مقطع من رواية: الأجراس تقرع في بيت لحم
الكاتب: لطفي حداد
كنتُ في الطريق إلى المهد.. الحصار مضروب منذ ثلاثين يوماً، وقلقي على أسعد ازداد حتى طفح بي الكيل،
فأجلست وردة على كرسيها المتحرك وخرجنا من البيت..
رحنا نسير باتجاه المهد.. كنت أريد أن أرى أسعد، أن أضمّه، أن أقول له: لا تقتل أحداً.. لا توسّخ يديك بالدم!
الدم يبقى لعنة إلى الأبد.. الحقد لا يشفي. كنت أشعر أنني أقترب من لقاء الله..
من موتي الجسدي وكان عليّ أن أبلغ أسعد ما لديّ.
كنت خائفة من الموت.. من سيهتم بوردة؟!
ستموت خلال ساعات إذا لم يطعمها أحد.. ستموت في مقعدها متقلصة جافة كالحطب!
كنت أدفع وردة أمامي وأسير على مهل.. لم أكن قد خطوت كثيراً حين جاءتني أصوات من كل مكان..
أصوات عالية صاخبة لا أفهم معناها!
ازدادت الأصوات وأنا أقترب من باب الكنيسة.. صرت أقول بصوت مرتفع:
أنا ذاهبة لزيارة حفيدي أسعد.. لم أره منذ ثلاثين يوماً.
إنه محاصر في الكنيسة التي ولدت فيها منذ أكثر من ثمانين عاماً،
وأريد أن أقول له: لا تلوث يديك بالدم.. ما علمتكم كان خطأ.. كنت مخطئة جداً..
وهذه صورة الجندي ما تزال مرتسمة أمام ناظري. الموت يلد الموت يا أولادي.. الموت يلد الموت..
السلام يلد الحياة! كفانا موتاً.. كفانا دماءً.
كنت أتكلم بصوت مرتفع.. لا أعرف إن كان أحد قد سمعني، وكنت أقترب مع وردة من باب الكنيسة..
تطلعت إلى الأحجار المثقوبة بالرصاص ورأيت آثار دماء على إحدى النوافذ.. فصرت أتكلم بصوت أعلى.. بدأت أصيح:
توقفوا عن الموت.. هنا ولدت الحياة منذ ألفي سنة.
ولد الذي لا يؤمن بالموت.. الذي يؤمن بالحياة. ولد طفل في بيت لحم.. كان أبواه غريبين..
ولم يكن لديهما مكان، فولدته أمه في مذود. كان قريباً من هنا.. هل يمكن أن نحتفظ له بمكان ليأتي من جديد!
كان صوتي يخترق الأصوات المتعالية حولي.. وكانت وردة تتشنج أمامي في كرسيها كما تفعل حين تكون فرحة،
واقتربت من الباب، كنت أريد أن أدخل لأرى أسعد وأخبره عما أعرف.
أطلّ الخوري من الباب.. نظر إليّ بعينيه البراقتين.. ابتسم بمحبة فياضة، لكن الأصوات المتعالية
تغيرت إلى طلقات رصاص.. إلى أزيز صاخب. بدأت أرى الجدران أمامي تنثقب بسرعة وتتابع..
ثم صارت الأرض تحتي تئن من جراحها، وتخضبت ثقوب الجدران بدماء متناثرة..
وامتلأت جراح الأرض بقطع من لحم.. وانقلب كرسي وردة يميناً ويساراً.. وكنت أراها تتشنج أكثر.
هل كانت فرحة أم خائفة! ورأيت وجه الخوري مضرجاً بالأحمر.. لكن ابتسامة رقيقة ما تزال مرتسمة
على وجهه الطيب الممتلئ بالنور.. وسقط فاتحاً ذراعيه.. وتمدّد ما بقي من جسدي على الأرض..
ثم وقع جسد وردة عليّ.. كان دافئاً مرتخياً هادئاً للمرة الأولى بعد كل تلك السنين!
شعرت ببرودة الأرض.. ودفء الدم اللزج. رأيت أسعد.. رأيته خائفاً غاضباً.. لا.. لا.. لم أفهم نظراته..
لم أعرف إن كان قد سمعني. كانت الأجراس تقرعُ في بيت لحم.. هل سمعني؟! هل سمعني؟!
الأجراس تقرع..الموت آتٍ ليحصدنا كسنابل الحقول
نلوي بأعنقنا لكن القلب لا يخاف ولا يذلّ ولا يهون
الأجراس تقرع وبيتَ لحمَ تتمخّضُ وجعاً وتنزفُ شعباً يئنُّ ولا يموت
يشرب نخبَ الوطنِ الحزين لكنّه لا يموتُ.. لا يموتُ
وتتمخضُ بيتَ لحمَ لتلد سنابلَ جديدةً وعيوناً تتلمّسُ النورَ في خيبةٍ وانكسار
وجباهاً وشفاهاً وأوجاعَ قصيدة
بيتَ لحمَ.. بيتَ لحمَ.. أنتِ الصغيرةُ بين المدائن والكبيرةُ كقلبِ أم والعابقةُ كأنفاسِ الجنائن
والراقصةُ في أعراسِ الدم كغيمةٍ تتعمّد بمائها وقطراتها
الأجراسُ تقرعُ والحبُّ آتٍ في أغصانِ الزيتونِ المهشمّة والعصافير التي لم ترحل عن المآذنِ
الحبُّ آتٍ في نرجسِ العيون الحالمة وزنبق الحقول.. وشقائق النعمان.. والأيادي الملوحة للسلام
يا إله النرجس والزيتون.. والعصافير والزنابق والحقول والأيادي الملوحة للسلام
أعطنا سلامنا كفاف يومنا.. أعطنا أن نتعمد بالموت من أجل الحياة..
أعطنا نعمة الوضوء بالدم لنشفع بشهادتنا كي يخلص الجميع!
أعطنا أن نموت من أجل الحياة.
========================
الكاتب: لطفي حداد
أديب سوري مقيم في ولاية إنديانا، الولايات المتحدة.
عضو في منظمة العفو الدولية، جمعية حقوق الإنسان، جمعية الأدباء العرب الأميركيين، الجمعية العالمية ضد التعذيب، رابطة القلم الأميركية.
أسس مجلة "صدى المهجر" التي تعنى بالأدب العربي المهجري المعاصر.
_________________