يوحنا المجنون من كتاب عرائس المروج
1
فى أيام الصيف كان يوحنا يسير كل صباح إلى الحقل سائقاً ثيرانه وعجوله، حاملا محراثه على كتفيه، مصغيًا لتغاريد الشحارير وحفيف أوراق الأغصان عند الظهيرة كان يقترب من الساقية المتراكضة بين منخفضات تلك المروج الخضراء و يأكل زاده تاركًا على العشاب ما بقى من الخبز للعصافير. وفي المساء عندما ينتزع المغرب دقائق النور من الفضاء، كان يعود إلى البيت الحقير المشرف على القرى والمزارع فى شمال لبنان، ويجلس بسكينة مع والديه هالشيخين مصغيًا لحاديثهما المملوءة بأخبار الأيام شاعراً بدنو النعاس و الراحة معًا .
وفي أيام الشتاء كان يتكئ مستدفئًا بقرب النار، سامعًا تأوه الرياح و ندب العناصر، مفكرًا بكيفية تتابع الفصول، ناظرًا من الكوة الصغيرة نحو الأودية المكتسية بالثلوج، والأشجار العارية من الوراق كأنها جماعة من الفقراء تـُركوا خارجًا بين أظفار البرد القارس والرياح الشديدة.
وفي الليالى الطويلة كان يبقى ساهرًا حتى ينام والده ثم يفتح الخزانة الخشبية ويأتى بكتاب العهد الجديد، و يقرأ منه سرًا على نور مسرجة ضعيفة، متلفتًا بتحذر بين الآونة والأخرى نحو والده النائم الذى منعه عن تلوة ذلك الكتاب لأن الكهنة ينهون بسطاء القلب عن استطلع خفايا تعاليم يسوع و يحرمونهم من ” نعم الكنيسة ” إذا فعلوا .
هكذا صرف يوحنا شبيبته بين الحقل المملوء بالمحاسن والعجائب وكتاب يسوع المفعم بالنور والروح . كان سكوتًا كثير التأملات يصغى لأحاديث والديه ولا يجيب بكلمة ، ويلتقى بأترابه الفتيان ويجالسهم صامتًا ناظرًا إلى البعيد حيث يلتقى الشفق بازرقاق السماء. وإذا ما ذهب إلى الكنيسة عاد مكتئبًا، لأن التعاليم التى يسمعها من على المنابر والمذابح هي غير التى يقرأها فى النجيل، وحياة المؤمنين مع رؤسائهم هي غير الحياة الجميلة التى تكلم عنها يسوع الناصرى .
***
جاء الربيع واضمحلت الثلوج فى الحقول و المروج، وأصبحت بقاياها فى أعالى الجبال تذوب وتسير جداول جداول فى منعطفات الأودية، و تجتمع أنهارًا غزيرة تتكلم بهديرها عن يقظة الطبيعة، فأزهرت أشجار اللوز والتفاح، وأورقت قضبان الحور و الصفصاف، وأنبتت الروابي أعشابها وأزهارها، فتعب يوحنا من الحياة بجانب المواقد، وعرف أن عجوله قد ملت ضيق المرابض و اشتاقت إلى المراعي الخضراء، لأن مخازن التبن قد شحت، وزنابل الشعير قد نفدت. فجاء وحلها من معالفها وسار أمامها إلى البرية ساترًا بعباءته كتاب العهد الجديد كيلا يراه أحد، حتى بلغ المرجة المنبسطة على كتف الوادي بقرب حقول الدير القائم كالبرج الهائل بين تلك الهضاب *، فتفرقت عجوله مرتعية العشاب، و جلس مستندًا إلى صخرة يتأمل تارة بجمال الوادى وطورًا بسطور كتابه المتكلمة عن ملكوت السموات .
كان ذلك النهار من أواخر أيام الصوم، وسكان تلك القرى المنقطعون عن اللحوم أصبحوا يترقبون بفضلات الصبر مجيء عيد الفصح. أما يوحنا ، فمثل جميع المزارعين الفقراء لم يكن يفرق بين أيام الصيام و غيرها، فالعمر كله كان صومًا طويلا عنده، و قوته لم يتجاوز قط الخبز المعجون بعرق الجبين، والثمار المبتاعة بدم القلب، فالانقطاع عن اللحوم والمآكل الشهية كان طبيعيًا. ومشتهيات الصوم لم تكن فى جسده بل فى عواطفه، لأنها تعيد إلى نفسه ذكرى مأساة ” ابن البشر” و نهاية حياته على الأرض .
كانت العصافير ترفرف متناجية حول يوحنا، و أسراب الحمام تتطاير مسرعة، و الزهور تتمايل مع النسيم كأنها تتحمم بأشعة الشمس، وهو يقرأ فى كتابه بتمعن ثم يرفع رأسه ويرى قبب الكنائس فى المدن والقرى المنثورة على جانبى الوادى، ويسمع طنين أجراسها فيغمض عينيه وتسبح نفسه فوق أشلاء الأجيال إلى أورشليم القديمة متبعة أقدام يسوع فى الشوارع سائلة العابرين عنه فيجيبونها قائلين : – هنا شفى العميان وأقام المقعدين. وهناك ضفروا له إكليلا من الشوك ووضعوه على رأسه – فى هذا الرواق وقف يكلم الجموع بالأمثال، وفي ذلك القصر كتفوه على العمود وبصقوا على وجهه وجلدوه – في هذا الشارع غفر للزانية خطاياها وفى ذاك وقع على الرض تحت أثقال صليبه .
ومرت الساعة ويوحنا يتألم مع الله الانسان بالجسد، ويتمجد معه بالروح، حتى إذا ما انتصف النهار قام من مكانه ونظر حوله فلم يرَ عجوله، فمشى متلفتًا إلى كل ناحية مستغربًا اختفاءها فى تلك المروج السهلة. ولما بلغ الطريق المنحنية بين الحقول انحناء خطوط الكف رأى عن بعد رجلا بملابس سوداء واقفًا بين البساتين ، فأسرع نحوه، و لما اقترب منه و عرف أنه أحد رهبان الدير ، حياه بحنى رأسه ثم سأله قائلا
:هل رأيت عجولا سائرة بين هذه البساتين يا أبتاه ؟ ” فنظر إليه الراهب متكلفًا إخفاء حنقه وأجاب بخبث:
” “نعم رأيتها فهى هناك ، تعالَ وانظرها ” . فسار يوحنا وراء الراهب حتى بلغا الدير، فإذا بالعجول ضمن حظيرة موثقة بالحبال يخفرها أحد الرهبان في يده نبوت يجلدها به كيفما تحركت، وإذ همّ يوحنا ليقودها أمسكه الراهب بعباءته والتفت نحو رواق الدير وصرخ بأعلى صوته : “هو ذا الراعي المجرم قد قبضت عليه”. فهرول القسس والرهبان من كل ناحية يتقدمهم الرئيس وهو رجل يمتاز عن رفاقه بنحافة أثوابه انقباض سحنته، وأحاطوا بيوحنا كالجنود المتسابقة على الفريسة، فنظر يوحنا إلى الرئيس وقال بهدوء: “ماذا فعلت لكون مجرمًا، و لماذا قبضتم علىّ ؟ ” فأجابه الرئيس وقد بانت القساوة على وجهه الغضوب، وبصوت خشن أشبه بصرير المناشير قال: ” قد ارتعت عجولك زرع الدير وقضمت قضبان كرومه، فقبضنا عليك لأن الراعى هو المسؤول عما تخربه مواشيه”. فقال يوحنا مستعطفًا: “هى بهائم لا عقل لها يا أبتاه، و أنا فقير لا أملك غير قوى ساعدي وهذه العجول، فاتركني أقودها وأسير واعدًا إياك بأن لا أجيء إلى هذه المروج مرة أخرى”. فقال الرئيس و قد تقدم قليلا إلى الأمام ورفع يده نحو السماء: “إن الله قد وضعنا ههنا ووكّل إلينا حماية أراضي مختاره إليشاع العظيم، فنحن نحافظ عليها ليلاً و نهارًا بكل قوانا لأنها مقدسة، و هى كالنار تحرق كل من يقترب منها، فإذا امتنعت عن محاسبة الدير انقلبت العشاب في أجواف عجولك سمومًا آكلة، ولكن ليس من سبيل إلى الامتناع لننا نبقى بهائمك فى حظيرتنا حتى تفى آخر فلس عليك ” .
وهمّ الرئيس بالذهاب فأوقفه يوحنا، وقال متذللا متوسلا: ” أستحلفك يا سيدي بهذه اليام المقدسة التى تألم فيها يسوع وبكت لأحزانها مريم، أن تتركني أذهب بعجولى. لا تكن قاسيَ القلب علىّ ، فأنا فقير مسكين والدير غنىّ عظيم، فهو يسامح تهاملي ويرحم شيخوخة والدى”. فالتفت إليه الرئيس وقال بهزء: ” لا يسامحك الدير بمثقال ذرة أيها الجاهل، فقيرًا كنت أم غنيًا، فلا تستحلفني بالأشياء المقدسة لأننا أعرف منك بأسرارها وخفاياها، وإن شئت أن تقود عجولك من هذه المرابض فافتدِها بثلاثة دنانير لقاء ما التهمت من الزرع ” . فقال يوحنا بصوت مختنق: ” إننى لا أملك بارة واحدة يا أبتاه. فاشفق علىّ وارحم فقرى”. فأجاب الرئيس بعد أن مشط لحيته الكثيفة بأصابعه: “اذهب و بع قسمًا من حقلك وعد بثلاثة دنانير، فخير لك أن تدخل السماء بلا حقل من أن تكتسب غضب اليشاع العظيم باحتجاجك أمام مذبحه، و تهبط فى الآخرة إلى الجحيم حيث النار المؤبدة ” .
فسكت يوحنا دقيقة وقد أبرقت عيناه وانبسط محياه وتبدلت لوائح الاسترحام بملامح القوة والإرادة، فقال بصوت تمتزج فيه نغمة المعرفة بعزم الشبيبة: “هل يبيع الفقير حقله منبت خبزه و مورد حياته ليضيف ثمنه إلى خزائن الدير المفعمة بالذهب والفضة؟ أمِن العدل أن يزداد الفقير فقرًا ويموت المسكين جوعًا كيما يغفر اليشاع العظيم ذنوب بهائم جائعة؟” فقال الرئيس هازًا رأسه استكبارًا: هكذا يقول يسوع المسيح “مَن له يُعطى و يُزاد، و مَن ليس له يؤخذ منه ” .
سمع يوحنا هذه الكلمات فاضطرب قلبه في صدره، وكبرت نفسه، وتعالت قامته عن ذي قبل، كأن الأرض قد نمت تحت قدميه، فانتشل الإنجيل من جيبه كما يستل الجندى سيفه للمدافعة، وصرخ قائلا: “هكذا تتلعبون بتعاليم هذا الكتاب أيها المراؤون. هكذا تستخدمون أقدس ما فى الحياة لتعميم شرور الحياة. فويل لكم إذ يأتي ابن “البشر” ثانية ويخرب أديرتكم ويلقي حجارتها فى هذا الوادي، محرقًا بالنار مذابحكم ورسومكم وتماثيلكم! ويل لكم من دماء يسوع الزكية ودموع أمه الطاهرة، إذ تنقلب سيلا عليكم وتجرفكم إلى أعماق الهاوية ! ويل وألف ويل لكم أيها الخاضعون لأصنام مطامعكم، الساترون بالثواب السوداء اسوداد مكروهاتكم، المحركون بالصلاة شفاهكم وقلوبكم جامدة كالصخور، الراكعون بتذلل أمام المذابح ونفوسكم متمردة على الله. قد قدتموني بخباثة إلى هذا المكان المملوء بآثامكم، وكمجرم قبضتم علىّ من أجل قليل من الزرع تستنبته الشمس لي ولكم على السواء. ولما استعطفتكم باسم يسوع واستحلفتكم بأيام حزنه وأوجاعه استهزأتم بي كأني لم أتكلم بغير الحماقة والجهالة. خذوا وابحثوا فى هذا الكتاب وأروني متى لم يكن يسوع غفورًا. واقرأوا هذه المأساة السماوية وأخبروني أين تكلم بغير الرحمة والرأفة، أفي موعظته فى الجبل، أم في تعاليمه في الهيكل أمام مضطهدي تلك الزانية المسكينة، أم على الجلجلة عندما بسط ذراعيه على الصليب ليضمّ الجنس البشرى؟ انظروا يا قساة القلوب إلى هذه المدن و القرى الفقيرة، ففي منازلها يتلوى المرضى على أسرة الوجاع، وفي حبوسها تفنى أيام البائسين، و أمام أبوابها يتضرع المتسولون، وعلى طرقها ينام الغرباء، وفي مقابرها تنوح الرامل والثكالى، وأنتم ههنا تتمتعون براحة التواني والكسل، و تتلذذون بثمار الحقول وخمور الكروم. فلم تزوروا مريضًا ، ولم تفتقدوا سجينًا، و لم تطعموا جائعًا، ولم تؤووا غريبًا، و لم تعزوا حزينًا. وليتكم تكتفون بما لديكم و تقنعون بما اغتصبتم من جدودنا باحتيالكم، فأنتم تمدون أيديكم كما تمد الأفاعي رؤوسها، وتقبضون بشدة على ما وفرته الرملة من عمل يديها و ما أبقاه الفلح لأيام شيخوخته ” .
وسكت يوحنا ريثما استرجع أنفاسه ثم رفع رأسه بفخر وقال بهدوء: “أنتم كثار ههنا و أنا وحدي. افعلوا بى ما شئتم، فالذئاب تفترس النعجة فى ظلمة الليل لكن آثار دمائها تبقى على حصباء الوادى حتى يجئ الفجر وتطلع الشمس ” .
كان يوحنا يتكلم وفي صوته قوة علوية توقف فى أبدان الرهبان الحركة وتثير فى نفوسهم الغيظ والحدة، ومثل غربان جائعة في أقفاص ضيقة كانوا يرتجفون غضبًا وأسنانهم تصرف بشدة مترقبين من رئيسهم إشارة ليمزقوه تمزيقًا ويسحقوه سحقًا، حتى إذا ما انتهى من كلمه وسكت سكوت العاصفة بعد تكسيرها الغصان المتشامخة والنصاب اليابسة، صرخ الرئيس بهم قائلا :
” اقبضوا على هذا المجرم الشقىّ وانزعوا منه الكتاب وجروه إلى حجرة مظلمة من الدير، فمن يجدف على مختارى الله لا يغفر له ههنا ولا فى الأبدية ” . فهجم الرهبان على يوحنا هجوم الكواسر على الفريسة وقادوه مكتوفًا إلى حجرة ضيقة وأقفلوا عليه بعد أن نهكوا جسده بخشونة أكفهم ورفس أرجلهم .
فى تلك الغرفة المظلمة وقف يوحنا وقفة منتصر توفق العدو لأسره، و نظر من الكوة الصغيرة المطلة على الوادى المملوء بنور النهار، فتهلل وجهه وشعر بلذة روحية تعانق نفسه وطمأنينة مستعذبة تملك عواطفه، فالحجرة الضيقة لم تسجن غير جسده. أما نفسه فكانت حرة تتموج مع النسيم بين الطلول والمروج، وأيدي الرهبان التى آلمت أعضاءه لم تمس عواطفه المستأمنة بجوار يسوع الناصرى. والمرء لا تعذبه الاضطهادات إذا كان عادلا، ولا تفنيه المظالم إذا كان بجانب الحق ، فسقراط شرب السم مبتسمًا، وبولس رُجم فارحًا. ولكن هو الضمير الخفى نخالفه فيوجعنا، و نخونه فيقضى علينا .
وعلم والدا يوحنا بما جرى لوحيدهما، فجاءت أمه إلى الدير مستعينة بعصاها، وترامت على قدمي الرئيس تذرف الدموع وتقبّل يديه ليرحم ابنها ويغتفر جهله. فقال لها بعد أن رفع عينيه نحو السماء كمترفع عن العالميات: “نحن نغتفر طيش ابنك ونسامح جنونه ولكن للدير حقوقًا مقدسة لا بد من استيفائها. نحن نسامح بتواضعنا زلات الناس، أما اليشاع العظيم فلا يسامح ولا يغفر لمن يتلفون كرومه ويرتعون زرعه”. فنظرت إليه الوالدة والدمع ينسكب على وجنتيها المتجعدتين بأيدي الشيخوخة، ثم نزعت قلدة فضية من عنقها ووضعتها فى يده قائلة: ” ليس لدىّ غير هذه القلدة يا أبتاه، فهي عطية والدتي يوم اقتراني، فليقبلها الدير كفارة عن ذنوب وحيدي”. فأخذ الرئيس القلدة ووضعها فى جيبه ثم قال ووالدة يوحنا تقبل يديه شكرًا وامتنانًا: “ويل لهذا الجيل، فقد انعكست فيه آيات الكتاب وأصبح البناء يأكلون الحصرم و الباء يضرسون. اذهبي أيتها المرأة الصالحة وصلي من أجل ابنك المجنون لتشفيه السماء و تعيد إليه صوابه.”
وخرج يوحنا من أسره ومشى ببطء أمام عجوله بجانب أمه المنحنية على عصاها تحت أثقال السنين، ولما بلغ الكوخ قاد العجول إلى معالفها وجلس بسكينة قرب النافذة يتأمل اضمحلل نور النهار، وبعد هنيهة سمع والده يهمس فى أذن أمه هذه الكلمات: “كم عارضتِني يا سارة عندما أقول لكِ إن ولدنا مختل الشعور، و الآن أراكِ ل تعترضين لأن أعماله قد حققت كلامي ورئيس الدير الوقور قد قال لكِ اليوم ما قلته أنا منذ سنين “
وظل يوحنا ناظرًا نحو المغرب حيث الغيوم المتلبدة متلونة بأشعة الشمس.
2
جاء عيد الفصح وتبدل الانقطاع عن المآكل بالكثار من المشتهيات، وكان قد تم بناء الهيكل الجديد المتعالي بين المساكن فى مدينة بشّري كصرح أمير قائم بين أكواخ الرعايا. وكان القوم يترقبون قدوم أحد الساقفة ، لتكريسه و تقديس مذابحه، ولما شعروا بدنوه خرجوا صفوفًا صفوفًا على الطريق وأدخلوه المدينة بين تهاليل الفتيان وتسابيح الكهنة وأصوات الصنوج وطنين الجراس والنواقيس، ولما ترجل عن فرسه المزدانة بالسرج المزركش و اللجام الفضى، قابله اللأئمة والزعماء بمستطاب الكلام، مترحبين به بالقصائد والأناشيد المصدرة بالمديح والمذيلة بالتبجيل، حتى إذا ما بلغ الهيكل الجديد ارتدى الملبس الحبرية الموشاة بالذهب، ولبس التاج المرصع بالجواهر، وتقلد عصا الرعاية المنمقة بالنقوش البديعة والحجارة الكريمة وطاف حول الهيكل منغمًا مع الكهنة الصلوات والتقاسيم، و قد تصاعدت حوله روائح البخور الطيبة، وشعشعت الشموع الكثيرة، وكان يوحنا فى تلك الساعة واقفًا بين الرعاة والزارعين على رواق مرتفع يتأمل بعينيه الحزينتين هذا المشهد، ويتنهد بمرارة ويتأوه بغصات موجعة إذ يرى من الجهة الواحدة ملبس حريرية مطرزة، وأواني ذهبية مرصعة، ومباخر ومشاعل فضية ثمينة، ومن الأخرى جماعة من الفقراء والمساكين الذين أتوا من القرى والمزارع الصغيرة يشاهدون بهجة هذا الفصح والاحتفال بتكريس الكنيسة. من الجهة الواحدة عظمة ترتدى القطيفة والأطالس، ومن الأخرى تعاسة تلتف بالأطمار البالية. ههنا فئة قوية غنية تمثل الدين بالتنغيم والتعزيم، وهناك شعب ضعيف محتقر يفرح سرًا بقيامة يسوع من بين الأموات ويصلي بسكينة هامسًا فى مسامع الأثير تنهيدات حارة صادرة من أعماق القلوب الكسيرة. ههنا رؤساء وزعماء لهم من سلطتهم حياة أشبه شئ بأشجار السرو ذات الاخضرار الأبدي، و هناك بؤساء وزارعون لهم من خضوعهم حياة تشابه سفينة، ربانها الموت وقد كسرت الأمواج دفتها، ومزقت الرياح شراعها، فأمست فى هبوط و صعود، بين غضب اللجة وهول العاصفة. ههنا الاستبداد القاسي، وهناك الخضوع الأعمى. فأيهما كان مولدًا للآخر؟ هل الاستبداد شجرة قوية لا تنبت في غير التربة المنخفضة، أم هو الخضوع حقل مهجور لا تعيش فيه غير الأشواك؟
بهذه التأملات الأليمة وهذه الأفكار المعذبة كان يوحنا مشغولا وقد بكّل زنديه على صدره كأن حنجرته قد ضاقت عن أنفاسه فخاف أن يتمزق صدره حناجر و منافذ. حتى إذا ما انتهت حفلة التكريس وهمّ الشعب بالانصراف والتفرق، شعر بأن في الهواء روحًا تنتدبه واعظًا لها، وفي المجموع قوة تحرك روحه وتوقفه خطيبًا أمام السماء والأرض أسر إرادته فتقدم إلى طرف الرواق ورفع عينيه وأشار بيده نحو العلاء وبصوت عظيم يستدعي المسامع ويستوقف النواظر صرخ قائلا: ” انظر يا يسوع الناصري الجالس فى قلب دائرة النور العلي. انظر من وراء القبة الزرقاء إلى هذه الأرض التى لبست بالأمس من عناصرها رداء. انظر أيها الحارس الأمين، فقد خنقت أشواك الوعر أعناق الزهور التى أنعشت بذورها بعرق جبينك. انظر أيها الراعي الصالح، فقد نهشت مخالب الوحوش ضلوع الحمل الضعيف الذى حملته على منكبيك . انظر فدماؤك الزكية قد غارت فى بطن الأرض، ودموعك السخينة قد جفت فى قلوب البشر، وأنفاسك الحارة قد تضعضعت أمام رياح الصحراء، وأصبح هذا الحقل الذى قدسته قدماك ساحة قتال تسحق فيها حوافر القوياء ضلوع المنطرحين، و تنتزع أكف الظالمين أرواح الضعفاء… إن صراخ البائسين المتصاعد من جوانب هذه الظلمة لا يسمعه الجالسون باسمك على العروش، ونواح المحزونين لا تعيه آذان المتكلمين بتعاليمك فوق المنابر، فالخراف التى بعثتها من أجل كلمة الحياة قد انقلبت كواسر تمزق بأنيابها أجنحة الخراف التى ضممتها بذراعيك، وكلمة الحياة التى أنزلتها من صدر الله قد توارت فى بطون الكتب وقام مقامها ضجيج مخيف ترتعد من هوله النفوس. لقد أقاموا يا يسوع لمجد أسمائهم كنائس ومعابد كسوها بالحرير المنسوج والذهب المذوّب، و تركوا أجساد مختاريك الفقراء عارية فى الأزقة الباردة، وملأوا الفضاء بدخان البخور و لهيب الشموع، وتركوا بطون المؤمنين بألوهيتك خالية من الخبز، وأفعموا الهواء بالتراتيل والتسابيح، فلم يسمعوا نداء اليتامى وتنهيدات الأرامل. تعالَ ثانية يا يسوع الحىّي واطرد باعة الدين من هياكلك، فقد جعلوها مغاور تتلوى فيها أفاعي روغهم واحتيالهم. تعالَ وحاسب هؤلاء القياصرة، فقد اغتصبوا من الضعفاء ما لهم و ما لله. تعالَ وانظر الكرمة التى غرستها يمينك، فقد أكلت جذوعها الديدان، وسحقت عناقيدها أقدام ابن السبيل. تعالَ وانظر الذين ائتمنتهم على السلام، فقد انقسموا على ذواتهم وتخاصموا وتحاربوا، و لم تكن أشلاء حروبهم غير نفوسنا المحزونة وقلوبنا المضنكة … فى أعيادهم واحتفالاتهم يرفعون أصواتهم بجسارة قائلين: المجد لله في العلي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. فهل يتمجد أبوك السماوي بأن تلفظ اسمه الشفاه الأثيمة والألسنة الكاذبة؟ وهل على الأرض سلام وأبناء الشقاء في الحقول يفنون قواهم أمام وجه الشمس ليطعموا فم القوي ويملأوا جوف الظالم؟ وهل بالناس المسرة والبؤساء ينظرون بأعين كسيرة إلى الموت نظرة المغلوب إلى الى المنقذ؟ ما هو السلام يا يسوع الحلو؟ هل هو في أعين الأطفال المتكئين على صدور الأمهات الجائعات فى المنازل المظلمة الباردة؟ أم فى أجساد المعوزين النائمين على أسرة حجرية يتمنون القوت الذى يرمي به قسس إلى خنازيرهم المسمنة ولا يحصلون عليه؟ ما هي المسرة يا يسوع الجميل، أبأن يشترى الأمير بفضلت الفضة قوى الرجال و شرف النساء، وبأن نسكت ونبقى عبيدًا بالنفس والجسد لمن يدهشون أعيننا بلمعان ذهب أوسمتهم وبريق حجارتهم وأطالس ملابسهم، أم بأن نصرخ متظلمين منددين فيبعثوا إلينا بأتباعهم حاملين علينا بسيوفهم وسنابك خيولهم فتنسحق أجساد نسائنا وصغارنا وتسكر الأرض من مجارى دمائنا؟.. امدد يدك يا يسوع القوي وارحمنا لأن يد الظلوم قوية علينا، أو أرسل الموت ليقودنا إلى القبور حيث ننام براحة مخفورين بظل صليبك إلى ساعة مجيئك الثاني، لأن الحياة ليست حياة عندنا، بل هى ظلمة تتسابق فيها الأشباح الشريرة، و وادٍ تدب فى جوانبه الثعابين المخيفة. ولا الأيام أيام عندنا، بل هى أسياف سنينة يخفيها الليل بين لحف مضاجعنا ويشهرها الصباح فوق رؤوسنا عندما تقودنا محبة البقاء إلى الحقول. ترأف يا يسوع بهذه الجموع المنضمة باسمك فى يوم قيامتك من بين الأموات وارحم ذلتهم و ضعفهم ” .
كان يوحنا يناجي السماء والشعب حوله بين مستحسن راض ٍ ومستقبح غاضب. فهذا يصرخ: لم يقل غير الحق فهو يتكلم عنا أمام السماء لأننا مظلومون. وذا يقول : هو مسكون يتكلم بلسان روح شريرة. وذاك يقول : لم نسمع قط مثل هذا الهذيان من آبائنا وجدودنا ولا نريد أن نسمعه الآن. وآخر يهمس فى أذن قريبه: أحسست بقشعريرة سحرية تهز قلبي في داخلي عندما سمعتُ صوته، فهو يتكلم بقوة غريبة. وغيره يجيب: نعم و لكن الرؤساء أعرف منا باحتياجاتنا فمن الخطأ أن نشك بهم .
و بينما هذه الصوات تتصاعد من كل ناحية وتتآلف كهدير الأمواج ثم تضيع فى الهواء، جاء أحد الكهنة و بض على يوحنا وأسلمه للشرطة فقادوه إلى دار الحاكم، و لما استنطقوه لم يجب بكلمة لأنه تذكر أن يسوع كان سكوتًا أمام مضطهديه، فأنزلوه إلى سجن مظلم حيث نام بسكينة متكئًا على الحائط الحجري .
وفي صباح النهار التالي جاء والد يوحنا وشهد أما الحاكم بجنون وحيده قائلا: “طالما سمعته يهذي فى وحدته يا سيدي، ويتكلم عن أشياء غريبة لا حقيقة لها، فكم سهر الليالي مناجيًا السكون بألفاظ مجهولة، مناديًا أخيلة الظلمة بأصوات مخيفة تقارن تعازيم العرافين المشعوذين. سل فتيان الحي يا سيدى فقد جالسوه وعرفوا انجذاب عاقلته إلى عالم بعيد، فكانوا يخاطبونه فلا يجيب، وإن تكلم جاءت أقواله ملتبسة لا علاقة لها بأحاديثهم. سل أمه فهي أدرى الناس بانسلاخ نفسه عن المدارك الحسية، فقد شاهدته مرات ناظرًا إلى الأفق بعينين زجاجيتين جامدتين وسمعته متكلمًا بشغف عن الأشجار والجداول والزهور والنجوم، مثلما تتكلم الأطفال عن صغائر الأمور. سل رهبان الدير فقد خاصمهم بالأمس محتقرًا تنسكهم وتعبدهم، كافرًا بقداسة معيشتهم. وهو مجنون يا سيدي، ولكنه شفوق علىّ وعلى أمه، فهو يعولنا فى أيام الشيخوخة ويذرف عرق جبينه من أجل الحصول على حاجتنا، فترأف به برأفتك بنا، واغتفر جنونه باعتبارك حنو الوالدين ” .
أُفرج عن يوحنا، و شاع فى تلك النواحي جنونه، فكان الفتيان يذكرونه ساخرين بأقواله، والصبايا ينظرن إليه بأعين آسفة قائلت: للسماء شؤون غريبة في الانسان، فهي التى جمعت فى هذا الفتى بين جمال الوجه واختلال الشعور، وقارنت بين أشعة عينيه اللطيفة وظلمة نفسه المريضة
***
بين تلك المروج والروابي الموشاة بالأعشاب والزهور، كان يوحنا يجلس بقرب عجوله المنصرفة عن متاعب ابن آدم بطيب المرعى، وينظر بعينين دامعتين نحو القرى و المزارع المنتثرة على كتفى الوادي مرددًا هذه الكلمات بتنهيدات عميقة: أنتم كثار وأنا وحدي، فقولوا عنى ما شئتم، وافعلوا بي ما أردتم، فالذئاب تفترس النعجة فى ظلمة الليل، و لكن آثار دمائها تبقى على حصباء الوادى حتى يجئ الفجر و تطلع الشمس .