تتمة خليل الكافر
٧
إن الأخبار — كبيرة كانت أم تافهة — تنتقل بسرعة الفكر بين الفلاحين في القرى الصغيرة، لأن بُعدهم عن مشاغل الاجتماع المتتابعة يجعلهم أن ينصرفوا بكليتهم إلى استقصاء ما يحدث في محيطهم المحدود، وفي أيام الشتاء عندما تكون الحقول والبساتين راقدة تحت لُحف الثلوج وتنزوي الحياة خائفة مستدفئة حول المواقد يصير القرويون أشد رغبة وأكثر ميلًا إلى استطلاع الأخبار لكي يملأوا بتأثيراتها أيامهم الفارغة ويصرفوا باستفسارها لياليهم الباردة.
وهكذا لم يقبض خدام الشيخ عباس على خليل في تلك الليلة حتى انتشر الخبر كالعدوى بين سكان تلك القرية، وأثارت محبة الاستفهام نفوسهم، فتركوا أكواخهم وتراكضوا مسرعين من كل ناحية كالجنود المتفرقين، فلم يبلغ الشاب المكتوف منزل الشيخ حتى اجتمع في تلك الدار الوسيعة الرجال والنساء والصبيان وكلهم يمدون أعناقهم بتشوق ليحظوا بنظرة من الكافر المطرود من الدير ومن راحيل الأرملة وابنتها مريم اللتين شاركتا الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجهنمية في فضاء قريتهم.
جلس الشيخ عباس على مقعد عالٍ وتربع بجانبه الخوري إلياس ووقف الفلاحون والخدام مترقبين مُحْدِقِينَ بالفتى المكتوف الواقف بينهم برأس مرفوع وقوف الطود بين المنخفضات. أما راحيل ومريم فكانتا واقفتين خلفه والخوف يراود قلبيهما ونظرات القوم القاسية تعذب نفسيهما، ولكن ماذا يفعل الخوف في عواطف امرأة رأت الحق فاتبعته وماذا تفعل النظرات القاسية في فؤاد صبية سمعت نداء الحب فاستيقظت؟
ونظر الشيخ عباس إذ ذاك نحو الشاب وبصوت يشابه ضجيج الأمواج سأله قائلًا: «ما اسمك أيها الرجل؟»
فأجابه: اسمي خليل. فقال الشيخ: «من هم أهلك وذووك وأين مسقط رأسك؟»
فالتفت خليل نحو الفلاحين الناظرين إليه بكره واشمئزاز وقال: «الفقراء والمساكين المظلومون هم أهلي وعشيرتي، وهذه البلاد الوسيعة هي مسقط رأسي.»
فابتسم الشيخ عباس مستهزئًا ثم قال: «إن الذين تنتسب إليهم يطلبون معاقبتك والبلاد التي تَدَّعِيهَا وطنًا تأبى أن تكون من سكانها.»
فقال خليل وقد اضطربت أحشاؤه: «إن الشعوب الجاهلة تقبض على أشرف أبنائها وتسلمهم إلى قساوة العتاة والظالمين، والبلاد المغمورة بالذل والهوان تضطهد محبيها ومخلصيها، ولكن أيترك الابن الصالح والدته إذا كانت مريضة، وينكر الأخ الرؤوف أخاه إذا كان تعسًا! إن هؤلاء المساكين الذين أسلموني إليك مكتوفًا اليوم هم الذين أسلموك رقابهم بالأمس، والذين أوقفوني مهانًا أمامك هم الذين يزرعون حبات قلوبهم في حقولك ويهرقون دماء أجسادهم على أقدامك، وهذه الأرض التي تأبى أن أكون من سكانها هي الأرض التي لا تفغَرُ فاها وتبتلع الطغاة والطامعين.»
فقهقه الشيخ عباس ضاحكا كأنه يريد أن يغرق بضحكه القبيح روح الشاب ويوقفها عن المسير إلى أرواح السامعين والبسطاء ثم قال: «أَوَلَمْ تكن راعيًا لثيران الدير أيها الشاب الوقح فلماذا تركت رعيتك وخرجت مطرودًا؟ هل ظننت أن الشعب يكون أكثر رأفة بالمجاذيب الملحدين من الرهبان الأتقياء؟»
فأجابه خليل: «كنت راعيًا ولم أكن جزارًا، كنت أقودُ العجولَ إلى المروج الخضراء والمراعي الخصبة ولم أسر بها قط إلى الطلول الجرداء، كنت أوردها الينابيع العذبة وأبعدها عن المستنقعات الفاسدة، كنت أعيدها في المساء إلى الحظيرة ولم أتركها في الوادي فريسة للذئاب والضواري الخاطفة، هكذا كنت أفعل بالبهائم ولو فعلت أنت مثلي بهذا القطيع المهزول الرابض الآن حولنا لما كنت تسكن هذا القصر الرفيع وتتركه يبيد جوعا في الأكواخ المظلمة، لو كنت ترحم أبناء الله المخلصين مثلما كنت أرحم عجول الدير لما كنت جالسًا الآن على هذا المقعد الحريري وهم واقفون أمامك وقوف القضبان العارية أمام ريح الشمال.»
فتحرك الشيخ عباس منزعجًا، وتلمعت على جبهته قطرة عرق باردة، وتبدل ضحكه بالغضب، ولكنه عاد فامتلك نفسه كي لا يظهر الاهتمام والاكتراث أمام رجاله وتابعيه ثم قال مشيرًا بيده: «لم نأتِ بك مكتوفًا أيها الكافر لنسمع هذيانك، بل أحضرناك لكي نحاكمك كمجرم شرير فاعلم إذًا بأنك واقف الآن أما سيد هذه القرية وممثل إرادة الأمير أمين الشهابي أيَّده الله٢ وأمام الخوري إلياس ممثل الكنيسة المقدسة التي كفرت بها، فدافع إذًا عن نفسك مما اتُّهِمْتَ به أو فاركع مسترحمًا نادمًا أمامنا وأمام هذا الجمع الساخر بك، فنغفر لك ونجعلك راعيًا للبقر مثلما كنت في الدير.» فأجاب الشاب بهدوء: «إن المجرم لا يحاكمه المجرمون والكافر الشرير لا يدافع عن نفسه أمام الخطاة.»
قال هذه الكلمات والتفت نحو الجمع المزدحم في تلك القاعة الوسيعة وبصوت جهوري يشابه رنين الأجراس الفضية ناداهم قائلًا: «أيها الإخوة، إن الرجل الذي أقامه خضوعكم واستسلامكم سيدًا على حقولكم قد أحضرني مكتوفًا ليحاكمني أمامكم في هذا القصر المبني فوق بقايا آبائكم وجدودكم، والرجل الذي جعله إيمانكم كاهنًا في كنيستكم قد جاءني ليدينني، ويساعد على تعذيبي وإذلالي. أما أنتم فقد تراكضتم مسرعين من كل ناحية لكي تنظروني متألمًا وتسمعوني مستغيثًا مسترحمًا، قد تركتم جوانب المواقد الدافئة لتشاهدوا ابنكم وأخاكم مكتوفا مُهانًا، قد أسرعتم لتروا الفريسة المتوجعة بين مخالب الكواسر، قد جئتم لتنظروا المجرم الكافر واقفًا أمام القضاة، أنا هو المجرم، أنا هو الكافر الذي طُرِدَ من دير فحملته العاصفة إلى قريتكم، أنا هو ذلك الشرير فاسمعوا احتجاجي ولا تكونوا مشفقين بل كونوا عادلين لأن الشفقة تجوز على المجرمين الضعفاء، أما العدل فهو كل ما يطلبه الأبرياء، قد اخترتكم قضاتي لأن إرادة الشعب هي مشيئة الله، فأيقظوا قلوبكم واسمعوني جيدًا ثم احكموا عليَّ بما توحيه ضمائركم، قد قيل لكم بأني رجل كافر شرير ولكنكم لم تعرفوا ما هي جريمتي، وقد رأيتموني مكتوفًا كاللص القاتل ولم تسمعوا بعد بذنوبي لأن حقيقة الجرائم والذنوب في هذه البلاد تظل مستترة وراء الضباب، أما العقاب فيظهر للناس ظهور أسياف البرق في ظلمة الليل، جريمتي أيها الرجال هي إدراكي تعاستكم وشعوري بثقل قيودكم، وآثامي أيتها النساء هي شفقتي عليكن وعلى أطفالكن الذين يمتصون الحياة من صدوركن ممزوجة بلهات الموت.
أنا واحد منكم أيها الجمع وقد عاش آبائي وجدودي بين هذه الأودية التي تستفرغ قواكم وماتوا تحت هذا النَّيْرِ الذي يلوي أعناقكم، أنا أؤمن بالله الذي يسمع نداء نفوسكم المتوجِّعَة ويرى صدوركم المقروعة، وأؤمن بالكتاب الذي يجعلني ويجعلكم إخوة متساوين أمام وجه الشمس وأؤمن بالتعاليم التي تحررني وتحرركم من عبودية البشر وتوقفنا جميعًا بغير قيود على الأرض موطئ أقدام الله. كنت في الدير راعيًا للبقر لكن انفرادي مع البهائم الخرساء في البرية الساكنة لم يُعمني عن المأساة الأليمة التي تمثلونها كرهًا في الحقول، ولم يصمَّ أذني عن صراخ اليأس المتصاعد من قراني الأكواخ، قد نظرت فرأيتني في الدير ورأيتكم في الحقول كقطيع من النعاج سائر وراء ذئب خاطف إلى وكره فوقفت في منتصف الطريق وصرخت متسغيثًا فهجم الذئب ونهشني بأنيابه المحددة، ثم احتال عليَّ وأبعدني كي لا يثير صراخي روح القطيع فيتمرد ويتفرق مذعورًا إلى كل ناحية ويتركه منفردًا جائعًا في ظلام الليل. قد احتملتُ السجنَ والجوعَ والعطشَ من أجل الحقيقة الجارحة التي رأيتها مكتوبة بالدماء على وجوهكم، وقاسيت العذاب والجلد والسخرية لأنني جعلت لسكينة تنهيداتكم صوتًا صارخًا متموجًا في خلايا الدير، ولكنني لم أخف قط ولم يضعف قلبي لأن صراخكم الأليم كان يتبع نفسي ويجدد قواي ويحبب إليَّ الاضطهاد والاحتقار والموت.
أنتم تسألون نفوسكم الآن قائلين: «أي متى صرخنا متظلمين وأي فرد منا يتجاسر أن يفتح شفتيه؟» وأنا أقول لكم بأن نفوسكم تصرخ متظلمة في كل يوم وقلوبكم تستغيث متوجعة في كل ليلة، ولكنكم لا تسمعون نفوسكم وقلوبكم؛ لأن المنازع لا يسمع حشرجة صدره أما الجالسون بجانب مضجعه فيسمعون، والطائر المذبوح يرقص متململًا أسر إرادته ولا يعلم، أما الناظرون فيعلمون في أي ساعة من النهار لا تتأوه أرواحكم متوجعة؟ أفي الصباح عندما تنتهركم محبة البقاء وتمزق نقاب الكرى عن أجفانكم وتقودكم كالعبيد إلى الحقول؟ أم في الظهيرة عندما تتمنون الجلوس في ظل الأشجار لكي تتقوا سهام الشمس المحرقة ولا تستطيعون؟ أم في المساء عندما تعودون جائعين إلى أكواخكم ولا تجدون سوى الخبز اليابس والماء العكر؟ أم في الليل عندما تطرحكم المتاعب على الأَسِرَّةِ الحجرية فتنامون قلقين ولا يكتحل النعاس أجفانكم إلا وتهبون خائفين متوهمين صوت الشيخ يرن في آذانكم؟ وفي أي فصل من السنة لا تندب قلوبكم متحسرة؟ أفي الربيع عندما ترتدي الطبيعة حُلَّةً جديدة فتخرجون لمشاهدتها بأطمار بالية ممزقة؟ أم في الصيف عندما تحصدون الزرع وتجمعون الأغمار على البيادر وتملأون أهراء سيدكم الظلوم بالغلة ولا تحصلون لقاء أتعابكم على غير التبن والزوان؟ أم في الخريف عندما تجنون الأثمار وتعصرون العنب ولا يكون نصيبكم منها سوى الخل والبلوط؟ أم في الشتاء عندما يضطهدكم الفضاء ويطردكم البرد والزمهرير إلى الأكواخ الملتحفة بالثلوج، فتجلسون بجانب المواقد متأففين خائفين غضب الزوابع والعواصف؟
هذه هي حياتكم أيها الفقراء، هذا هو الليل المخيِّم على أرواحكم أيها التعساء، هذه هي أشباح ذُلِّكُم وشقائكم أيها المساكين، هذا هو الصراخ الأليم المستمر الذي سمعته خارجًا من أعماق صدوركم فاستيقظت وتمردت على الرهبان وكفرت بمعيشتهم، ووقفت منفردًا متظلمًا باسمكم واسم العدالة المتوجعة بأوجاعكم فحسبوني كافرًا شريرًا وطردوني من الدير فجئت لكي أشاطركم التعاسة وأعيش بقربكم وأمزج دموعي بدموعكم فأسلمتموني مكتوفًا إلى عدوكم القوي الذي يغتصب خيراتكم ويحيا غنيًّا بأموالكم ويملأ جوفه الوسيع من أثمار أتعابكم … ألا يوجد بينكم شيوخ يعلمون بأن الأرض التي تَحرثونها وتُحرمون غلتها هي لكم وقد اغتصبها والد الشيخ عباس من آبائكم عندما كانت الشريعة مكتوبة على حد السيف؟ أما سمعتم بأن الرهبان قد احتالوا على جدودكم وامتلكوا مزارعهم وكرومهم عندما كانت آيات الدين مخطوطة على شفتي الكاهن؟ ألا تعلمون بأن ممثلي الدين وأبناء الشرف الموروث يتعاونون على إخضاعكم وإذلالكم واستقطار دماء قلوبكم؟ أي رجل منكم لم يَلْوِ عُنُقَهُ كاهنُ الكنيسة أمام سيد الحقول؟ وأي امرأة بينكم لم يزجرها سيد الحقول ويستحثها لكي تتبع مشيئة كاهن الكنيسة؟
«قد سمعتم بأن الله قد قال للإنسان الأول: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» فلماذا يأكل الشيخ عباس خُبزه مجبولًا بعرق جبينكم ويشرب خمره ممزوجًا بدموعكم؟ هل ميَّز الله هذا الرجل وجعله سيدًا إذ كان في رَحِمْ أمه أم غَضِبَ عليكم لذنوب مجهولة وبعثكم عبيدًا إلى هذه الحياة لكي تجمعوا غلة الحقول ولا تأكلون غير أشواك الأودية، وتقيموا القصور الفخمة ولا تسكنون غير الأكواخ المتداعية؟ قد سمعتم بأن يسوع الناصري قد قال لتلامذته: «مجانًا أخذتم ومجانًا أعطُوا. لا تقتنوا فضة ولا ذهبًا ولا نحاسًا في مناطقكم.» إذًا أي تعاليم أباحت للرهبان والكهان بيع صلواتهم وتعازيمهم بالفضة والذهب؟ أنتم تصلون في سكينة الليالي قائلين: «أعطنا يا رب خبزنا كفاف يومنا.» والرب قد وهبكم هذه الأرض لتعطيكم الخبز والكفاف فهل وَهَبَ رؤساء الأديرة السلطة لانتزاع هذا الخبز من بين أيديكم؟ أنتم تلعنون يهوذا لأنه باع سيده بالفضة فأي شيء يجعلكم أن تباركوا الذين يبيعونه في كل يوم من حياتهم؟ إن يهوذا التعس قد ندم على خطيئته فشنق نفسه، أما هؤلاء فيسيرون أمامكم برؤوس مرفوعة وأذيال طويلة ناعمة وقلائِدَ ذهبية وخواتم ثمينة، أنتم تعلمون أبنائكم محبة الناصري فكيف تعلمونهم الخضوع أمام مبغضيه ومخالفي تعاليمه وشرائعه، قد عرفتم بأن رسل المسيح قد ماتوا قتلًا ورجمًا لكي يُحيوا فيكم الروح المقدسة فهل تعرفون بأن الرهبان والكهان يقتلون أرواحَكم لكي يَحْيَوْا متمتعين بخيراتكم متلذذين بحرتقة قيودكم، ماذا يغركم أيها المساكين في وجود مفعم بالذل والهوان ويبقيكم راكعين أمام صنم مخيف أقامه الكذب والرياء على قبور آبائكم؟ وأي كنز ثمين تحافظون عليه بخضوعكم لتبقوه إرثًا لأبنائكم؟
«نفوسكم في قبضة الكاهن، وأجسادكم بين مخالب الحاكم، وقلوبكم في ظلمة اليأس والأحزان، فأي شيء في الحياة يمكنكم أن تشيروا إليه قائلين: «هذا لنا.» أتعرفون أيها المستسلمون الضعفاء من هو الكاهن الذي تهابونه وتقيمونه وصيًّا على أقدس أسرار نفوسكم؟ اسمعوني فأبين لكم ما تشعرون أنتم به وتخافون إظهاره، هو خائن يعطيه المسيحيون كتابًا مقدسًا فيجعله شبكة يصطاد بها أموالهم ومُرائي يقلده المؤمنون صليبًا جميلا فيمتشقه سيفًا سنينًا ويرفعه فوق رؤوسهم، وظالم يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالمقاود ويوثقها باللجم ويقبض عليها بيد من حديد ولا يتركها حتى تنسحق كالفَخَّار وتتبدد كالرماد.
هو ذئب كاسر يدخل الحظيرة فيظنه الراعي خروفًا وينام مطمئنًّا وعند مجيء الظلام يَثِبُ على النعاج ويخنقها نعجة إثر نعجة، هو نهم يحترم موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل، وطامع يتبع الدينار إلى مغاور الجن ويمتص دماء العباد مثلما تمتص رمال الصحراء قطرات المطر، وبخيل يحرص على أنفاسه ويدَّخِر مالًا يحتاجه، هو محتال يدخل من شقوق الجدران ولا يخرج إلا بسقوط البيت، ولص صخري القلب ينتزع الدرهم من الأرملة والفِلْس من اليتيم، هو مخلوق عجيب له منقار النسر ومقابض النمر وأنياب الضبع وملامس الأفعى، خذوا كتابه ومزقوا ثوبه وانتفوا لحيته وافعلوا به ما شئتم ثم عودوا وضموا الدينار في كفه فيغفر لكم ويبتسم بمحبة، اصفعوا خده وابصقوا بوجهه ودوسوا عنقه ثم أجلسوه على موائدكم فيتناسى ويتهلل ويحل حزامه لينمو جوفه بمآكلكم ومشاربكم، جدفوا على اسم ربه واقذفوا بعقائده واسخروا بإيمانه ثم ابعثوا إليه بجرة من الخمر أو بسلة من الفاكهة فيسامحكم ويبرركم أمام الله والناس، يرى الامرأة فيحول وجهه قائلًا بأعلى صوته: «ابتعدي عني يا ابنة بابل.» ثم يهمس بسره قائلًا: «الزيجة أفضل من التحرق.» يرى الفتيان والصبايا سائرين في موكب الحب فيرفع عينيه نحو السماء ويهتف قائلًا: «باطلة الأباطيل وكل شيء تحت الشمس باطل.» ثم يختلي ويتنهد قائلًا: «لِتَفْنَ الشرائع وتضمحل التقاليد التي أبعدتني عن غبطة الحياة، وأحرمتني ملذات العمر.» يقول للناس مستشهدًا: «لا تدينوا لِئَلَّا تدانوا.» ولكنه يدين بقساوة جميع الذين يسخرون بمكارهه ويبعث بأرواحهم إلى الجحيم قبل أن يبعدهم الموت عن هذه الحياة، يحدثكم رافعًا عينيه بين الآونة والأخرى نحو العلاء أما فكرته فتظل منسابة كالأفعى حول جيوبكم، يناديكم بقوله لكم: «يا أولادي ويا أبنائي.» وهو لا يشعر بالعاطفة الأبوية ولا تبتسم شفتاه لرضيع ولا يحمل طفلًا على منكبيه، ويقول لكم هازًّا رأسه بتخشع: «لنترفعن عن العالميات لأن أعمارنا تضمحل كالضباب وأيامنا تزول كالفيء.»
وإذا نظرتم جيدًا رأيتموه متمسكًا بأذيال الحياة متشبثًا بأهداب العمر، متأسفًا على ذهاب الأمس، خائفًا من سرعة اليوم، مترقبًا مجيء الغد، يطلب منكم الإحسان وهو أوفر منكم مالًا فإن أجبتموه يبارككم علنًا وإن منعتموه يلعنكم سرًّا، في الهيكل يوصيكم بالفقراء والمحتاجين وحول منزله يصرخ الجائعون وأمام عينيه تمد أيدي البائسين فلا ينظر ولا يسمع، يبيع صلاته ومن لا يشتري يكون كافرًا بالله وأنبيائه محرومًا من الجنة والنعيم، هذا هو المخلوق الذي يخيفكم أيها المسيحيون، هذا هو الراهب الذي يمتص دماءكم أيها الفقراء، هذا هو الكاهن الذي يرسم إشارة الصليب بيمينه ويقبض على قلوبكم بشماله، هذا هو الأسقف الذي تقيمونه خادمًا فينقلب سيدًا، وتطوبونه قديسًا فيصير شيطانًا، وترفعونه نائبًا فيصبح نيرًا ثقيلًا، هذا هو الظل الذي يتبع أرواحكم منذ بلوغها هذا العالم حتى رجوعها إلى الأبدية، هذا هو الرجل الذي جاء في هذه الليلة لكي يدينني ويرذلني لأن روحي تمرَّدت على أعداء يسوع الناصري الذي أحبكم ودعاكم إخوة له ثم صُلب من أجلكم.»
وتهلل وجه الشاب المكتوف وقد شعر باليقظة الروحية المتمايلة في صدور سامعيه واتَّضَحَتْ له تأثيرات كلامه في وجوه الناظرين إليه فرفع صوته وزاد قائلًا: «قد سمعتم أيها الإخوة بأن الشيخ عباس قد أقامه الأمير أمين الشهابي سيدًا على هذه القرية، وسمعتم أيضًا بأن الأمير قد أقامه المليك حاكمًا على هذا الجبل، فهل سمعتم أو رأيتم القوة التي أقامت المليك ربًّا على هذه البلاد؟ أنتم لا ترون تلك القوة متجسدة ولا تسمعونها متكلمة ولكنكم تشعرون بوجودها في أعماق أرواحكم، وتسجدون أمامها مصلين مبتهلين وتنادونها بقولكم: «أبانا الذي في السماوات.» نعم إن أباكم السماوي هو الذي يقيم الملوك والأمراء وهو القادر على كل شيء، ولكن هل تعتقدون بأن أباكم الذي أحبكم وعلَّمَكُم سبل الحق بواسطة أنبيائه يريد أن تكونوا مظلومين ومرذولين؟ هل تعتقدون بأن الله الذي يُنزلُ السحاب مطرًا، ويستنبت البذور زرعًا، وينمي الزهور أثمارًا، يريد أن تكونوا جياعًا مُحْتَقَرِين لكي يبقى واحد بينكم منتفخًا متلذذًا؟
هل تعتقدون بأن الروح السرمدي الذي يوحي إليكم محبة الزوجة والرأفة بالبنين والشفقة على القريب يقيم عليكم سيدًا قاسيًا يظلمكم ويستعبد أيامكم؟ هل تعتقدون بأن النواميس الأزلية التي تحبب إليكم نور الحياة تبعث إليكم بمن يحبب إليكم ظلمة الموت؟ هل تعتقدون بأن الطبيعة قد بعثت القُوى في أجسادكم لكي تعود وتخضعها أمام الضعف؟ أنتم لا تعتقدون بهذه الأشياء لأنكم إن فعلتم تكونون كافرين بالعدل الإلهي جاحدين نور الحق الذي يضيء على جميع الناس. إذًا أي شيء يجعلكم أن تساعدوا الشرير على نفوسكم؟ ولماذا تخافون مشيئة الله الذي بعثكم أحرارًا إلى هذا العالم وتصيرون عبيدًا للمتمردين على ناموسه، كيف ترفعون أعينكم نحو الله القوي وتدعونه أبًا ثم تحنون رقابكم أمام الإنسان الضعيف وتدعونه سيدًا؟ كيف يرضى أبناء الله أن يكونوا عبيدًا للبشر؟ أما دعاكم يسوع إخوة فكيف يدعوكم الشيخ عباس خدمًا؟ أما جعلكم يسوع أحرارًا بالروح والحق فكيف يجعلكم الأمير عبيدًا للحَيْف والفساد؟ أما رفع يسوع رؤوسكم نحو السماء فكيف تخفضونها إلى التراب؟ أما سكب يسوع النور في قلوبكم فكيف تغمرونها بالظلام؟
إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزيد جمالًا باستطلاعها خفايا الأيام والليالي فكيف تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفيء، إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب والحرية فلماذا تَجزُّونها بأيديكم وتدبون كالحشرات على أديم الأرض، إن الله قد وضع في قلوبكم بذور السعادة فكيف تنتزعونها وتطرحونها على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الأرياح، إن الله قد رزقكم البنين والبنات لكي تدربوهم على سبل الحق وتملأوا صدورهم بأغاني الكيان وتتركوا لهم غبطة الحياة إرثًا ثمينًا فكيف تهجعون وتخلفونهم أمواتًا بين أيدي الدهر، غرباء في أرض مولدهم، تعساء أمام وجه الشمس؟ أوليس الوالد الذي يترك ابنه الحر عبدًا يكون كالوالد الذي يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا؟ أما رأيتم عصافير الحقل تدرب فراخها على الطيران فكيف تعلمون صغاركم جر القيود والسلاسل؟ أما رأيتم زهور الأودية تستودع بذورها حرارة الشمس فكيف تسلمون أطفالكم إلى الظلمة الباردة.»
وسكت خليل هنيهة كأن أفكاره وعواطفه قد نمت واتَّسَعَتْ فلم تَعُدْ ترتدي الألفاظ ثوبًا ثم قال بصوت منخفض: «إنَّ الكلام الذي سمعتموه مني في هذه الليلة هو الكلام الذي طردني الرهبان من أجله، والروح التي شعرتم بتموجاتها في قلوبكم هي الروح التي أوقفتني مكتوفًا أمامكم، فإن وثب عليَّ سيد حقولكم وكاهنُ كنيستكم وصرعاني أموت سعيدًا فرحًا لأني بإظهاري لكم حقيقة ما يحسبه الظالمون جُرمًا هائلًا قد تممت مشيئة بارئي وباريكم.»
كان خليل يتكلم وفي صوته الجهوري نغمة سحرية تضطرب لها قلوب الرجال الناظرين إليه بإعجاب يشابه استغراب الأعمى إذا ما أبصر فجأة وتهتز لحلاوتها نفوس النساء المحدقات به بأعين طافحة بالدموع، أما الشيخ عباس والخوري إلياس فكانا يرتجفان غضبًا ويتلويان كالمطروحين على وسائد من الأشواك، وقد حاول كل منهما أن يوقف الشاب عن الكلام فلم يستطع لأنه كان يخاطب الجمع بقوة علوية تشابه العاصفة بعزمها والنسيمَ برقتها.
ولما انتهى خليل من كلامه وقد تراجع قليلًا إلى الوراء ووقف بجانب راحيل ومريم حدث سكوتٌ عميقٌ كأن رُوحَهُ المرفرفة في جوانب تلك القاعة الوسيعة قد حولت بصائر القرويين نحو مكان قصي وانتزعت الفكر والإرادة من نفسي الشيخ والكاهن وأوقفتهما مرتعشين أمام أشباح ضميريهما المزعجة.
حينئذٍ وقف الشيخ عباس وقد تقلصت ملامحه واصْفَرَّ وجهه وانتهر الرجال الواقفين حوله قائلًا بصوت مخنوق: «ما أصابكم أيها الكلاب؟ هل تسممت قلوبُكم وجَمدَت الحياة في داخل أجسادكم فلم تعودوا قادرين على تمزيق هذا الكافر المهزار؟ هل اكتنفت روح هذا الشيطان أرواحكم وكبلت بسحره الجهنمي سواعدكم فلم تستطيعوا إبادته؟»
قال هذه الكلمات وامتشق سيفًا كان بجانبه وهجم على الفتى المكتوف ليوقِعَ به فتقدم رجل قوي البنية من بين الشعب واعترضه قائلًا بهدوء: «أغمد سيفك يا سيدي لأن من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك.»
فارتعش الشيخ عباس وسقط السيف من يده وصرخ قائلًا: «هل يعترض الخادم الضعيف سيده وولي نعمته؟»
فأجابه الرجل: «الخادم الأمين لا يشارك سيده بالشرور والمظالم، إن هذا الشاب لم يقل غير الحق ولم يعلن لهؤلاء السامعين سوى الحقيقة.»
وتقدم رجل آخر وقال: «لم يقل هذا الفتى شيئًا يستوجب الحكم؛ فلماذا تضطهده؟»
ورفعت امرأة صوتها وقالت: «لم يقذف بالدين ولم يجدف على اسم الله فلماذا تدعوه كافرًا؟»
فتشجعت راحيل إذ ذاك وتقدمت إلى الأمام وقالت: «إن هذا الشاب يتكلم بألسنتنا ويتظلم عَنَّا ومن يريد به شرًّا يكون عدوًّا لنا.»
فقال الشيخ عباس صارفًا أسنانه: «وأنت تتمردين أيضًا أيتها الأرملة الساقطة؟ هل نسيت ما أصاب زوجك عندما تمرد عليَّ منذ خمس سنوات؟»
فشهقت راحيل عندما سمعت هذه الكلمات وارتعشت متوجعة كمن أدرك سرًّا هائلًا، والتفتت نحو الجمع وصرخت بأعلى صوتها: «هل سمعتم القاتل يعترف بجريمته في ساعة غضبه؟ ألا تذكرون أن زوجي قد وُجِدَ قتيلًا في الحقل وقد بحثتم عن القاتل فلم تجدوه لأنه كان مختبئًا وراء هذه الجدران؟ ألا تذكرون أن زوجي كان رجلًا شجاعًا؟ أما سمعتموه متكلمًا عن مكاره الشيخ عباس منددًا بأعماله متمردًا على قساوته؟ ها قد أبانت السماء قاتل جاركم وأخيكم وأوقفته أمامكم فانظروا إليه واقرأوا جريمته مكتوبة على وجهه المصفر، انظروه متململًا جازعًا، تأملوا كيف قد ستر وجهه بيديه كي لا يرى عيونكم محدقة به، انظروا السيد القوي مرتجفًا كالقصبة المرضوضة، انظروا الجبار العظيم مرتاعًا أمامكم كالعبد الخاطئ، إن الله قد أراكم على حين غفلة خفايا هذا القاتل الذي تخافونه وأبان لكم النفس الشريرة التي جعلتني أرملة بين نسائكم وتركت ابنتي يتيمة بين أبنائكم.»
وبينما راحيل تتكلم صارخة وألفاظها تنقض كالصواعق على رأس الشيخ عباس وضجيج الرجال وزفرات النساء تتموج كشعلات النار والكبريت حول دماغه وقف الكاهن وأخذ بساعده وأجلسه على المقعد ثم نادى الخدم بصوت مرتجف قائلًا: «اقبضوا على هذه المرأة التي تتهم سيدكم زورًا وجروها مع هذا الشاب الكافر إلى غرفة مظلمة، ومن يعترضكم يكون شريكًا لهما بالجريمة محرومًا نظيرهما من الكنيسة المقدسة.»
فلم يتحرك الخدام من أماكنهم ولم يحفلوا بأوامر الكاهن بل لبثوا جامدين محدقين بخليل المكتوف وراحيل ومريم الواقفتين عن يمينه وشماله كأنهما جناحان قد فتحهما ليطير ويحلق بهما في السحاب.
فقال الكاهن ولحيته تتراقص حنقًا: «هل تكفرون بنعمة سيدكم أيها الأجلاف وتجحدون فضله وتنكرونه من أجل فتى مجرم كافر وامرأة عاهرة كاذبة؟» …
فأجابه أكبر الخدام سنًّا وقال: «قد خدمنا الشيخ عباس لقاء الخبز والمأوى ولكننا لم نكن له عبيدًا قط.» قال هذا ونزع عباءته وكوفيته وطرحهما أمام الشيخ عباس وزاد قائلًا: «لا أريد أن أنعم جسدي بهذه الملابس الحقيرة كيما تبقى نفسي متعذبة في منزل سفاك الدماء.»
ففعل الخدام كافة نظيره وانضموا إلى الجمع وعلى وجوههم سيماء الانعتاق والحرية.
فلما رأى الخوري إلياس ما فعلوه وقد شعر بأن سلطته الكاذبة قد تضعضعت خرج من ذلك المنزل مجدفًا على الساعة التي أتت بخليل إلى تلك القرية.
حينئذٍ تقدم رجل من بين الجمع وحل وثاق خليل ونظر إلى الشيخ عباس المرتمي على كرسيه كجثة هامدة وبلهجة مملوءة بالعزم والإرادة خاطبه قائلًا: «إن الشاب الذي أحضرته مكتوفًا لكي تحاكمه كمجرم أثيم قد أنار قلوبنا المظلمة وحوَّل بصائرنا نحو سبل الحق والمعروفة، والأرملة البائسة التي دعوتها عاهرة كاذبة قد أبانت لنا السر الهائل الذي ظل مكتومًا خمسة أعوام، أما نحن فقد تراكضنا مسرعين إلى هذه الدار بدينونة البريء واضطهاد العادل، والآن وقد انفتحت أعيننا وأرتنا السماء جريمتك المخيفة ومظالمك القاسية نغادرك منفردًا ولا ندينك، ونهملك ولا نشكوك ونبتعد عنك طالبين من السماء أن تفعل مشيئتها بك.»
وارتفعت إذ ذاك أصوات الرجال والنساء في تلك القاعة الوسيعة فكان هذا يقول: هلموا نخرج من هذا المكان المشحون بالآثام والمعاصي ونذهب إلى بيوتنا. وذا يصرخ: تعالوا نتبع الشاب إلى بيت راحيل ونسمع حكمته المعزية وأقواله العذبة. وذاك يهتف: لنفعلن إرادة خليل فهو أعلم بحاجاتنا وأدرى منَّا بمطالبنا. وغيره يقول: إن كنا نريد العدل والإنصاف فلنذهب غدًا إلى الأمير أمين ونخبره بجرائم الشيخ عباس ونطلب إليه أن يعاقبه. وآخر يصيح: يجب أن نستعطف الأمير ونرجوه أن يقيم خليلًا ممثلًا له في هذه القرية. وغيره يقول: يجب أن نشكو الخوري إلياس إلى الأسقف لأنه يشارك الشيخ بجميع أعماله.
وبينما هذه الأصوات تتصاعد من كل ناحية وتهبط كالسهام الحادة على صدر الشيخ الخفوق رفع خليل يده وأسكت الجمع بإشارة ثم ناداهم قائلًا: «اسمعوا وتبصَّروا أيها الإخوة ولا تكونوا متسرعين، أنا أطلب إليكم باسم محبتي ألا تذهبوا إلى الأمير فهو لا ينصفكم من الشيخ لأن الكواسر لا تنهش بعضها البعض، ولا تشكوا الكاهن إلى رئيسه لأن الرئيس يعلم أن البيت الذي ينقسم على ذاته يخرب، ولا تطلبوا أن أكون ممثلًا للحاكم في هذه القرية لأن الخادم الأمين لا يريد أن يكون عونًا للسيد الشرير، إن كنت خليقًا بحبكم وانعطافكم فدعوني أعيش بينكم وأشارككم بأفراح الحياة وأحزانها، وأشاطركم العمل في الحقول والراحة في المنازل؛ لأننى إن لم أكن كواحد منكم أكن كالمرائين الذين يكرزون بالفضيلة ولا يفعلون غير الشر، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة تعالوا نذهب تاركين الشيخ عباس واقفًا في محكمة ضميره أمام عرش الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار.»
قال هذا وخرج من ذلك المكان فتبعه الجمع كأن في شخصه قوة تتحول نحوها الأبصار كيفما تحولت، وبقي الشيخ منفردًا كالبرج المهدوم متوجعًا كالقائد المغلوب، ولما بلغ الجمع ساحة الكنيسة وكان القمر قد طلع من وراء الشفق وسكب أشعته الفضية في السماء التفت خليل ورأى أوجه الرجال والنساء متجهة نحوه كالخراف الناظرة إلى راعيها فتحركت روحه في داخله كأنه وجد في أولئك القرويين المساكين رمز الشعوب المظلومة وشاهد في تلك الأكواخ الحقيرة المكتنفة بالثلوج المتجلدة رمز البلاد المغمورة بالذل والهوان، فوقف وقفة نبي يسمع صراخ الأجيال، وتغيرت ملامحه واتسعت عيناه كأن نفسه قد أبصرت جميع أمم المشرق سائرة تجر قيود العبودية في تلك الأودية، فرفع كفيه نحو العلاء وبصوت يشابه ضجيج الأمواج صرخ قائلًا: «من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا، من جوانب هذه الظلمة ترفع أَكُفَّنَا نحوكِ فانظرينا، وعلى هذه الثلوج نسجد أمامك فارحمينا، أمام عرشكِ الرهيب نقف الآن ناشرين على أجسادنا أثواب آبائنا الملطخة بدمائهم، عافرين شعورنا بتراب القبور الممزوج ببقاياهم، حاملين السيوف التي أُغْمِدَتْ بأكبادهم، رافعين الرماح التي خرقت صدورهم، ساحبين القيود التي أبادت أقدامهم، صارخين الصراخ الذي جرح حناجرهم، نائحين النواحَ الذي ملأ ظلمة سجونهم، مصلين الصلاة التي انبثقت من أوجاع قلوبهم، فأصغي أيتها الحرية واسمعينا، من منبع النيل إلى مصب الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس متموجًا مع صراخ الهاوية، ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزاع الموت، ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوِك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة، فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا: في زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والهوان تُقرع أمامك الصدور، وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة تُطرح لديك القلوب، وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحن إليك الأرواح، فانظري أيتها الحرية وارحمينا … في المدارس والمكاتب تناجيك الشبيبة اليائسة، وفي الكنائس والجوامع يستميلك الكتاب المتروك، وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشريعة المهملة، فأشفقي أيتها الحرية وخلصينا … في شوارعنا الضيقة يبيع التاجر أيامه ليعطي أثمانها إلى لصوص المغرب، ولا من ينصحُهُ، وفي حقولنا المجدبة يحفر الفلاح بأظافره، ويزرعها حبات قلبه، ويسقيها دموعه، ولا يستغل غير الأشواك ولا من يعلمه، وفي سهولنا الجرداء يسير البدوي عاريًا حافيًا جائعًا ولا من يترأف عليه، فتكلمي أيتها الحرية وعلمينا.
نعاجنا ترعى الأشواك والحسك بدلًا من الزهور والأعشاب، وعجولُنا تقضم أصول الأشجار بدلًا من الذرة، وخيولنا تلتهم الهشيم بدلًا من الشعير فهلمي أيتها الحرية وأنقذينا.
منذ البدء وظلام الليل يخيم على أرواحنا فأي متى يجيء الفجر؟ من الحبوس إلى الحبوس تنتقل أجسادنا والأجيال تمر بنا ساخرة فإلى متى نحتمل سخرية الأجيال؟ ومن نير ثقيل إلى نير أثقل تذهب أعناقنا وأمم الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا فإلامَ نصبر على ضحك الأمم؟ ومن القيود إلى القيود تسير ركابُنا فلا القيود تفنى ولا نحن ننقرض. فإلى متى نحيا؟
من عبودية المصريين إلى سَبْيِ بابل إلى قساوة الفرس إلى خدمة الإغريقيين إلى استبداد الروم إلى مظالم المغول إلى مطامع الإفرنج فإلى أين نحن سائرون الآن، وأي متى نبلغ جبهة العقبة؟
من مقابض فرعون إلى مخالب نبوختنصر إلى أظافر الإسكندر إلى أسياف هيرودس إلى براثن نيرون إلى أنياب الشيطان فإلى يَدِ من نحن ذاهبون الآن وأى ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم؟
بعزم سواعدنا قد رفعوا أعمدة الهياكل والمعابد لمجد آلهتهم، وعلى ظهورنا قد نقلوا الطين والحجارة لبناء الأسوار والبروج لتعزيز حماهُم، وبقوى أجسادنا قد أقاموا الأهرام لتخليد أسمائهم، فحتى متى نبني القصور والصروح ولا نسكنُ غير الأكواخ والكهوف، ونملأ الأهرام والخزائن ولا نأكل غير الثوم والكراث، ونحوك الحرير والصوف ولا نلبس غير المسوح والأطمار؟
بخبثهم واحتيالهم قد فرقوا بين العشيرة والعشيرة وأبعدوا الطائفة عن الطائفة، وبَغَّضُوا القبيلة بالقبيلة، فحتى متى نتبدد كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية، ونتصارع كالأشبال الجائعة بقرب هذه الجيفة المنتنة؟»
«لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلَّحوا الدرزي لمقاتلة العربي وحمَّسوا الشيعي لمصارعة السني ونشطوا الكردي لذبح البدوي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة وإلامَ يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله؟
أصغي أيتها الحرية واسمعينا، التفتي يا أم ساكني الأرض وانظرينا فنحن لسنا أبناء ضرَّتِك، تكلمي بلسان فرد واحد منا، فمن شرارة واحدة يشتعل القش اليابس، أيقظي بحفيف أجنحتك روح رجل من رجالنا، فمن سحابة واحدة ينبثق البرق وينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال، بددي بعزمك هذه الغيوم السوداء وانزلي كالصاعقة واهدمي كالمنجنيق قوائم العروش المرفوعة على العظام والجماجم المُصَفَّحَةِ بذهب الجزية والرشوة، المغمورة بالدماء والدموع.»
«اسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أنقذينا يا أخت رومة، خلصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة محمد، علمينا يا عروسة يسوع، قوي قلوبنا لنحيا أو شددي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح.»
كان خليل يناجي السماء وعيون الفلاحين محدقة به، وعواطفهم تنسكب مع نغمة صوته، ونفوسهم تتطاير مع أنفاسه، وصدورهم تخفق بنبضات قلبه، فكأنه أصبح منهم في تلك الساعة بمنزلة الروح من الجسد، ولما انتهى من مناجاته التفت نحوهم وقال بهدوء: «قد جمعنا هذا الليل في منزل الشيخ عباس لكي نرى نور النهار، وأوقفتنا المظالم أمام هذا الفضاء البارد لكي نتفاهم وننضم كالفراخ تحت جناحي الروح الخالدة، فليذهب الآن كل منا إلى فراشه لينام مترقبًا لقاء أخيه في الصباح.»
قال هذا ومشى متبعًا خطوات راحيل ومريم إلى كوخهما، فتفرق إذ ذاك الجمع وذهب كلٌّ إلى بيته مفكرًا بما سمعه ورآه شاعرًا بملامس حياة جديدة في داخل نفسه.
ولم تمر ساعة حتى انطفأت السرج في الأكواخ وألقت السكينة وشاحها على تلك القرية وحملت الأحلام أرواح الفلاحين تاركة روح الشيخ عباس ساهرة مع أشباح الليل مرتعدة أمام ذنوبه متعذبة بين أنياب هواجسه.
٨
مرَّ شهران وخليل يسكب سرائر روحه في قلوب أولئك القرويين محدثًا إياهم في كل يوم عن غوامض حقوقهم وواجباتهم، مصورًا لبصائرهم حياة الرهبان الطامعين مرددًا على مسامعهم أخبار الحكام القساة، جاعلًا بين عواطفه وعواطفهم صلة قوية شبيهة بالنواميس الأزلية التي تقيد الأجرام ببعضها بعضًا، فكانوا يصغون إليه بفرح يضارع بهجة الحقول الظمآنة بانهطال الأمطار، ويرددون كلامه في خلوتهم ملبسين نسمات مقاصده أجسادًا من محبتهم غير حافلين بالخوري إلياس الذي أصبح يتزلَّف إليهم منذ ظهور جريمة حليفه الشيخ، ويقترب منهم لينًا كالشمع بعد أن كان صلبًا كالرخام.
أما الشيخ عباس فقد أصيب بعِلَّةٍ في نفسه شبيهة بالجنون، فكان يسير ذهابًا وإيابًا في رواق منزله كالنمر المسجون، وينادي خدامه بأعلى صوته فلا يجيبه غير الجدران، ويصرخ مستنجدًا برجاله، فلا يأتي لمعونته غير زوجته المسكينة التي عانت من خشونة طباعه ما قاساه الفلاحون من مظالمه واستبداده، ولما جاءت أيامُ الصوم وأعلنت السماء قدوم الربيع انقضت أيام الشيخ بانقضاء زوابع الشتاء فمات بعد نزاع موجِع مخيف، وذهبت روحه محمولة على بساط أعماله لتقف عارية أمام ذلك العرش الذي نشعر بوجوده ولا نراه، وقد اختلفت آراء الفلاحين في سبب موته، فكان بعضهم يقول قد اختل شعوره فقضى مجنونًا وبعضُهم يقول قد سمم اليأس حياته عندما زالت سطوته فمات منتحرًا. أما النساء اللواتي ذهبن لتعزية زوجته فأخبرن رجالهن بأنه مات خائفًا مرتاعًا؛ لأن شبح سمعان الرامي كان يظهر له مرتديًا أثوابًا ملطخة بالدماء ويقوده كُرهًا عندما ينتصف الليل إلى المكان الذي وجد فيه مصروعًا منذ خمسة أعوام.
•••
وأعلنت أيام نيسان لسكان تلك القرية سرائر الحب الخفية الكائنة بين روح خليل وروح مريم ابنة راحيل فتهللت وجوههم فرحًا، ورقصت قلوبهم ابتهاجًا، ولم يعودوا يخشون ذهاب الشاب الذي أيقظ قلوبهم إلى محيط أوسع وأرقى من وسطهم فطافوا يبشرون بعضُهم بعضًا بصيرورته جارًا قريبًا وصهرًا محبوبًا لكل واحد منهم.
ولما جاءت أيامُ الحصاد خرج الفلاحون إلى الحقول وجمعوا الأغمار على البيادر ولم يكن الشيخ عباس هناك ليغتصب الغلة ويحملها إلى أهرائه ومخازنه بل كان كل من الفلاحين يستغل الحقل الذي فلحه وزرعه فامتلأت تلك الأكواخ من القمح والذرة والخمر والزيت.
أما خليل فكان يشاطرهم الأتعاب والمسرات ويساعدهم بجمع الغلة وعصر العنب واجتناء الأثمار، ولم يكن يميز نفسه عن الواحد منهم إلا بمحبته ونشاطه.
منذ تلك السنة إلى أيامنا هذه أصبح كل فلاح في تلك القرية يستغل بالفرح الحقل الذي زرعه بالأتعاب، ويجمع بالمسرة ثمار البستان الذي غرسه بالمشقة، فصارت الأرض ملكًا لمن يفلحها، والكروم نصيبًا لمن ينقبها ويحرثها.
والآن وقد انقضى نصفُ قرن على هذه الحادثة، وراودت اليقظةُ أجفانَ اللبنانيين، يمر المسافر على طريقه إلى غابة الأرز ويقف متأملًا بمحاسن تلك القرية الجالسة كالعروس على كَتِفِ الوادي فيرى أكواخها قد صارت بيوتًا جميلة مُكْتَنَفَةً بالحقول الخصبة والحدائق الناضرة، وإن سأل أحد سكانها عن تاريخ الشيخ عباس يجبه مشيرًا نحو حجارة متقوضة وجدران مهدومة مرتمية قائلًا: «هذا قصر الشيخ عباس وهذا هو تاريخ حياته.» وإن سأله عن خليل يرفع يده إلى العلاء قائلًا: «هناك يسكن خليلنا الصالح، أما تاريخُ حياته فقد كتبه آباؤنا بأحرف من شعاع على صفحات قلوبنا فلن تمحوه الأيام والليالي.»
١ وهو أغنى وأشهر دير في لبنان تقدر حاصلاته بألوف الدنانير يسكنه عشرات من الرهبان المعروفين بالبلديين، وقزحيا لفظة سريانية معناها «فردوس الحياة».٢ الأمير أمين شهاب هو ابن الأمير بشير الكبير وقد حكم الجبل بعد موت أبيه