قصة بناء ضريح الرخام المرمري
للقديس ايليان الحمصي
المهندس جورج فارس رباحية
في تلك الأيام (1) كان يسكن حمص رجل يهودي المذهب ذو ثروة طائلة منحته الزعامة بين ذويه وموضع احترام من ذوي السلطة التي تحتاج آنذاك إلى الاقتراض منه . توفّيت امرأته ولم يكن له منها سوى ابنة واحدة ، ولحبه الكبير لزوجته أبى أن يتزوّج بعدها فعاش مع ابنته أستير التي كان يحبـــها كثيرا ، فهيّأ لها كل أســــــباب الرفاهية والسرور كما أنها رفضت الزواج وقد تجاوزت الثلاثين ربيــــعاً لتبقى مع أبيها . غير أن السعادة في هذه الدار قصيرة الأمد وإن طالت ، فالفتاة بدأت تشــــعر بآلام داخلية في أحشائها (2) ، بداية لم تعبأ بها ، لكن نوبات الألم أصبحت صعبة الاحتمال ، وللحال استقدم لها أشهر الأطباء دون جدوى وبقيت على هذه الحال ثلاث سنوات وكبر حجم بطنها ، وكانت عند الفتاة خادمة مسيحية وكثيرا ما كانت تعرض عليها زيارة قبر القديس ايليان وطلب معونته لشفائها فلم توافق معها لتعصّبها بدينها ، وقالت لها الخادمة بأن الكثيرين يقصدون قبره ويبيتون عنده ويظهر لهم في الحلم فيصف لهم الدواء او يلمس مكان الألم ويعودون معافين . فقالت لها الفتاة كيف أطلب المعونة من طبيب نصراني ميت وأنا بنت اسرائيل ؟ .
استرجعت استير بينها وبين نفسها كلام الخادمة ، فقبلت ما عرضته الخادمة عليها فطلبت من أبيها أن يحضر لها عربة لتتجوّل بها مع خادمتها في شرق المدينـــــة ، فأحضر لها ما طلبت ، وسارت العربة باتجاه ضريح القديس ايليان وفي الطـــريق انتابتها نوبة ألم غابت فيها عن الوعي فأسعفتها الخادمة بالمنعشات وبدت عابســــة الوجه فسألتها الخادمة إن كان قد تراءى لها القديس في هذه الغيبوبة ؟ فقالت له ان هذا الطبيب قد يفسد معتقدي لأنه وصف لي أكل لحــــم الخنزير لأبرأ من مرضــي . فإني افضّل الموت عن تنفيذ طلبه . لم يمض وقت طويــــل حتى انتابتها نوبة قويــة فغابت عن الوعي فتراءى لها القديس مرة ثانية وطلب منها استعمال ما وصــفه لها لكي تبرأوإثرَ نوبة ثالثة وأثناء غيبوبتها الحّ عليها القديس استعمال الدواء نفسه وإلاّ لن تُشفى . فوافقت ولكن خشيت غضب والدها فقالت لها الخادمة انا سأحضر قطعة لحم الخنزير وأطبخها وأحضرها لك في صحفة مغطاة لا يراها أحد وعملت الخادمة المطلوب وأعطت الصحفة لأستير وهي مغطّاة ، فرفعت أستير الغطاء عن الصحفة لتأكل منه وإذ بصوت أقدام أبيها في المنزل فأسرعت ووضعت الصحفة بين رجليها وغطّتها بثوبها ، فسألها عن صحتها ، لكنها لم تستطع الرد عليه وشعرت في نفسها بميلها للتقيّؤ ولم تمر لحظات حتى تقيّأت وقذفت علّتها من جوفها وشــــعرت للحال بانتهاء آلامها وصرخت : إني آمنت بإيليان الطبيب الحمصي الشافي فافعل بي يا أبي ما شئت . فرح الأب فرحا شديداً وقبّلها مهنّئاً لها بالشفاء وقال لها إني معـــك أكون حيث تكونين أعبد ما تعبدين وأمقت ما تمقتين . وهكذا نتصّر الأب وابنته معا وكانا من أكثر الناس إخلاصاً للميسحية .وقدّمت ابنته حليّها وأفخر ما ادّخرته لمقام القديس ، أما ابوها فأحضر نحّاتاً وجلب له قطعتي رخام مرمري فصنع النحّــــــات احداهما ضريحا والأخرى غطاء للضريح ولا يزال هذا الضريح الرخامي إلى الآن من أهم مدافن القديسين في الشرق المسيحي (3) . ونلاحظ أن بناء القبر كان من الجنوب إلى الشمال وهذا يدل على أن الذي بناه أو امر ببنائه غير مسيحي أو مسيحي لا يعرف أصول اتجاه الدفن عند المسيحيين حيث يبنون قبورهم من الشرق إلى الغرب والجدير بالذكر ان ضريح القديس اليان يُعَدّ من أوائل اضرحة القديســـين الذي لا يزال موجوداً حتى الآن بعد أكثر من 1700 عام على استشهاده
4/2/2015 المهندس جورج فارس رباحية
المفــــردات :
(1) ـ لم تحدّد المصــــادر تاريخ تواجد هذه العائلة والمعــــروف أن القديس استشهد في 5/ شباط / 285 م . والحادثة وقعت بعد استشهاد القديس لأن أستير ذهبت لزيارة ضريحه .
(2) ـ إن المخطوطات الحاوية أخبار القديس تروي أن حب هذا الوالد لابنتــه جعله يمنعها من شرب مياه الآبار وكان يحضر لها ماء الشرب من نـــهر العاصي ومرّة طلبت الماء ليلاً فشربت حتى ارتوت دون انتباه من نظافة المياه وإلى وجود سرطان صغير فيها الذي عُرِفَ بعد خروجه من جوفها ( سرطان نهري : حيوان نهري من القشريات العُشارية الأرجل ويختلف عن السرطان العادي بذنبه الطويل ) فكان هو المسبّب في آلامها والمعضلة كانت طريقة إخراجه من جوفــــها بعد أن ازداد حجمه كثيرا .
(3) ـ في عهد الإمبراطور قسطنطين ( 274 ـ 337 )م عـــادت حمص إلى الإيمان المسيحي ففي سنة 313 كان قد صدر قرار ميلانو الشــــهير الذي أعلن حرية الأديان في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية . وأصبح قبر القديس إليان موضع إجلال جميع الناس . ولم تتغلّب المسيحية على الوثنية نهائياً إلاّ في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني ( 408 ـ 450 )م الذي أمر بهدم المعابد وإحراق الأصنام . ففتحت الكناـــــــئس ودُقّت الأجراس وأُقيمت الصلوات علناً في كل مكان . و كان على حمص في تلك الفترة أسقف يُدعى بولس ، فعندما علمَ بسيرة القديس إليان وقصة استشــــهاده ، قرّر أن يبني من ماله الخاص كنيسة على اسم القديس مكان المغارة التي استشهد فيها وأن تُنقَل إليها رفاته ، فأُقيمت شرقي المدينة كنيســــة كبيرة مجهزة بالأعمدة ومزينة بالرخام والفضة .وتم نقل رُفـــــات القديس إليان إليها ووضعها وراء المذبح (الهيكل ) بتاريخ 15/ نيسان /432 م في قبر من الرخام (3) أبعاده :(الطول 23ر2م ، العرض 35ر1م الارتفــــــاع 06ر1م والغطاء هرمي الشكل ويزيّن جوانبه مع الغطاء 11صليباً نافراً ) ومن المرجح انه رُكّب في عام 432 م .
المصــــادر والمراجــــــع :
ـ السواعي الكبير : القدس 1886
ـ إنارة الأذهان في ترجمة الشهيد الحمصي إيليان : الخوري عيسى أسعد 1928
ـ تاريخ حمص الجزء الأول : الخوري عيسى اسعد 1939
ـ القديس إليان الحمصي : جبرائيل سعادة 1974
ـ نشرات صادرة عن دير القديس إليان
ـ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973
ـ مقال عن حياة القديس اليان للمهندس جورج فارس رباحية