسيِّة. إنَّهم يمارسون خدمة، تعمل بواسطة المحبّة المعاشة حَقّاً، على كلّ الأصعدة: بين البطاركةِ أنفسهم، وبين كلِّ بطريركٍ والأساقفة والكهنةِ والأشخاصِ المكرَّسين والمؤمنين العَلمانيِّين الَّذين تحت سلطته.
40. يجعل البطاركةُ- الَّذين تَتَأصَّل شَرِكتهم التَّامّة مع أسقف روما في الشَّرِكة الكنسيِّة الَّتي التَّمسوها من الحبر الأعظم ونالوها، بَعد انتخابهم القانونيّ- جامعيّةَ الكنيسة ووحدتَها ملموستين عبر هذا الرّباط الخاصّ[34]. فليشمل اهتمامهم كلّ تلميذ ليسوع المسيح يعيش في الأراضي البطريركيّة. ولكونهم علامة شَرِكة للشهادة، عليهم أن يعزّزوا الوحدة والتّضامن داخل مجلس بطاركة الشَّرق الكاثوليك ومختلف السّينودسات البطريركيّة، من خلال تفضيلهم الدّائم للتشاور حول المسائل ذات الأهميّة الكبرى للكنيسة، من أجل عمل جماعيّ ومُتّحد. ليسع البطريرك، من أجل مصداقيّة شهادته، إلى العدالةِ والتّقوى والإيمانِ والمحبّةِ والصَّبر والوداعة (راجع 1 تيم6، 11)، من خلالِ حياةٍ متواضعةٍ، على مثال المسيح الَّذي افتقر لنغتنيَّ بفقره (راجع 2 كو8، 9) وليسهرْ أيضاً على تعزيزِ تضامنٍ حقيقيٍّ بين المقاطعات الكنسيَّة، من خلال إدارة رشيدة للعاملين وللخيرات الكَنسيِّة. وهذا من ضمن واجبه[35]. واقتداءً بالمسيح، الَّذي سار في جميع المدن والقرى لإتمام رسالته (راجع مت 9، 35)، ليَقُمِ البطريركُ بغَيرةٍ بالزّيارة الرَّعَويّة لمقاطعاته الكنسيِّة[36] وليفعل ذلك، لا فقط لممارسة حَقّه وواجبه في السّهر، إنَّما ليَشهد أيضاً عمليَّاً على محبّتهِ الأخويِّة والأبويِّة للأساقفة والكهنة والمؤمنين العَلمانيِّين، لا سيَّما الأشخاص الفقراء والمرضى والمهمَّشين والَّذين يتألَّمون روحياً.
الأساقفة :
41. بفضل
_________________