ما نام إنسان على الطوى إلّا لأن غيره أكل أو اختزن فوق حاجته من خيرات الأرض والسماء .
ولا افتقر رجل إلى ثوب إلا لأن لجاره ثوبين . ولا افترش معدم الصخر والتراب إلا لأن موسراً افترش الحرير وريش النعام .
فمن نهم الناهمين جوع الجائعين . ومن أناقة المتأنقين عري العراة . ومن بطر المترفين تشرّد المشرّدين .
وهذا التفاوت في حظوظ الناس من نِعَم العيش مردّه إلى أن البعض يعمل بغير ملل والبعض يقتله الكسل .
فلولا المحراث والمعول ، ولولا الإبرة والمنوال ،
ولولا الشاقوف والمنشار وما إليها من الوسائل التي استنبطها الإنسان لاستثمار خيرات الأرض لما كانت تخمة المتخم ،
وأناقة المتأنق ، وبطر المترف . وهذه الوسائل كلّها لا يديرها إلّا الذين لا يعرفون التخمة والأناقة والترف .
وهم في الغالب من الفقراء .
لا . ما ركب الفقر جانباً كبيراً من الإنسانيّة لأن بعضها يعمل وبعضها لا يعمل .
بل لأن ضميرها قد تحجّر في ظل نظام يخوّل من لا يعمل أن يعيش خيراً ممّن يعمل .
وما تحجّر ضميرها إلّا نتيجة لفساد تفكيرها . ففقرها المادي هو الظلّ لفقرها الروحي .
وأعني الفقر إلى تفهم الإنسان غايته من وجوده وغاية الوجود منه . فلو أن بني الإنسانيّة فهموا أيّ كائن عجيب
وعظيم هو الإنسان ، وأيّ مجد هو المجد المعدّ له في ضمير الزمان ، لما أغمض لهم جفن ولا ارتاح عضل في زند
أو وريد في دماغ حتى يقضوا على آخر أثر للفقر في الأرض . فما دام في الناس فقير واحد دام الناس كلّهم فقراء .
إلّا أن الناس لاهون عن فقرهم الروحي بفقرهم المادي . فهم لا يعرفون فقراً غيره .
ومثلهم في ذلك مثل ثري أخبرني عنه بعض الظرفاء . فقد كان ذلك الثري يلعب النرد مع أحد الجيران .
وكان الظريف الذي نقل إليّ الخبر يراقب اللعبة . وإذا بالثري يقوم بحركة لم تكن في صالحه .
فما تمالك الظريف عن لفت نظره إلى الخطإ بقوله (( يا فقير ... لقد خسرت المعركة )) .
فما كان من الثري إلّا أن طرح الزهر من يده بغضب ، وامتقع لونه ، والتفت إلى الظريف بعينين تقدحان شراراً
ثمّ صاح : (( أنا فقير ؟ ! إنّي لأستطيع أن أزن ثقلك ذهباً يا صعلوك )) . فهدّأ الظريف من هياجه وأجابه ببرودة متناهية :
(( زاد الله في ثروتك يا سيدي . ما عنيت أنّك فقير بالمال ، بل بالعقل )) .
وللحال سُرّي عن الثري ، وهدأت ثورته ، وقال بلهجة من ربح معركة حاسمة في الذود عن كرامته :
(( ليتك قلت ذلك في البداية )) .
ويلوح لي أن السواد الأعظم من الناس ــ نظير ذلك الثري ــ لا يشعرون ولا يخجلون بفقر غير فقر الجيب إلى الفلس ،
والبطن إلى الرغيف ، والبدن إلى الثوب والمأوى . أمّا فقر القلب إلى العطف واللطف والدعة والمودّة والمحبّة .
وفقر الفكر إلى الفهم والتوازن والمضاء والصفاء . وفقر الضمير إلى العدل والسلام والطمأنينة .
وفقر الخيال إلى الجرأة والإقدام ، والمدى اللا متناهي . وفقر الروح ــ إجمالاً ــ إلى الحق والحريّة والجمال ــ
أمّا ذلك الفقر الذي يشمل جميع الناس فقلّما تسمع من يشكوه أو يعطف عليه بين سكان الأرض .
وهو الفقر الذي لولاه لما كان في الناس جياع وعطاش وعراة ، ومشردون ومهانون ومنبوذون .
ليس من المجاز ولا من المغالاة في شيء أن تنعت الناس على بكرة أبيهم بالفقر .
كل منافق أو سارق أو فاسق ــ فقير
كل غضوب أو حقود أو ناقم ــ فقير
كل حسود أو نمّام أو مُراء ــ فقير
كل مزهوّ بمال أو جمال أو سلطان ــ فقير
كل مغرور بأصله أو بفصله أو بعمله ــ فقير
كل معتزّ بلقب أو وسام أو منصب ــ فقير
كل من كان ذئباً في جلد حَمَل ــ فقير
كل من أكل خبزه بعرق جبين غيره ــ فقير
كل من أذلّ جاره ليعتزّ ، وأجاعه ليشبع ــ فقير
كل من ركب هواه وجهل مبتداه ومنتهاه ــ فقير
لو شئت أن أعدّد كل ما في الناس من ضروب الفقر الروحي لما انتهيت ــ إلّا نّني أكتفي بهذا الحد لتعرف أن جميع الناس فقراء ،
ولتتبيّن هول القحط الذي نعيش فيه بأفكارنا وقلوبنا وأرواحنا . فمن هذا القحط قلقنا وذعرنا وثوراتنا وحروبنا ،
وتطلّعنا إلى الغد بقلوب واجمة وعيون غائمة . ومن هذا القحط آفتنا الكبرى ، آفة الفقر والفقراء .