مَن هو هذا الفريد في عصره، والشاهد الحيُّ على أن الخَلْق كلَّهم هم عيال الله
وأن لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى
وأن
«ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبدٌ ولا حرٌ، ليس ذكرٌ ولا أنثى لأنكم جميعكم واحداٌ في المسيح يسوع»
(غلاطية 3: 28)؟البطريرك غريغوريوس الرابع1859- 1928
هو غنطوس بن جرجس بن غنطوس الحداد. ولد في غرة تموز 1859 في قرية عبيه بقرب عاليه وترعرع فيها،
وضعه والده في مدرسة عبيه الانجيلية الأميركية سنة 1868 قبل انتقالها إلى رأس بيروت لتصبح الجامعة الأميركية .
وكان علمنا من رعيلها الاول، حيث تلقن فيها علوم العربية، بالإضافة إلى بقية الدروس الابتدائية. فبرز على أقرانه.
لكنه مال إلى الزهد والتأمل منذ صباه. ونشأ على نور الإنجيل متمسكاً به محرزاً فضائل القديسين فكان أقرب إلى الملائكة
منه إلى البشر.
حياته الإكليريكية:في 10 أيار 1872 تبناه ملاك بيروت المطران غفرائيل شاتيلا "الدمشقي" فأدخله كلية الأقمار الثلاثة الأرثوذكسية
في بيروت حيث أتمّ دروسه الثانوية، ثم ألحقه بإكليريكيته التي كان قد افتتحها لرفع شأن الاكليروس الانطاكي.
وفي 24 كانون الأول 1875 إتخذه كاتباً له حتى 19 كانون الأول 1877 حين ألبسه الاسكيم الرهباني في دير سيدة النورية
ثم رسمه شماساً في 29 آب 1879 وأناط به مهام متعددة منها إنشاء جريدة "الهدية" ونيابة رئاسة "جمعية القديس بولس"
التي كان يرأسها وقتئذ "ابراهيم سعد الدمشقي" كما اشرف على طبع كتاب البوق الإنجيلي بجزئيه.
أسقفيته على طرابلس:بعد ترمل أبرشية طرابلس بوفاة مطرانها البار صفرونيوس النجار "الدمشقي" اختاره المجمع الانطاكي المقدس خلفاً له
فرسمه معلمه مطران بيروت قساً في 6 أيار 1890 ثم نال نعمة رئاسة الكهنوت على يد البطريرك الانطاكي جراسيموس
بمشاركة سيرافيم متروبوليت أداسيس ونيقوديموس مطران عكار. وكان ذلك في 10 أيار 1890.
بطريركيته:بعد انتقال مطوب الذكر البطريرك ملاتيوس إلى الأخدار السماوية في 25 كانون الثاني 1906. إنتخبه المجمع الانطاكي المقدس
في 5 حزيران 1906 بطريركاً على أنطاكية بالاجماع، وصادق السلطان العثماني على انتخابه بفرمان سلطاني بتاريخ 6 آب 1906
فنصّب بطريركاً في القداس الإلهي يوم الأحد 13 آب 1906 في الكاتدرائية المريمية بدمشق حيث تسلّم عصا الرعاية
من يد مطران حماه غريغوريوس الأول في المطارنة بحضور العديد من الفعاليات الدينية والسياسية والقنصلية
وجمع غفير من الاكليروس والعلمانيين وسط جو من الخشوع لا يمكن وصفه.
وفي اليوم التالي لتنصيبه أي الاثنين في 14 آب 1906 أرسل كالعادة رسائل الجلوس إلى البطاركة ورؤساء الكنائس الأرثوذكسية
المستقلة. وكانت كنيسة موسكو أسبق شقيقاتها الأرثوذكسيات إلى الاعتراف ببطريركيته إذ أقامت قداساص إلهياً
في كنيسة الأمطوش الانطاكي بموسكو في 13 آب 1906 على نيته. وحذت حذوها جميع الكنائس المستقلة، وأرسلت
رسائل الرد على رسالة الجلوس البطريركية بالمحبة الأخوية. وقد أنعم عليه السلطان بالوسام المجيدي الأول جزاء
إخلاصه وصدق خدمته.
وقامت بطريركيات القسطنطينية وأورشليم و الاسكندرية ورئاسة أساقفة أثينا على التتابع بالرد برسائل محبة عام 1909
بعدما أوقفت الشراكة مع الكرسي الأنطاكي المقدس احتجاجا على تعريب السدة الانطاكية ببطريركية مثلث الرحمات
ملاتيوس الدوماني الدمشقي كأول عربي.
صفاته:كان ورعاً، وديعاً، طاهر القلب، واعظاً بليغاً، وأباً حنوناً محباً للجميع. وكان ضليعاً بالعربية من صرفها ونحوها وبيانها وعروضها.
وبالرياضيات والمنطق، وبالعلوم الشرعية من فقه وميراث وغير ذلك وقد غدا حجة عصره في ذلك كما تشير الوثائق البطريركية
المتمثلة برسائل الأسئلة وأجوبته عليها.
كان ملماً باليونانية والتركية والروسية مطلعاً على العبرية والسريانية والفرنسية والانكليزية. اتصف بولعه بالبحث عن نوادر
المخطوطات، ولذلك وتنفيذاً لرغبته توجه المؤرخ والأديب عيسى المعلوف إلى بعض أرجاء الكرسي الانطاكي وتحديداً
إلى "حلب" للبحث عنها كما تشير رسائله إلى غبطته في عام 1912، واقتنى الكثير منها وأودعها الصرح البطريركي.
وكان يحب المطالعة وخاصة "نهج البلاغة" لعلي بن بي طالب.
سيرته ومآثره:مهما تكلمنا عن مآثره فلن نفيه حقه لما قام به من مكارم الأخلاق وإغاثة الملهوف متخذاً له شعاراً الآية 26 من سفر الأحبار
من الفصل العشرين "وكونوا قديسين لأني قدوس أنا الرب وقد فرزتكم من الأمم لتكونوا لي".
وكان دوماً يردد الآية: "وحسب التلميذ أن يكون كمعلمه" (متى25: 10) إذن حاول التشبه بالمعلم الإلهي الرب يسوع.
وإيماناً منه بضرورة نهضة أنطاكية وإكليروسها، بادر إلى رفع شأن الاكليروس البطريركي عبر خطين متلازمين:
1- ترقيتهم علمياً ولاهوتياً عن طريق مدرسة مار نقولا بدمشق (وكانت في الجهة الغربية من الصرح البطريركي) وبالاهتمام
بالبلمند كرمز لاهوتي لأنطاكية عبر التاريخ.
2- السهر عليهم روحياً حتى أنه كان بنفسه يطوف عليهم في القلاية البطريركية عند الفجر ليوقظهم لأداء الصلاة الباكرية معاً.
ولتأمين الكتب اللازمة في نهجه، كان لا بد له من اقتناء مطبعة في دار البطريركية فحصل على رخصة لاقتنائها عام 1908،
فاقتناها وأوكل أمر إدارتها للشماس توما ديبو المعلوف وطبع فيها مجلة "النعمة" التي استحصل على فرمان سلطاني لإصدارها
عام 1909 وغايته منها نشر حقائق الايمان وبث روح المحبة واحياء الرجاء. وبذا تحقق، ولو بتاريخ متأخر، حلم قديس دمشق
الشهيد يوسف الدمشقي المتمثل بإيجاد مطبعة للبطريركية.
وإيماناً منه بأهمية الدور الرعوي الملقى على كاهله كربان للسفينة الانطاكية المحاطة بخضم هائل من الاستلاب والاحتواء،
جال جولات رعائية في الأبرشيات وأعاد إلى الحظيرة الأرثوذكسية الكثير من خرافها التي شرّدت وتغرّبت. وأنشأ عدة مدارس
وساعد جمعياتها الخيرية وأعاد بعضاً من المتغربين عنها. وخص الجامعة الاميركية (مدرسته الأولى) بزيارة لقي فيها ما لا يوصف
من الترحاب واعتلى منصة الخطابة وألقى عظةً رائعة شددّ فيها على المحبة المسيحية. هناك دُفع إليه بالانجيل في اللحظة
التي انقطع فيها التيار الكهربائي، فانطلقت صيحته المأثورة: "لقد ظهر نور الانجيل فاستترت أمامه جميع الأنوار"
وصفق الحضور بشدة. وللحال عيّن رئيس الجامعة الاميركية منحة سنوية مجانية لعشرة شمامسة من الكرسي الانطاكي.
زيارته إلى روسية:في عام 1913، لبّى دعوة القيصر الروسي نقولا الثاني ليرأس احتفالات آل رومانوف بمرور ثلاثة قرون على اعتلائهم عرش
روسيا وسافر وبمعيته مطران طرابلس الكسندروس متجهاً إلى اسطنبول حيث حل فيها ضيفاً على الحكومة العثمانية
وقابل على التوالي الصدر الأعظم ثم السلطان محمد رشاد وبمعيته وفده المكوّن من مطران طرابلس والحاجة سوسان
شقيقة غبطته والوكيل البطريركي بالاستانة الخواجة كمال قزح وقد منح السلطان علمنا الوسام العثماني المرصع،
والمجيدي الثاني لمطران طرابلس، ووسام الشفقة الثاني للحاجة سوسان والعثماني الثالث لكمال قزح. ثم تابع
سفره إلى روسية حيث وصل بطرسبرج وقابل القيصر والقيصرتين وولي العهد وقد نزل القيصر عن عرشه لدى دخوله
البلاط وانحنى أمام البطريرك فباركه البطريرك وقبله في كتفه. أما القيصر فقبّل رأس البطريرك أولاً ثم يده اليمنى.
ثم احتفل البطريرك باليوبيل في كاتدرائية سيدة قازان الأحد 6 آذار 1913 وقرأ الانجيل بالعربية. ورقى الارشمندريت ألكسي
إلى رتبة الأسقفية (وقد تولّى المذكور البطريركية الروسية لاحقاً).
وفي ختام الاحتفالات منح القيصر نقولا الثاني البطريرك غريغوريوس النوط الذهبي المضروب لذكرى اليوبيل، ووسام القديس
ألكسندر نيفسكي من الرتبة الأولى وهو أعظم الأوسمة الروسية وقدّم له صليباً مرصعاً بالماس لكي يعلّق على مقدمة
اللاطية فوق الجبين كالبطاركة الروس.
وكانت هدية البطريرك للقيصر مائة مخطوطة من المخطوطات البطريركية النادرة منها ما ارتبط بزيارة البطريرك مكاريوس
بن الزعيم في القرن 17 إلى روسية وهي محفوظة الآن في مكتبة البطريركية في موسكو وفي متحف الكرملين.
غريغوريوس ومأساة (سفر برلك) :بدأت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) وتولّى الاتحاديون (جمال وأنور ونيازي) السلطة وطغت سياسة التتريك
والقمع ولما لم يروا في المسيحيين مادة سهلة القياد، ذبحوا الأرمن ونال السريان والآشوريون واليونان نصيباً وافراً من
المنكرات عام 1915 فبلغ عدد ضحايا المذبحة من الأرمن حوالي مليون ونصف المليون ومليوناً من السريان والآشوريين واليونان...
علماً بأن هذه المذبحة كانت قد سبقتها مذبحة مماثلة عام 1885 بتدبير السلطان "الأحمر" عبد الحميد طالت الأرمن
واليونان و خاصة في القسطنطينية.
وانتشرت المجاعة في سورية ولبنان لأن الأتراك وضعوا أيديهم على الغلال وصدّروها إلى ألمانية والنمسا وساهم الجراد
بالقضاء على الأخضر واليابس فقلّت المواد الغذائية وارتفعت أسعارها بجنون، ففتح البطريرك غريغوريوس البطريركية لإطعام
الناس طيلة المجاعة بدون تفرقة.
وقد وقعت البطريركية تحت عجز كبير فاق 25 ألف ذهبية عدا عما كان يرسله المغتربون إلى غبطته شخصياً ليوزّعه على
المحتاجين وعلى ذويهم. ولم يرَ جمال باشا وأعوانه أكرم خلقاً من غريغوريوس ولا أنبل فطرة ولا أطيب عنصراً ولا أخلص
جوهراً فاحترموه وسهّلوا أموره وبادلهم الاخلاص والاحترام، إنما لم يخضع لهم ولم يكن لهم مطاوعاً، فلما طغى
حسن حسني رئيس شعبة أخذ العسكر في بيروت وتجبّر قاومه في ذلك مطران بيروت جراسيموس مسرة فطلب الوالي
تبعاً لذلك من البطريرك عزل جراسيموس إلا أن عَلَمنا امتنع ونبذ الأمر وراء ظهره.
وقد قيل الكثير عن موقف عَلَمنا الانساني الرائع في هذه المحنة الرهيبة التي عصفت بالعباد والبلاد. قديسنا عوّد نفسه محبة
جميع الناس كأسرة واحدة بلا استثناء، فقامت مساء أحد مرفع الجبن قبل الصوم الكبير في الحرب الكونية الأولى مجموعة
من النسوة المسلمات بدمشق بمظاهرة يشتكين فيها من الجوع وترامين على قدميه وهو في عربته، فأمر سائقه بالعودة
إلى دار البطريركية حيث اختلى بنفسه في غرفته وركع مصلياً من الساعة 4,00 بعد الظهر حتى الساعة 11,00 ليلاً.
وأبصر "سفره جي" البطريركية غرفة البطريرك مضاءة فطرق بابها سائلاً إن كان يرغب بالعشاء ليقلي له بيضتين مع رغيف
وقطعة حلوى. لكن البطريرك امتنع بقوله: "أطعم ذلك لأول فقير يمر صباح غدٍ بقربنا، أما أنا فيكفيني نصف رغيف مع قليل
من الملح والزعتر البري".
ونظراً لتحول دار البطريركية إلى مقصد للجائعين من كل الأديان فقد شحّت المؤن فيها. وصادف وقتئذ ان مسلماً ومعه أسرته
حاولوا الدخول كالعادة لتناول الطعام، فاستوقفهم قواص البطريرك يسألهم ما يريدون. فأجابه الرجل: "نريد أن نأكل"،
ورد القوّاص: "إن ما تبقى من الخبز لدينا لا يكفي أولادنا" وصادف وقتئذ وقوف البطريرك: في شرفته بحيث استمع الحديث
الدائر بينهما، فصرخ في الحال على قواصه ونهاه عن فعل ذلك وطلب منه رغيفاً فأحضره له القواص.
عندها قال له البطريرك: "انظر إلى هذا الرغيف من وجهيه هل تجد أن فيه وجهاً يختلف عن الآخر أم أن كليهما خبز؟
إن الله خلق الجميع كرغيف الخبز هذا. ثم أدخلهم إلى الداخل وأطعمهم. وزاد البطريرك على ذلك بأن منح الرجل ليرتين
ذهبيتين كانتا في جيب قنبازه ليشتري طعاماً ولباساً لأولاده.
وكما سبق القول فإن القيصر الروسي نيقولا كان قد أهداه صليباً مرصعاً بالماس ليزين به مقدمة قلنسوته. فعندما ضاقت الأحوال
بالبطريركية نتيجة محنة العباد قام بِرهن هذا الصليب على مبلغ ألف ليرة عثمانية عند صائغ يهودي عرضه في واجهته
في سوق الصاغة بدمشق. واتفق مرور غني دمشقي من أعيان المسلمين فيها بجانب الدكان، فأبصر الصليب
في هذه الواجهة واستوضح اليهودي عنه، ولما عرف سبب وجوده معروضاً في واجهته دفع له مبلغ الرهن واسترد الصليب
وتوجّه حالاً إلى البطريركية حيث قدّمه للبطريرك (وكان صديقه) قائلاً: "أوهل يليق بغير البطريرك غريغوريوس
أن يزين جبهته بهذا الصليب؟".
ولكنه باعه بعد ذلك خفية بألف ذهبية ووضع بدلاً عنه صليباً بماس مزيف سُرق لاحقاً، وعند بيعه في بيروت اكتشف الصائغ
أنه مزيف وهذه الحادثة لم تكن معروفة.
عَلَمَنا والملك فيصل:كان الأمير فيصل بن الشريف حسين أمير مكة يهيء الأجواء في دمشق لقيام الثورة ضد الأتراك بقيادة والده وبالتعاون مع الحلفاء
وخاصة بعد حكم جمال السفاح على قوافل الوطنيين بالاعدام في ديوان الحرب العرفي في عاليه، وكانت آخر القوافل
قافلة شهداء 6 أيار 1916 في بيروت ودمشق إذ أُعدم في بيروت 14 مناضلاً وفي دمشق 7 مناضلين.
كان الأمير فيصل دائم الاتصال بالبطريرك غريغوريوس بقصد حصوله على الدعم من الرعية الأرثوذكسية لعراقتها وتجذرها
في العروبة. لذلك قام البطريرك بتوحيد الصف المسيحي في هذا المسعى وقد تم ذلك عملياً حينما بايع المؤتمر السوري
الأول فيصل ملكاً على سورية ربيع عام 1920 وكانت بيعة البطريرك غريغوريوس ومعه رؤساء الطوائف المسيحية
في سورية متفردة ونشرت في "جريدة العاصمة" (الجريدة الرسمية) وكان المقابل وعداً من الملك فيصل بتساوي
المسيحيين مع المسلمين في المملكة السورية. وقد وافق الملك ونشر الوعد بصكه الرسمي أيضاً في جريدة العاصمة.
وبعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920 واستشهاد البطل يوسف العظمة وزير الحربية ومعظم المجاهدين و عددهم (4000)
دخل الفرنسيون إلى دمشق في اليوم ذاته فلم يجد الملك فيصل وحكومته مفراً من مغادرة دمشق إلى شرقي الأردن
عن طريق القطار. وفي محطة القدم وكان الوقت مغيباً وقف الملك فيصل ينظر إلى دمشق نظرة الوداع الدامعة متسائلاً
عن الجموع الغفيرة التي أيّدته قبيل المؤتمر السوري ،أين هي الآن، إذ ليس من أحد خرج لوداعه. وإذ به يشاهد من بعيد
غباراً كثيفاً من سيارة مقبلة نحوه. وتوقفت السيارة وترجّل منها شيخ وقور كان هو البطريرك غريغوريوس الذي
تقدّم من فيصل ومدّ له يده قائلاً: "هذه اليد التي بايعتك قبلاً باقية أبداً على العهد" فدمعت عينا فيصل وانحنى
أمام هذا الشيخ الجليل وحاول تقبيل يده لكن عَلَمنا باركه وقبّله بعدما سحب يده متمنعاً.
وهنا الرمزية أن ابن شريف مكة حسين الهاشمي من سلالة النبي محمد يحاول تقبيل يد البطريرك!!!.
غريغوريوس والانتداب الفرنسي:دخل الجنرال غورو إلى دمشق إثر موقعة ميسلون في 25 تموز 1920، وأمر بإقامة حفل استقبال كبير في دار المفوضية
الفرنسية (السفارة الفرنسية حالياً في العفيف) احتفالاً بالنصر. ودُعي إلى هذا الحفل كبار الشخصيات الدينية والرسمية
والفعاليات. فقام غورو بنفسه وأشرف على توزيع أماكن الجلوس حول المائدة، فأجلس مفتي دمشق عن يمينه
والبطريرك غريغوريوس عن يساره، ولم يكن يعرفه إنما كان قد سمع صيته. وعندما دخل البطريرك مد غورو يده مصافحاً
باحترام متفرساً في وجه هذه الشخصية المتميزة وما قام به خصوصاً في أيام المجاعة وفي تأييد صاحبها لفيصل
بالسر والعلن، وكان متيقناً بأن البطريرك ومن ورائه هذه الطائفة العربية لن يكون مؤيداً للانتداب كما يشتهي.
وبالفعل فقد صدق حس غورو، إذ أن الكنيسة الأرثوذكسية لم تكن الأوقات مؤيّدة للوجود الفرنسي في سورية ولبنان
بما في ذلك تلك الفترة الممتدة من عام 1920 وحتى وفاة البطريرك غريغوريوس عام 1928 التي شهدت أزمات حقيقية
بين البطريرك والفرنسيين، إذ أنه كان يُقاوم الانتداب بشتّى الوسائل ويُقدّم المعونات للثوار في الغوطة. وكان كشاف
فوج القديس جاورجيوس الأرثوذكسي يوصل المدد للثوار. وفي أحد الأيام كان أحد رهبانه قد ضلّ طريقه فتوغل في الغوطة
واعتقلته المخافر الأمامية للثوار ونقلته إلى قيادتها التي ما أن سمعت أنه من أتباع البطريرك غريغوريوس حتى أوصلته
باحترام إلى البطريركية.
كان موقف سلطات الانتداب الدائم هو حرمان أبناء الطائفة الأرثوذكسية مستغلين الحاجة والفقر بعد سنوات القهر والذل أيام
الأتراك وباغراءات لا تقاوم لقلب نفوسهم إلى الكثلكة طمعاً بالوظيفة، لذلك كثُر عدد الموظفين من الطوائف الأخرى
في دوائر الانتداب والحكومات المحلية وقلّ عدد الأرثوذكسيين جداً ويمكن وصفه الانتداب الفرنسي في هذه الحالة
بأنه كان انتداباً كاثوليكياً مستمراً لغزوات الفرنجة في القرون 11 و12 و 13م وللحملات التبشيرية بدءاً من القرن 16 وحتى الآن؟!!
عندما كان بعض الثوار الجهلة يهاجمون بعض القرى المسيحية ويحرقونها كانت سلطات الانتداب لا تبادر إلى التعويض
عنها إذا كانت أرثوذكسيّة. لا بل إن سلطات الانتداب صادرت المدارس الأرثوذكسية التي سبق للجمعية الامبراطورية
الفلسطينية الروسية أن أوجدتها أواخر القرن 19 وبدايات القرن 20 في بلاد الشام إضافة إلى المدارس الأخرى التي
بنتها الطائفة الأرثوذكسية، وافتتحتها مدارس لها بدون أي تعريض، بينما ازدهرت المدارس الكاثوليكية، في فترة الانتداب
ازدهاراً عظيماً. وما تبقى من مدارس الطائفة كانت لا تتلقى إلا النذر اليسير من المساعدات المالية التي كانت تمنح
لنظيراتها من المدراس الكاثوليكية وظهر خطر مخيف وهو ان سلطات الانتداب دفعت ببعض عناصر الشغب الجاهلة
من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية فشاغبوا على غريغوريوس واتهموه بالتبذير المالي الذي أوصل الصرح البطريركي
إلى واقعه المالي المتردي وقتئذٍ وخاصة بنتيجة الأيام المشؤومة (سفر برلك).
لكن الأخطر عملياً هو سعي سلطات الانتداب خفية لتقسيم الكرسي الانطاكي المقدس إلى قسمين سوري ولبناني
"لتفتيت كلمة الأرثوذكس الوطنية بمواجهة الانتداب" واستمرت هذه الحالة إلى ما بعد وفاة علمنا بالأزمة التي قامت
بين السيدين أرسانيوس القائم مقام البطريركي والكسندروس مطران طرابلس من عام 1928 إلى 1931.
وفاته:بينما كان المجمع الانطاكي المقدس منعقداً في بلدة سوق الغرب في كانون الأول 1928 ويكاد أن يختتم أعماله،
استأثرت رحمة الله بعَلَمنا وهو يقوم بواجباته الرئيسية دون تضجر أو ملل على الرغم من انحراف صحته وضعف بصره.
ويروى أنه قال وهو يحتضر: "لقد صبرت حتى النهاية".
كانت وفاته في 12 كانون الأول 1928 فنقل جثمانه بموكب نادر المثال من بلدة سوق الغرب إلى بيروت حيث عرض
للتبرك في الكاتدرائية. ثم نقل إلى دمشق على عربة مدفع وانضمت قوافل المشيعين من سائر الأرجاء اللبنانية
ومن مختلف الطوائف إلى موكبه. ولدى دخوله من أول شارع بيروت في الربوة انضم إلى موكبه المهيب خمسون ألفاً
من المسلمين عدا عن سائر الفعاليات الدينية والاجتماعية الدمشقية ناهيك عن خروج أبناء رعيته عن بكرة أبيهم
بمؤسساتهم وجمعياتهم وأفرادهم للمشاركة باستقبال رمزهم وعزتهم. شقّ الموكب طريقه بصعوبة بالغة حتى
وصل إلى حديقة الأمة عند جسر فيكتوريا حيث جرى له استقبال رسمي أطلقت فيه المدفعية مئة طلقة وطلقة
وقد شارك عن الملك فيصل الذي كان وقتئذ قد اعتلى عرش العراق وفدٌ ملكي تمثّل بكوكبة من خيالة الخيول العربية
عدد أفراده مائة فارس. وقد حاول المسلمون ادخاله إلى الجامع الأموي للصلاة عليه تقديراً وإكباراً...
ومع الدموع والتنهدات وصل جثمان مثلث الرحمات إلى الكاتدرائية المريمية حيث سجي للتبرك ثم دفن في احتفال
عز نظيره في مدفن البطاركة في حرم الكاتدرائية المريمية.
إن أشد مشاهد التأثر هي عندما وقف مفتي البقاع أمام تابوته باكياً وصائحاً:
"لو أجاز لنا ديننا الاعتراف بنبي بعد محمد لقلت أنت. رضوان الله ورحماته عليك يا محمد غريغوريوس
"هكذا كان المسلمون يلقبونه!!!
من هذه المشاهد في بيروت عندما رثاه الشيخ مصطفى الغلايني بقوله:
"نعيت إلى أمي العجوز نبأ مفاده: لقد أصاب العرب مصاب عميم أليم، فأجابتني: هل مات غريغوريوس؟"
وفي ساحة الشهداء في بيروت ولدى وصول الجثمان إليها شرع أحد التجار المسلمين الدمشقيين يرش الطريق
أمام الجثمان بالسكاكر والملبس نائحاً وقائلاً: "إن هذا الولي كان قد أعالني أنا وأسرتي طيلة سفر برلك".
وتساءل أحد الأشقاء الموارنة البارزين في لبنان مستغرباً وموجهاً سؤاله لأرثوذكسي من أسرة البطريرك:
"أعندكم مثل هذا القديس ولا تطوبونه قديساً؟".
من مآثره أيضاً أنّه عندما كانت مأساة الأرثوذكس من يونانيين وعرب على يد تركيا الكمالية عام 1922 بعد الحرب
الكارثية بين اليونان وتركيا والتي تمثلت بالتنكيل والتهجير والقتل لأكثر من مليون أرثودكسي يوناني و عربي
من آسيا الصغرى من أبرشيات ديار بكر وكيليكية، ساهم بإيواء الكثير منهم كما ساهم في الوقت ذاته بإيواء
وتشغيل الكثير من الروس البيض الذين هاجروا من روسيا بعد قيام الدولة البلشفية عام 1917. وكان قد عمم
منشوراً بطريركياً يحض الناس في الأبرشيات الانطاكية على التبرع بصواني الآحاد لهؤلاء المنكوبين وكان ذلك
وحسب منشوره رداً للدين الذي للروس على انطاكية.