قبل نحو 104 سنوات وتحديدا في عام 1907 افتتح الدمشقي عبد المجيد الفوال من عائلة مارديني والملقب «أبو رياح» مطعمه في سوق الآرماني أو ما يطلق عليه السوق العتيق والذي انطلق بجانب ساحة المرجة أول وأشهر ميادين دمشق في بداية القرن العشرين المنصرم، وعبد المجيد مارديني الذي لقب فيما بعد بالفوّال وسار اللقب على أولاده وأحفاده فيما بعد أراد من مطعمه الذي اعتبر من أوائل المطاعم الشعبية الدمشقية أن يكون متفردا بميزتين ما زالتا موجودتين حتى يومنا هذا يحافظ عليهما الأبناء والأحفاد من ورثة مارديني: الأولى هي وبخلاف كل مطاعم دمشق الشعبية والراقية أنه خصص مطعمه لبيع الفول المعد بطريقتين تلقيان إقبالا كبيرا من الدمشقيين وهما تحضير الفول بالبندورة والبقدونس والزيت ويطلق عليه الفول المدمس والثانية بإضافة اللبن والحامض والثوم وزيت الزيتون في حين أن جميع مطاعم دمشق تبيع مع الفول الحمّص المعد بطرق مختلفة وخاصة الفتات المسماة في دمشق التسقية.
الميزة الثانية والفريدة حقا هي أن مارديني قرّر ومنذ افتتاحه لمطعمه أن يقدّم الفول لزبائنه حتى يصلوا لمرحلة الشبع التام وبسعر الوجبة الواحدة حيث يمكن للزبون أن يطلب صحن فول بالطريقة التي يريدها مع المخللات والبصل وغيره مما يسمى في مصطلحات مطاعم دمشق (السرفيس) وفي حال لم يشبع من الصحن الأول يعيد الصحن للكرسون ليطلب إعادة تعبئته للمرة الثانية والثالثة وحتى لأي رقم يصل إليه ولو كان الصحن العاشر وبسعر صحن واحد فقط الذي لا يتجاوز حاليا الخمسين ليرة سوريا (ما يعادل دولارا أميركيا واحدا) وهذه لم يفعلها أي مطعم شعبي سوري من قبل.
ويبدو، وحسب بعض زبائن المطعم أن مؤسس المطعم مارديني كان شديد الذكاء فهو استطاع من خلال هذه الميزة الفريدة جذب الكثير من الزبائن كما عرف أن الفول يسبب امتلاء وشبعا لدى الإنسان ولن يتمكن الزبون من تناول في الوجبة الواحدة أكثر من صحنين إلى ثلاثة صحون وإلاّ فستحصل معه مشكلة في أمعائه. والطريف هنا أنه ومنذ افتتاح المطعم الفريد وعندما يطلب الزبون صحنا ثانيا أو ثالثا ينادي النادل بصوت مرتفع في بهو المطعم كلمة «صلحلوا» وتعني أن الزبون يريد صحنا آخر (تصليح الصحن السابق) فيقوم مارديني بتجهيزه وقد أخذ المطعم لقبا اشتهر به فيما بعد وما زال وهو نفس الكلمة فصار يعرف في دمشق بمطعم «صلحلوا».
ومطعم «صلحلوا» الذي غاب كمكان مع إزالة السوق العتيق وسوق الآرماني قبل عشرين عاما استبق أصحابه من أحفاد مارديني وللمحافظة على مطعم جدّهم النادر الأمر فأسسوا مكانا آخر له يبعد نحو مائتي متر عن المكان الأول المزال في سوق شعبية متفرعة من شارع الثورة ويجاور سوق الهال القديمة وظلوا حريصين على تراث جدّهم وعلى عاداته وتقاليده التي رسخها عبد المجيد الفوال منذ تأسيس وإطلاق مطعمه وخاصة ميزتيه الفريدتين السابق ذكرهما كما أصرّوا على تسميته بمطعم صلحلوا الأثري.
ويتناقل الدمشقيون الكثير من القصص الطريفة والأحداث التي شهدها هذا المطعم ومنها تنافس بعض «الأكيلة» المعروفين بشراهتهم في تناول الطعام على من يأكل أكثر عدد من صحون الفول في مطعم «صلحلوا» ويتحدون بعضهم ويتشارطون على ذلك، كما يتناقل الناس أن شخصيات هامة زارت المطعم وتناولت الفول لديه، في مطعم صلحلوا الذي يدار حاليا من قبل ورثة المؤسس مارديني يروي لـ«الشرق الأوسط» عدد من العاملين في المطعم حاليا والذين ما زالوا مستمرين فيه منذ عشرات السنين حكاية هذا المطعم الفريد والأحداث التي شهدها شارحين: تأسس المطعم على مساحة نحو 70 مترا مربعا وحافظ على تلك المساحة حتى عندما انتقل للجهة المقابلة من سوق الآرماني المزالة كما حافظ على جميع مقتنياته التي وجدت فيه عند تأسيسه حيث يقوم أصحابه بترميمها باستمرار ومنه كراسي القش لجلوس الزبائن والطاولات الرخامية وقدور طهي الفول النحاسية وبعض الأواني المعدنية والزجاجية والتي تعود لعمر المطعم الذي تجاوز القرن ولكن هناك إضافات جديدة اقتضاها تطور العصر ومنها وجود كراسي البلاستيك وطاولات خشبية ومعدنية وغير ذلك.
ولكن من الشخصيات المعروفة التي زارت الطعم وتناولت الفول فيه؟ يجيب هؤلاء: المطعم يستقطب وحتى الآن السياح العرب والأجانب والشخصيات الفنية والثقافية المعروفة في المجتمع السوري والمعروف أن المطعم زاره شخصيات كثيرة منها: الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أيام الوحدة السورية المصرية حيث طلب تناول فطوره من الفول في مطعم «صلحلوا» وقال إنه سمع به في مصر وكان مؤسس المطعم (أبو رياح) موجودا في مطعمه حيث حاول الرئيس عبد الناصر دفع ثمن وجبة الفول فرفض أبو رياح وقال له أنت ضيفنا هل يعقل أن نأخذ منك ثمن صحن فول يا سيادة الرئيس؟ كذلك زاره المطرب الراحل عبد الحليم حافظ والموسيقي والمطرب الراحل محمد عبد الوهاب ومن زبائنه من مدحه بعبارات وقصائد شعر – يشاهد الزائر للمطعم إحدى القصائد في مدح المطعم معلّقة وبخط عربي جميل ببرواز زجاجي على أحد جدرانه وهي للشاعر المعروف سليمان العيسى الذي كان أحد رواده ومن أبياتها: «فولي أصبح زاكيا – والقلب منه راضيا، فولي أصبح قائلا – منّي تدور العافية، انظر إلى يا بديع – إني وقت الصبح أطيع، الزيت والخل المنيع – يجلي الصدأ والغاشية، اسمع كلامي يا فهيم – وقم بزيارة عبد المجيد (ويقصد به اسم صاحب المطعم ومؤسسه)، القلب منك يهين – تبقى بعيشة راضية».
وكما لمطعم «صلحلوا» مزيتاه الفريدتان فهناك ميزة أخرى حققت له الشهرة والانتشار منذ انطلاقته وهي الطريقة المميزة في تحضيره وطهيه للفول والتي جعلت الشاعر العيسى يمدحها ويثني عليها، حيث وكما يوضح العاملون فيه فإن طريقة طهي الفول ومنذ تأسيسه كانت تتم بأوعية فخارية وتطهى بطريقة مميزة حيث استفاد مؤسس المطعم عبد المجيد من وجود حمام الآرماني التاريخي بجواره – وما زال الحمام قائما – فاستفاد من (قميم) الحمام وهو بيت النار حيث يشكل أحد أقسام الحمام الرئيسية لتسخين المياه اللازمة للمستحمين بواسطة الحطب، وكان يقوم عبد اللطيف بطهي الفول في الفخاريات على أرض القميم المجمرة التي تتميز بحرارتها المرتفعة ويطمر الجرار الفخارية المحتوية على الفول في أرض القميم حتى يطهى الفول ببطء وهدوء ويبقيه لليوم الثاني مطمورا فينتج لديه فول مسلوق بنكهة مميزة تختلف عن عملية السلق السريع الذي انتشر فيما بعد مع انتشار مواقد الكاز والغاز.
المطعم أخيرا ما زال كما هو بعاداته وتقاليده وتراثيته ومفرداته ولكن ما تغير قيمة ثمن صحن الفول فقط – وهذا خارج عن إرادتنا – يبتسم أحد العاملين فيه موضحا: أتذكر وعندما بدأت العمل في المطعم قبل أربعين عاما كنا نقدّم صحن الفول بسعر ليرتين ونصف ولكن ارتفع سعر المادة الأولية وتضاعف فاضطررنا لرفع السعر تدريجيا بما يتماشى مع ارتفاع سعر الفول.
منقول