قال عنه غاندي إنه "منارة الهند". والحق إنه صار منارة للشرق كله، ونداء الإنسانية والمحبة والجمال. كان مبدؤه البساطة والعمل؛ وهكذا فقد أضاء شمعة بدلاً من لعن الظلام، فسطعت وأضاءت في النفوس التوّاقة إلى الحق. لذا، كان ُيعدّ في حياته "أكثر الشعراء صوفية وأكثر الصوفيين شاعرية"؛ وفي ذلك دلالة على ما بلغته نفسه من نقاء وصدق وما وصلت إليه روحه من ارتقاء وحرية.
إنه طاغور الذي سحر الغرب بكتاباته، ثم انتشرت ترجماته في العالم كله، حتى استحق جائزة نوبل للأدب عام 1913. لقد أبدع طاغور على مدى نحو ستين عاماً، فكان معلماً روحياً بالدرجة الأولى، ومجدداً أدبياً واجتماعياً، وفيلسوفاً وروائياً ومسرحياً ورساماً، وقبل ذلك كله شاعراً، كان ينهل من إرث روحي عريق في البنغال، ومن تجربة داخلية عميقة كانت ينبوعاً لا ينضب للإلهام والإبداع.
كان والده من كبار روحانيي البنغال، وكان يعيش في عزلة مستمرة لا يتركها إلا لضرورة الاستمرار وتجدد الحياة. كذا فقد نشأ رابندرانات طاغور في جو من الحساسية والشفافية، وكشفت له زيارتان قام بهما لوالده في الهملايا عن آفاق جديدة وعن تجربة صوفية كان لها أثر كبير في حياته، ويمكن اختصارها بعبارتين: محبة الطبيعة، ومحبة الله.
*** *** ***
ولد طاغور في عام 1861. وفي الرابعة عشرة من عمره توفيت والدته. واكتشف طاغور في هذا العمر معنى الحب الإنساني عند إحدى قريباته. وفي أحد أيام عام 1883، عرف طاغور في رؤيا أن الحب الإنساني واحد مع حب الطبيعة وحب الله؛ يقول في ذكرياتـه:
كانت الشمس تشرق بتؤدة فوق أوراق الأشجار […]؛ وفجأة، بدا وكأن نقاباً انزاح من أمام ناظري. لقد أبصرت العالم كله مغموراً بمجد يفوق الوصف؛ أمواج من الفرح والجمال تومض وتتصادم من كل صوب […] لم يكن ثمة شيء أو أحد لم أكن أحبه في تلك اللحظة […] وفي كلية رؤياي لاح لي أنني كنت شاهداً على حركات جسم الإنسانية بأسرها، شاعراً بموسيقى وبإيقاع رقصة سرية.
في العام التالي انتحرت شقيقته، مما سبب له صدمة هائلة. وقاده ذلك إلى محبة الإنسانية جمعاء، بدلاً من التمسك بالحب الفردي والخاص. وتتالت الأحداث المؤلمة في حياته، لكنها كانت تعضد باستمرار روح اللاتعلق عنده. فبين عامي 1902 و 1918، انتزع منه الموت زوجه وثلاثة من أطفاله ووالده. لقد أحس إنه مثل زهرة انتُزِعت بتلاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمرة التي سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها كتقدمة لرب الحياة. ومع ذلك، فقد جعل منه صفاؤه الواسع وضبطه لنفسه وخضوعه أمام الله الذي ورثه من والده، إنساناً نادر العظمة. لم يكن الموت سراً بالنسبة له، ولم يكن ليستدعي الألم. وهكذا، كانت إحدى أغنياته التي استلهمها غاندي منه تقول:
أنا هذا البخور الذي لا يضوع عطره ما لم يُحرق،
أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعَل.
كان طاغور يتمتع بموهبة تحويل الألم إلى فرح. وكان يحب الحياة إلى حد أنه أراد ألا يضيع قداستها بالوقوف عند ما تسببه حركتها من شعور بالألم. كانت مهمته مزدوجة: اكتشاف ربه، إله الجمال، في الطبيعة والجسد والفكر والقول والفعل، وتحويل الحياة وتعديلها لتصبح جميلة بكليتها. كتب في الـسادهانا ("تحقيق الحياة"):
أين يمكنني أن ألقاك، إن لم يكن في بيتي الذي أصبح بيتك؟ وأين يمكنني الانضمام إليك، إن لم يكن في عملي الذي صار عملك؟ إذا غادرت بيتي لن أبلغ بيتك… إذا قعدت عن عملي محال عليّ أن أنضم إليك في عملك؛ إذ إنك تقيم فيّ وأنا فيك.
لقد انعكست روحه هذه على مركز التربية شانتي نيكيتان (أو "مرفأ السلام") الذي أسسه عام 1901، فأصبح بؤرة ديناميّة خلاقة لهذا الجمال، حيث تفتح فيه الشعر والرسم والموسيقى والرقص والمسرح والعلوم. لقد حقق طاغور من خلال هذه المدرسة الرؤيا التي عبر عنها في مؤلفه الوحدة المبدعة، حيث تعطي الطبيعة للإنسان معنى التوق إلى اللانهائي. فالإنسان في الطبيعة إنسان حرّ، "ليس في اعتبار الطبيعة كمصدر لتأمين معيشته، بل كينبوع لتحقيق انجذابات روحه إلى ما هو أبعد منه هو نفسه."
لقد فجّرت المعاني السامية للمحبة التي عبر عنها في جيتنجالي أملاً جديداً للإنسانية وهي غارقة في الحرب العالمية الأولى. وعندما كان طاغور يرتقب الموت مريضاً ببصيرة صافية، وكانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، أعلن في يوم مولده الثمانين:
عندما أجول ببصري من حولي، أقع على أطلال مدنية مغرورة تنهار وتتبعثر في أكوام هائلة من التفاهة والعبث. ومع ذلك فلن أذعن للخطيئة المميتة في فقدان الإيمان بالإنسان؛ بل إنني بالحري سأثبِّت نظري نحو مطلع فصل جديد من فصول تاريخه، عندما تنتهي الكارثة ويعود المناخ رائقاً ومتناغماً مع روح الخدمة والتضحية […] سيأتي يوم يعاود فيه الإنسان، ذلك الكائن الأبيّ، خطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل، ليعثر على ميراثه الإنساني الضائع.
كانت فلسفة طاغور فلسفة الأمل والثقة بالإنسان، المبنية على تفتح روحه، وتطور وعيه، وتحقيق طاقاته. ولهذا فقد ارتبطت المثالية الإنسانية عند طاغور بالعمل والتطبيق، وكان هو نفسه مثالاً لكل مبدأ أعلنه أو فكرة نادى بها.
المثالية الإنسانية والعالم
قد يصعب علينا أن نحدد بدقة منهجية ما نقصده بالمثالية الإنسانية. يكمن المثال الإنساني فيما نستطيع تحقيقه على صعيد المبادىء الجوهرية للمحبة والمعرفة. فالمثالية هنا هي العمل الدؤوب للارتقاء بالحياة. وفي منظور طاغور فإن استمرار هذا العمل هو الذي يخلق ويهذب الروح المتحررة والنقية. فالأخلاق عند طاغور لا تتقيد بحواجز الشرائع الصارمة، بل هي عمل مبدع يتم على الذات، كما وعلى الأشياء، فيحرر المعاني الكامنة في الطبيعة، ويطلقها إلى ما وراء حدود الخوف والقلق. إن تجلي الجمال الكامن في الكون والإنسان يثبّت حقيقة السلام، لاالصراع، والمحبة، لا البغضاء، والوحدة، لا الكثرة. وهكذا، "ندرك أن الإبداع هو التناغم الأبدي بين المثال اللانهائي للكمال والاستمرارية الأزلية لتحقيقه؛ وبقدر ما لا يكون ثمّ تفريق تام بين المثال الإيجابي والحاجز المادي الذي يعترض اكتماله، يجب علينا ألا نخشى الألم والموت."
يسمي طاغور هذه المثالية بـ"ديانة الشاعر"، لأنها مثالية تفلت من الاعتقادات المتصلبة والطائفية. فهي مرنة وغير محدودة، ولا تريد تقييد اللانهائي وترويضه من أجل مصالحنا، بل تسعى بالحري لمساعدة وعينا على الانعتاق من المادية. وفي حين تُصمّم الأسئلة كلها في العقائد الضيقة بأسلوب محدد، وتُطمأن بالشكوك كلها في النهاية، فإن ديانة الشاعر مثل الهواء الذي يحيط بالأرض، لا تلتزم أبداً بقيادتنا نحو خاتمة محددة، وتكشف في الوقت نفسه أفلاكاً لانهائية من النور لأنها غير محاطة بجدران تحدّها. إنها تختبر أعمال الشر، وتتقبل بانفتاح التعب والمرض والإهانات من العالم، لكنها تذكرنا أن هناك، رغم كل شيء، غناء العندليب الذي لا يعطينا إجابات محددة بل موسيقى تملأ كياننا.
"إنما اللباقة تتويج للأخلاق الحميدة." بهذه العبارة الموجزة والعميقة يختصر طاغور رؤياه للمثالية المطبقة في العالم. فكمال اللباقة يتطلب الصبر وتهذيب النفس وتنظيم الوقت. ذلك أن اللطف الحقيقي إبداع، مثل الرسم والموسيقى. إن هدف اللباقة تجلي الإنسان نفسه. إن تعاملنا مع العالم، مع الإنسان ومع الطبيعة، يعكس لطفنا وذوقنا ومثالنا.
لقد تطورت مدنياتنا خلف الأسوار والحصون، وفصلت الإنسان تدريجياً عن الطبيعة، وباعدت بين الثقافات، الأمر الذي أدى إلى خشية الإنسان من كل ما يقع خارج الحواجز التي بناها. وشيئاً فشيئاً استعاض الإنسان عن اللطف الذي كان يستمدّه من التنوع الطبيعي، والذي يجد صداه في أعماقه، بحب السيطرة على الطبيعة والرغبة بالانتفاع منها فقط، ففقد بذلك الكثير من روح اللباقة والمثالية فيه. ويعطينا طاغور مثالاً على ذلك استخدام الناس لأوعية الوقود الفارغة لنقل الماء؛ فهذه الأوعية العنيفة والخشنة كما يصفها لا تخجل من فظاظتها ولا تهتم لشيء سوى أن تكون نافعة. ومع ذلك، يبرهن أناس كثيرون أن ثمة ما هو أكثر أساسية من الحصول على العيش الرغيد والرفاهية، وأن فيهم مثال الكمال والشعور بالوحدة وفعل التناغم بين الأشياء، وأنهم متناغمون مع ما يحيط بهم، وذلك بلطفهم ولباقتهم.
يمكننا أن ننظر إلى طريقنا في هذا العالم بحسب منظورين: الحواجز التي تفصلنا عن أهدافنا - وعندئذٍ تكون كل خطوة في مسيرتنا أرضاً نكسبها بالقوة والجهاد؛ أو نرى فيه ما يقودنا إلى قدرنا – وفي هذه الحالة يشكل الطريق جزءاً من هدفنا، وما نحققه في سيرنا عليه هو ما يقدمه لنا آنياً. ويعكس ذلك التناغم مع العالم، والعمل فيه على أساس الوحدة معه لا الانفصال عنه. فبالنسبة لطاغور ليست مكوِّنات العالم، كالماء والتراب والثمار، ظواهر فيزيائية نستخدمها ثم نتركها بعد الانتفاع منها، بل هي ضرورية لبلوغ مثال الكمال لأنها لا تخرج عن وحدة الكل.
ليست حقيقة هذا العالم في كتل المادة ولا في عدد الأشياء فيه، بل في صلاتها فيما بينها التي لا نستطيع عدّها وقياسها وتجريدها. إن معرفتنا للعالم هي رؤية التناغم بين أجزائه. فالمادة تجريد، ولن نستطيع فهم ماهيتها أبداً. ذلك أن ما يسترعي انتباهنا دائماً ليس المطبخ، إنما المأدبة، ليس تحليل، العالم بل مكوناته، ليس روابط الوحدة ومعنى الكلية، بل أصناف الأجزاء وأشكالها. كذا فإننا نفقد شيئاً فشيئاً صلتنا مع الحقيقة كلما ابتعدنا في بحثنا عن النجاحات الخارجية عن الروحانية والمعنى العميق الذي يربطنا بالعالم. إن تناولنا للظواهر المادية على هذا النحو يصير مدمراً، إلى أن نفسح للرؤية الكلية وللواء الوحدة والتناغم مكاناً بينها. إن جشعنا للطعام بشع وأناني بحد ذاته، وليس فيه أي اهتمام باللباقة؛ لكننا عندما نُخضِعه لمثال الأخوّة الاجتماعية نتمكن من تنظيمه وجعله مقبولاً، فيصبح عندئذ سروراً يومياً للحياة. كذلك هو الدافع الجنسي في الطبيعة الإنسانية عندما يتحول إلى انفعال ونزوة، فيصير فردياً ومهدِّماً؛ لكنه عندما يُضبط بمثال المحبة، فإنه يتفتح في جمال كامل ليصبح رمز صلة الإنسان مع اللانهائي فيه. وهكذا فإن الوحدة هي التي تتجلى في الكثرة، التي، رغم تبايناتها، تُتِمّ تكشُّف مثال الوحدة فيها. كذا، يجب ألا يكون الفضول العلمي وحده، أو البحث عن مزيد من الطاقات، هما محرض تواصلنا مع الكون، بل الوعي بأن لهذا الكون معنى حيوياً بالنسبة لنا.
ليس الإنسان في جوهره عبداً لنفسه ولا للعالم، بل هو عاشق لهما. فحريته تكمن في المحبة التي ليست سوى تسمية أخرى للفهم الكامل. وبهذه القدرة على الفهم يتحد الكائن مع الروح الذي يتخلل كل شيء. إن معرفة هذه الروح الكلية تستدعي السجود لها بفرح عظيم. فهي الحقيقة الوحيدة التي تجعل كافة الوقائع والمظاهر حقيقية. إن تحقق المثالية الإنسانية لا يتم إلا برؤيا الوحدة التي تجمع الإنسان والعالم.
معرفة النفس
يتأسس فعل المعرفة على وحدة الأشياء والكائنات. والمعرفة في الجوهر هي معرفة النفس. فما نعرفه عن العالم بمعزل عنا لا يعدو كونه جملة من المعلومات النسبية. إن تفتح وعي الإنسان هو تفتح عالمه الداخلي. "لو كان تفتح الوعي يتم خارج النفس لكان يجب أن يتم بلانهاية. ذلك أن الوقائع متعددة ولانهائية، أما الحقيقة فواحدة." تقول الأوبانيشاد: "اعرف الروح الذي هو روحك." ويفسر طاغور ذلك بقوله: "حقق المبدأ الوحيد والعظيم للوحدة القائم في جميع الناس."
تُعمي رغباتنا الأنانية رؤيتنا الحقيقية للروح. والحق أن النفس لا تجد معناها إلا في التواحد مع الآخر؛ وفي ذلك فرحها أن تجد ذاتها في الآخرين. ومع ذلك فالمحبة أشمل وأوسع من علاقة الفهم الجزئية هذه. فبالمحبة تجتاز الروح حدودها إلى اللانهائي ويختفي معنى الاختلاف تماماً.
"كذا، فإن مفتاح الوعي الكوني، وعي الله، كامن في وعي النفس. ومعرفة النفس بعيداً عن الأنا الضيقة هي الخطوة الأولى باتجاه الانعتاق الأسمى." إن جوهر هذه المعرفة هو المحبة، محبة العالم بما هو واحد معنا، ومحبة الذات بما نحن روح وقبس من اللانهاية. وهذا يعني أننا نستطيع الارتفاع إلى هذه الروح فوق كل رغبة وحقد وخوف، حتى نعلم أن فقدان الأشياء المادية وحتى الموت لا يحرماننا من حقيقة الروح.
إن طاغور لا يطلب منا التخلي عن العالم والانعزال عنه، بل الوصول إلى معناه الأعمق بالتخلص من الأنانية. فطاغور لا يؤمن بالتبشير، ذلك أن المعرفة لاتُحدّ بعقيدة أو طريقة أو منهج. إنما "الحقيقة بلاد لا طرق فيها"، كما يقول كريشنامورتي. إن المعرفة هي العمل على الذات، وتنقيتها المستمرة من الشوائب المترسبة في النفس. "وعندما نجد محور روحنا بالقوة التي توحّد العناصر المتنازعة كلها، تتحول خواطرنا المفكَّكة كلها إلى حكمة، وتجد خلجات قلوبنا كمالها في المحبة، وتنجلي غايات الأبدية في أدق تفاصيل حياتنا. وهكذا فإننا لا نرى الواحد العلوي فينا بالمران أو بالتعليم، بل بالبصيرة المباشرة. يساعدنا الحكماء والمعلمون على فهم أنفسنا وإدراك حقيقة العالم، لكننا نحن من يجب أن يقوم بالعمل العظيم والدؤوب في تنقية نفوسنا حتى يشع النور فينا. إن المعرفة لا تُحصَّل تحصيلاً، ولا تُحقَّق جزءاً فجزءاً، ولو استمر الأمر إلى ما لانهاية. ولهذا يقول طاغور إن أعمق صلاة تصعَّدت من قلب الإنسان كانت: " أيها الواحد المتجلي بذاته، تجلَّ فيّ." إن الخطيئة في نظر طاغور هي تخلي المرء عن كلِّه ليربح جزءاً. وذلك ما يحجب عنا صفاء المعرفة. وعندما تلتقي نهائيّتنا مع اللانهائي تزول الخطيئة، ويتجلى "الواحد المتجلي بذاته" في روحنا.
يقودنا ذلك إلى تناول مسألة الشر في منظور المثالية الإنسانية.
المثالية ومسألة الشر
ليس ثمة شرّ بذاته، فالشر هو جهل ونقص في المعرفة والوعي. إن تعلقنا بالجزء دون الكل يحجب عن بصيرتنا رؤيا وحدة العالم في قلب تعدده وتنوعه وثنائيته. "نحن نرى الشرّ متأصلاً لأننا نعطيه شكلاً ثابتاً، في حين أنه متحرك مع حركة الطبيعة. فحركة الموت والحياة حركة واحدة لا يكون فيها الموت حداً نهائياً." وضمن هذه الحركة الكلية، يتمثل الخير في تنبهنا للتوق العميق فينا ولمعنى وجودنا واتجاهه نحو الوحدة والحقيقة، ويكون الشرّ بالتالي عدم الاهتمام بهذا التوق وإسكاته والانصراف عنه.
إن حرية الإنسان ليست في التحرر من الألم، بل في احتماله وتحويله إلى إيجاب وإلى فرح. ولا يتحقق لنا ذلك "إلا عندما ندرك أن نفوسنا الفردية ليست الحقيقة الأسمى في وجودنا، وأن فينا الإنسان الكوني الخالد الذي لا يخشى الموت والألم، والذي يرى في الألم الوجه الثاني للفرح." هكذا نتعلم أن نحول شعورنا السلبي بالألم إلى ثراء من القوة والحكمة والحب.
إن الخلاص الحقيقي هو الخلاص من الجهل أفِديا. فالجهل هو الذي يجعلنا مقيدين بأنفسنا، فنظن أننا غاية أنفسنا ووجودنا. علينا ألا نستكين للشعور بالنقص أو للأنانية، فنستغل أي شعور بالألم لتعظيم وتمجيد نفوسنا. فنحن بذلك إنما نطبق الشر. إنما الألم هو "العذراء الطاهرة المكرَّسة لخدمة الكمال الخالد، وحين تأخذ مكانها إلى جانب مذبح اللانهاية تنزع نقابها الأسود وتكشف وجهها لرائيها كأعظم تجلّ للفرح العلوي."
يشبّه طاغور حقيقة الألم بالمصباح الذي يحوي الزيت ويحفظه في وعائه المقفل كيلا يضيع. لكن غايته الحقيقية ليست في فصل الزيت وعزله عن الأشياء من حوله وإلا فسيكون مثالاً للتعاسة وللشرّ. ويجد الزيت معناه حين يضيء فيحقق صلته بالأشياء ويصبح حراً بما هو داخل وعاء المصباح. إن نفسنا تشبه هذا المصباح؛ فهي تبقى مظلمة مادامت تدخر ممتلكاتها وتقبع في عزلة أنانيتها. لكنها، إذ تجد نورها، ترفعه وتمدّه لأنه معناها وقد وجدته. كذا فإن الطريق الذي أشار إليه البوذا ليس الزهد في النفس، بل رحابة المحبة والتضحية. فالمحبة هي طريق الاستنارة لأنها الاستنارة. ولهذا فإن من يسلك هذا الطريق لا يسأل لماذا، لأن المحبّ لا يسأل لماذا أحبّ! "لأن المحبة مكتفية بالمحبة…". "إنما بالمحبة الكاملة نكتشف حرية أنفسنا. فوحده ما يتم بمحبة يتم بحرية، مهما كان مؤلماً."
ثمة رغبات فينا نحتاج إلى إشباعها، لكن ثمة أيضاً فينا قانون عضوي كلي يسعى دائماً للحفاظ على صحتنا وتوازننا. وكذلك المجتمع محكوم بالتنافس والصراع، لكن ثمة فيه أيضاً إرادة جمعية أعلى تشده إلى الخير. إن خلاص طبيعتنا العضوية يكون في نيل الصحة، ويكون خلاص كائننا الاجتماعي في نيل الخير، ويتحقق خلاص نفوسنا، بالتالي، في نيل المحبة. إن خلاص نفوسنا يتم بعبورها من الصورة السلبية للحرية الأنانية، المتمثِّلة بالفوضى، إلى الصورة الإيجابية للحرية ممثلة بالوعي والمحبة.
المثالية والتحقيق
تبدو المثالية للوهلة الأولى عصية على التحقيق، ولهذا يعدّها الكثيرون عكس "الواقع" الذي لا يحكمه أي انتظام. والحق إن فهمنا للواقع فهم سطحي غالباً، إذ يقتصر على رؤية المتناقضات دون فهم أصولها، ودون رؤية حركتها الكلية في صيرورة الوجود الغائية.
"إن المتعارضات لا تجلب الشواش إلى العالم، بل التناغم." وتؤيد الفيزياء الحديثة هذه الرؤيا، حيث تولّد المنظومات الشواشية حالات الانتظام الذاتي. إن ما ندركه من إيقاعات في الكون لا يمكن أن ينتج عن مصادفات الصراع، بل إن مبدأه الأساسي هو الوحدة، سرّ الأسرار كلها. وهكذا، كما يتجلى الواحد في التنوع والكثرة، فإن الواقع لا يحقق معناه إلا في مثالية الوحدة. يتبع....