علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: من أدب ميخائيل نعيمة السبت ديسمبر 08, 2012 12:52 pm
ميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة( 1889 - 1988 ) مفكر عربي وهو واحد من الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية وأحدث اليقظة وقاد إلى التجديد وأقسمت له المكتبة العربية مكاناً كبيراً لما كتبه وما كتب حوله. فهو شاعر وقاص ومسرحي وناقد وكاتب مقال ومتفلسف في الحياة والنفس الإنسانية وقد أهدى إلينا آثاره بالعربية والإنجليزية والروسية وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المنزلة السامية.
حياته : ولد في بسكنتا في جبل صنين في لبنان في شهر تشرين الأول من عام 1889 وأنهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية فيها، تبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 حيث تسنّى له الاضطلاع على مؤلّفات الأدب الروسي، ثم اكمل دراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية (منذ كانون الأول عام 1911) وحصل على الجنسية الأمريكية. انضم إلى الرابطة القلمية التي أسسها أدباء عرب في المهجر وكان نائبا لجبران خليل جبران فيها. عاد إلى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي. لقّب ب"ناسك الشخروب"، توفي في 22 فبراير1988. أعماله القصص : نشر نعيمة مجموعته القصصية الأولى سنة 1914 بعنوان "سنتها الجديدة"، وكان حينها في أمريكا يتابع دراسته، وفي العام التالي نشر قصة "العاقر" وانقطع على ما يبدو عن الكتابة القصصية حتى العام 1946 إلى أن صدرت قمة قصصه الموسومة بعنوان "مرداد" سنة 1952، وفيها الكثير من شخصه وفكره الفلسفي. وبعد ستة أعوام نشر سنة 1958 "أبو بطة"، التي صارت مرجعاً مدرسياً وجامعياً للأدب القصصي اللبناني/العربي النازع إلى العالمية، وكان في العام 1956 قد نشر مجموعة "أكابر" "التي يقال أنه وضعها مقابل كتاب النبي لجبران". سنة 1949 وضع نعيمة رواية وحيدة بعنوان "مذكرات الأرقش" بعد سلسلة من القصص والمقالات والأِشعار التي لا تبدو كافية للتعبير عن ذائقة نعيمة المتوسع في النقد الأدبي وفي أنواع الأدب الأخرى. "مسرحية الآباء والبنون" وضعها نعيمة سنة 1917، وهي عمله الثالث، بعد مجموعتين قصصيتين فلم يكتب ثانية في هذا الباب سوى مسرحية " أيوب " صادر/بيروت 1967. ما بين عامي 1959 و 1960 وضع نعيمة قصّة حياته في ثلاثة أجزاء على شكل سيرة ذاتية بعنوان "سبعون" ، ظنا منه أن السبعين هي آخر مطافه، ولكنه عاش حتى التاسعة والتسعين ، وبذلك بقي عقدان من عمره خارج سيرته هذه.
الشعر : مجموعته الشعرية الوحيدة هي "همس الجفون" وضعها بالإنكليزية، وعرّبها محمد الصابغ سنة 1945، إلا أن الطبعة الخامسة من هذا الكتاب (نوفل/بيروت 1988) خلت من أية إشارة إلى المعرب.
المؤلفات : في الدراسات والمقالات والنقد والرسائل وضع ميخائيل نعيمة ثقله التألي في (22 كتاباً)، نوردها بتسلسلها الزمني: - كان ما كان 1932. - المراحل، دروب 1934. - جبران خليل جبران 1936. - زاد المعاد 1945. - البيادر 1946. - كرم على درب الأوثان 1948. - صوت العالم 1949. - النور والديجور 1953. - في مهب الريح 1957. - أبعد من موسكو ومن واشنطن 1963. - اليوم الأخير 1965. - هوامش 1972. - في الغربال الجديد 1973. - مقالات متفرقة، يابن آدم، نجوى الغروب 1974. - مختارات من ميخائيل نعيمة وأحاديث مع الصحافة 1974. - رسائل، من وحي المسيح 1977. - ومضات، شذور وأمثال، الجندي المجهول.
التعريب : قام ميخائيل نعيمة بتعريب كتاب "النبي" لجبران خليل جبران كما قام آخرون من بعده بتعريبه (مثل يوسف الخال، نشرة النهار) فكانت نشرة نعيمة متأخرة جداً (سنة 1981)، وكانت شهرة "النبي" عربياً قد تجاوزت آفاق لبنان .
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: مناجاة من أدب ميخائيل نعيمة السبت ديسمبر 08, 2012 12:58 pm
مناجاة
ليلٌ بهيم، وسماءٌ غضبَى، وأرضٌ في وجوم. وفي الرأس سباقُ أفكار لا تنام، وفي القلب حفيفُ أشواق وارفة، نديَّة، وفي العين رسومُ أشباح تتساوم على بني الإنسان وتتصافق، وفي الأذن جلبةٌ من صلوات وعربدات، وزفرات وقهقهات، وأنين شيوخ، وانتحاب أطفال، ودمدمة براكين، وهدير بحور كثيرة. وعلى الشفاه دبيبُ حروف ومقاطع وكلمات تنتظم وتنتثر تسابيحَ خافتةً حَيِيَّة لاسمك القدوس، يا مَن تعالى عن الأسماء والتسبيح. * يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل، طال ليلٌ نشرتَه فوق أرض حسيرة عشواء – طال وادلهمَّ وتغضَّن وترهَّل، ولكنه ما شاخ بعدُ ولا ابيضَّ فوداه. وبنو الأرض يدأبون في غضونه ويكدحون كما تدأب المناجذ وتكدح في غياهب التراب. يكدحون ويدأبون، إلاَّ أنَّهم حيث يبدأون ينتهون. يزرعون ويحصدون، وفي الأهراء يخزنون، ولكنهم أبدًا جياع وأبدًا معوزون. من حشاشة الأرض يأكلون، ومن مآقي المُزْن يشربون، ولكنهم في غُصَّة دائمة بما يأكلون وبما يشربون. يتزاوجون ويتناسلون، وأبدًا عن سَنَدٍ وعَوْن يبحثون. يتخاطبون ويتكاتبون، فما يتعارفون ولا يتفاهمون. يتنازعون على أردان الليل وأذياله، فيمزِّقون لحومَهم بأظفارهم، ويسحنون عظامَهم بأضراسهم، وبغير نُتَفٍ من جلابيب ليلهم لا يظفرون. من أين للأرض هذا القرمز في وجنتيها؟ أهو الدم المسفوح من نحر هابيل؟ أم شهوة الدم المشبوبة في قلب قايين؟ أما يزال دم هابيل سائحًا في عروق الأرض وصارخًا: "أنا الدم المهراق لا لذنبٍ إلاَّ لأنَّني أرضيتُ فارتضيت"؟ وشهوة قايين التي لا تُرضي ولا ترتضي – ويؤلمها إذا ما غيرُها أرضى فارتضى – أما تنفكُّ تستعر في أحشاء الأرض؟ أمحتوم على الحَبالى ألاَّ يحبلن بهابيل دون قايين؟ وعلى الوالدات والمرضعات ألاَّ يلدن ويرضعن سوى الذبائح والذبَّاحين؟ فيا ويل الحَبالى والوالدات والمرضعات! يا ويلهنَّ يغسلن أوزار أبنائهنَّ الذابحين بدماء أبنائهنَّ المذبوحين – فلا الأوزار بمغسولة، ولا الدماء بمحقونة. حتى مَ تحترق الأرضُ بشهوة قايين، فلا يطفئها دمٌ يتفجر من أوداجها، ودمع ينهلُّ من أحداقها؟ وإلى مَ هذا الليل يغشِّي على أبصار بني الأرض، فيلتقي في طيَّاته الأخُ أخاه، فينكره ويبغضه ويُرديه، ثمَّ يغسل يديه من دمه ويقول: "ما أنا بحارس لأخي"؟ ومتى تنحسر الظلمةُ عن أبصار بني الأرض، فيعرف الأخُ أخاه، ويعرف أنَّه حارس لأخيه ومطالَب براحته وسلامته وحياته إذا ما شاء هو الآخر أن يتذوَّق الراحةَ والسلامةَ والحياة؟ متى يتهلهل ليلٌ كثيف نشرتَه فوق أرض حسيرة عشواء، فيرفع إليك كلُّ ابن أنثى قلبَه الملفوح ويهتف عاليًا: "أهِّلني، يا مالك النهار والليل، أن أعرف أخي وأكون له حارسًا نشيطًا، يقظًا، أمينًا ومحبًّا، كيما يكفَّ دمُه في أذني عن الصراخ، ودمي عن الغليان والفوران." إلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضرِمَ النهار من محاجر الليل؟ * يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألِفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر، ها هم الذين برأتَهم صورةً لك ومثالاً، فنفختَ في صدورهم نَفَسًا من صدرك، وأودعتَهم روحًا من روحك، لا يغريهم من عيشهم شيءٌ مثلما يغريهم اللهوُ بالأعداد، وتمثُّل البدايات، وتصوير النهايات. فهم أبدًا يجمعون أعدادًا إلى أعداد، ويطرحون أعدادًا من أعداد، ويضربون أعدادًا في أعداد، ويقسمون أعدادًا على أعداد. ونتيجة ما يجمعون ويطرحون، وما يضربون ويقسمون، أعداد فوق أعداد فوق أعداد، تُبرى بترديدها ألسنتُهم، وتضيق بها خلايا أدمغتهم، وتتورَّم من الحملقة إليها أجفانُهم، وتتكسر على ركامها أقلامُهم، وتنشقُّ من ضغطها سجلاتُهم. يعدُّون الثواني والساعات، والسنين والقرون، ويحصون مَن وُلد ومَن مات. يعدُّون أجرامَ السماء، ويحصون كلَّ دورة من دوراتها ولفتة من لفتاتها، ويحسبون أوزانَها وأبعادَها. يعدُّون نباتَ الأرض وحيوانَها، وطيرَها وحشراتِها، ومعادنَها وطبقاتِها، وما فيها من جبال وبحار، وجداول وأنهار، وسهول وأغوار، وما على سطحها من مدن ودساكر ومزارع، وما في المدن والدساكر والمزارع من بشر وبهائم، ومن أيدٍ تعمل ولا تنعم، وأيدٍ تنعم ولا تعمل. يعدُّون في الصوت نبراتِه، وفي القلب أنباضَه، وفي الجسم عظامَه وعضلاتِه. يعدُّون أرزاقَهم من ثابت ومنقول، ولهم دفاتر يقيدون فيها ما يملكون من مال وما يدينون ويستدينون، وهم عليها أحرص من نملة على حبَّة، ومن عنكبوت على ذبابة – تلك هي دفاتر الخزائن والجيوب. أما أن تكون لهم دفاتر للأرواح والقلوب، يحاسبون فيها نفوسَهم عن كلِّ كلمة جارحة، ونيَّة غدارة، وفكرة قتَّالة، ومحبة حبسوها، ويد أمسكوها، ونعمة حجبوها عمَّن هم في حاجة إليها، فما فكروا في ذلك ولا يفكرون. يعدُّون، ويعدُّون، ويعدُّون، وإليك، يا واحدًا لا يُعَدُّ، لا يهتدون. ها هم الذين لفظتَهم حروفًا حيَّة في اسمك الحيِّ الذي لا يُلفَظ ما يفتأون يَصِلُون الحروفَ بالحروف، والمقاطعَ بالمقاطع، ويزوِّجون الكلماتِ من الكلمات، ويؤلِّفون منها الأحاديثَ والأساطيرَ والأسفار. فلا تكلُّ لهم شفاه، ولا تحرُنُ لهم أقلام، ولا تتخدَّر منهم أنامل. وكلماتهم أكثر ما تكون دخانًا لأبصارهم، وفخاخًا لأقدامهم، وسمومًا لدمائهم، ومناخزَ تقضُّ عليهم مضاجعَهم وتعبث بأحلامهم – والبريء منها ما كان كاليعسوب، لا عسل في فمه ولا إبرة في دُبُره. أما الكلمة التي تضمِّد جرحًا، وتفكُّ قيدًا، وتمزِّق غشاوة، والكلمة التي تجمع ولا تفرِّق، وتَجبر ولا تكسر، وتفتح ولا تغلق؛ والكلمة التي تشفع ولا تصفع، وتصفح ولا تنبح، وتُعين ولا تدين – فما أندرها! وأندر منها كلمة في يائها ألِف وفي ألِفها ياء – طليقة من أحابيل البدايات والنهايات، حيث بَنوك يتخبطون، وعنك، يا ألفًا هي الياء وياءً هي الألف، يصدفون. أعداد فوق أعداد، وحروف ومقاطع وكلمات بعد حروف ومقاطع وكلمات – وكلُّها سواد في سواد، وظلمات طيَّ ظلمات. فإلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر؟ * يا قلبًا يضيف ولا يُضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار، ما للضيوف المتألِّبين حول موائدك يتدافعون ويتلاطمون ويتناهشون؟ – وموائدك فسيحةُ الأرجاء، مثقلةٌ بأعجب الخيرات وأثمن البركات من كلِّ ما يؤكل ويُشرَب. أصنافها لا تعرف العدَّ ولا النفاد. وقد ضمَّختْها السماءُ بأطيب العطور، وزيَّنتْها الأرضُ بأبهج الألوان والأشكال. ما للشباع من ضيوفك يتجشأون، وتخمًا في أمعائهم يشكون، ولكنهم لا ينصرفون لحظة عن المائدة ولحظةً لا يقيلون، وللجياع مجالاً لا يفسحون؟ ألعلَّهم يخشون على كنوز خيراتك النفادَ، وعلى فوَّارات نِعَمِك النضوبَ، وعلى يدك المبسوطة الانقباضَ، لذلك يخزنون من يومهم السمين لغدهم الأعجف؟ وإذا ما خيرُك يومًا نَفَد، ونعمتُك نضبت، ويدُك انقبضت، فيمَ ينفعهم كلُّ ما يخزنون؟ وهل من غد ليوم تحبس فيه قِراك عن المقترين؟ وما للجياع من ضيوفك يقدِّمون رِجْلاً ويؤخِّرون أخرى، ويلاوصون، ويتغامزون، وبلُعابهم يتلمَّظون؟ ما لهم كالغرباء، أو كالبُرْص، بين ضيوفك، يدورون من حول موائدك، وبغير الكسارة والسقاطة لا يظفرون؟ ما للبياض في عيونهم يصطبغ بحمرة الشفق، وللدماء في عروقهم تنحمُّ، وللعضلات في سواعدهم تتكمَّش؟ ما للضيوف، شباعهم وجياعهم، لا يعرفون للضيافة حشمةً، ولا للمضيف وقارًا، فيتقاتلون على قصاعه المليئة أبدًا بكلِّ خير، وإياه بالخير لا يذكرون؟ متى يشبع الجياع من جودك، ويمتلئ الشباع من وجودك، فلا يتدافعون ولا يتلاطمون ولا يتناهشون؟ إلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا يُنار؟ * ليلٌ بهيم، وسماء غضبَى، وأرضٌ في وجوم. وفي الرأس بريقُ فكر واحد وهَّاج، وفي القلب بشارةُ فجر يولد، وفي العين خيالاتٌ مُجَلْبَبَة بالنور، وفي الأذن أجواقٌ من عوالم لا تُبصَر ترنِّم صامتةً ترنيمةَ الانعتاق، وعلى الشفاه تسابيحُ عاليةٌ لاسمك القدوس، يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل، يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألِفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر، يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار.
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: متفرقات من أقوال ميخائيل نعيمة السبت ديسمبر 08, 2012 1:25 pm
متفرقات من أقوال ميخائيل نعيمة * حبذا النسيان لو أن ما ننساه ينسانا
* ما من نسيان على الإطلاق بل هناك ذهول طارئ لا غير
* سموت إلى حد أني لم أبصر احد دوني
* عزة النفس في إهمالها
* ليس من المنطق أن تتباهى بالحرية وأنت مكبل بقيود المنطق
* رب عين جلبت عماها في غمزه
* الحرية هبه من فوق لا غنيمة من أسفل
* من طمع في أكثر من حاجته فأتته حتى حاجته
* أشرقت الشمس وما استشارتك وغربت وما استأذنتك أليس في ذلك استخفاف بك يا سيد الطبيعة
* كرمي على درب، فيه العنب وفيه الحصرم. فلا تلمني يا عابر السبيل إن أنت أكلت منه فضرست.
* تاه من لا دليل له من نفسه.
* كيف يبصر الذين عيونهم مفتوحة أبدا؟.
* أقرب ما تكون مني أبعد ما تكون عن نفسك؟
* ابتعدت عن الناس لأقربهم مني.
* عناصر الكون أربعة م. ح .ب. ة، يجمعها العنصر الفرد أنا.
* جارك من جاورت قلبه.
* عجيب لمن يغسل وجهه مرات في النهار، ولا يغسل قلبه ولو مرة واحدة.
* أعد الأموات الذين التهمتهم فما أحصيهم، وأعد الأحياء الذين التهموني فما أحصيهم، ثم أعدّني فإذا بي واحد لا غير
* كسرت قلمي مرتين: مرة عندما حاولت أن أحلل إيماني بالله، وأخرى يوم حاولت أن أحلل إيماني بنفسي.أما اليوم، فقد جمعت كسر قلمي وجبرتها، فعاد قلمي أقوى مما كان، وهو في شغل عن التحليل بالتسجيل .
* درست القانون لأعرف كيف تغزل الخيوط التي منها تحاك أكفان الحق والعدل.
* كيف تعرف عيبا ليس فيك؟
* لا ينبذ الناس خرافة إلا ليعتنقوا أكبر منها.
* الكبرياء والذل توأمان متلاصقان.
* للحسود ألف عين، ولكن في كل عين ألف جمرة.
* ( تعاتب الوتد والطنب، فقال الوتد ما ذنبي إليك حتى لتكاد تخنقني؟ فأجابه الطنب بل ما ذنبي أنا حتى لتكاد تقطعني؟ا عتقني فأعتقك . وعندما جاء صاحب الخيمة مكّن الوتد وشد الطنب، وانطلق إلى الصيد)
* أما سمعت بالذي طبخ القاموس وأكله ليصبح كاتبا؟ لقد مات المسكين بعسر الهضم، وما استطاع أن يكتب حتى وصيته.
* كم من ناس صرفوا العمر في إتقان فن الكتابة ليذيعوا جهلهم لا غير.
* يا للعجيبة أزرع قلبي على الورق فينبت في صدور الناس.
* سألت راعي معزي أقعدته الشيخوخة عن العمل: ما أجمل ما شهدته في حياتك؟ فأجابني: أمس رأيت حفيدي الصغيرين يرعيان جديين فيُحنيان لهما صغار الشجر ليأكلا أوراقها. ذلك أعذب ما شهدته في حياتي، فقد عشت صباي مرتين.
_________________
عدل سابقا من قبل Amer-H في السبت ديسمبر 08, 2012 1:35 pm عدل 3 مرات
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: رد: من أدب ميخائيل نعيمة السبت ديسمبر 08, 2012 1:33 pm
أخي... ميخائيل نعيمة
أخي ! إنْ ضَجَّ بعدَ الحربِ غَرْبِيٌّ بأعمالِهْ وقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ ماتوا وعَظَّمَ بَطْشَ أبطالِهْ فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بِمَنْ دَانَا بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشِعٍ دامٍ لنبكي حَظَّ موتانا
أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم سوى أشْبَاح مَوْتَانا
أخي ! إنْ عادَ يحرث أرضَهُ الفَلاّحُ أو يزرَعْ ويبني بعدَ طُولِ الهَجْرِ كُوخَاً هَدَّهُ المِدْفَعْ فقد جَفَّتْ سَوَاقِينا وَهَدَّ الذّلُّ مَأْوَانا ولم يتركْ لنا الأعداءُ غَرْسَاً في أراضِينا سوى أجْيَاف مَوْتَانا
أخي ! قد تَمَّ ما لو لم نَشَأْهُ نَحْنُ مَا تَمَّا وقد عَمَّ البلاءُ ولو أَرَدْنَا نَحْنُ مَا عَمَّا فلا تندبْ فأُذْن الغير ِ لا تُصْغِي لِشَكْوَانَا بل اتبعني لنحفر خندقاً بالرفْشِ والمِعْوَل نواري فيه مَوْتَانَا
أخي ! مَنْ نحنُ ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ إذا نِمْنَا ، إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر نُوَارِي فيه أَحَيَانَا .....................
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: من كتاب / البيادر إن شاء الله الأحد ديسمبر 09, 2012 9:50 am
من كتاب / البيادر إن شاء الله
ما وقفت مرة على منبر إلا تمنيتها أن تكون الوقفة الأخيرة. لأنني في كل ما أقوله للناس، أحاول أن أفرغ وجدي في وجدانهم، و راحي في أرواحهم، فتصدني منهم طبلة الأذن عن شغاف القلب، و حدقة العين عن بؤبؤ البصيرة. فأترك المنبر و كأني ما بحت بوجدي إلاّ لأزيد في وجدي، و لا قدمت راحي إلاّ لأغص براحي. و لكم تمنيت لو كانت الحكمة كلمة عن لساني لأذيعها للناس، أو للمعرفة سراجاً في يدي لأقدمها للناس. لكن الحكمة خرساء، و المعرفة عمياء، و كلتاهما في عالم أقصى من السمع و البصر- عالم قد يكون من الكلام دليل عليه، لكنه أوسع من أن يستوعبه أي كلام. في ذلك العالم يتعانق الإله و الإنسان، و يندمج الجماد و الحيوان، و يمتزج الزيت بالماء، و تلتصق الأرض بالسماء. هنالك لو فتشتم عن غدكم لوجدتموه في أمسكم، و عن مهدكم لاكتشتموه في رمسكم، و عن والدكم للقيتموه في ولدكم، و نفسكم لألفيتموها في كل نفس. هنالك لا قبل و لا بعد، لا فوق و لا تحت، لا شناعة و لا جمال، لا حرام و لا حلال، لا وزن و لا قياس، بل آزال تنتهي بآباد، و آباد تنتهي بآزال، و روح منبث في كل منظور و غير منظور، و "هنالك" ليست غير "ههنا" بيد أن الناس لا يبصرون. و لأنهم لا يبصرون ترونهم قد جعلوا لحياتهم قياساً، و أصغر ما فيها أكبر من أن يقاس. و رتبوا لها أثمانا، و أبخس ما فيها أثمن من أن يثمن. و أقاموا الحدود و الفواصل بين أعضائها، و أعضاؤها جسد واحد لا يتجزأ. لذلك كانت أيامهم حبلى بالشدائد و لياليهم مثقلة بالهموم. و لو أنهم أبصروا الحياة ببصائرهم لا بأبصارهم لما كان لهم من همّ سوى هم الانعتاق من كل همّ. و لو أنهم طلبوا الانعتاق لوجدوا أن لا سبيل إليه إلا بطرح مقاييسهم العوجاء و موازينهم الجوفاء، و نكران مشيئتهم العمياء من أجل المشيئة الكلية المبصرة، و إفناء ذاتهم المحدودة في ذاتهم التي لا تحدّ. ألستم تسمون مَن شارككم في دم أبيكم و أمكم و لحمهما، و رضع الثُّدىَ التي رضعتم، أخاً لكم أو أختاً؟ فكيف بمن شارككم في لحم الحياة و دمها و من يرضع البقاء في كل لحظة من الثديّ التي ترضعون؟ ألستم تقدسون الأخوة و تؤمنون بأن صُلب الأخوة المحبة؟ فما بالكم تؤاخون القليل و تنبذون الكثير؟ و تحبون الواحد و تكرهون الألف؟ إن أخوة كهذه لأخوة مقصومة الصلب لا تنزّ إلا القيح و الوجع. إن محبة كهذه في عينها رمد و في أمعائها هواء أصفر. و ما زلتم معرضين عن الأخوّة الصحيحة و المحبة الصحيحة، ظلت حياتكم أرجوحة للحزن و الألم و ميداناً للصراع و النزاع. أما الأخوة الصحيحة، فهي في تلاشي المحبّ في المحبوب. ألستم تمشون على الأرض، فتحملكم و لا تنوء بكم و لا تئن؟ فما بالكم تحملون الأرض فتنوءون بها و تئنون، ثم تشكون الأرض إلى السماء، و السماء ما كلفتكم يوما بأن تحملوا الأرض، بل كلفتها أن تحملكم، و هي تقوم بوظيفتها خير القيام؟
ألستم تتهافتون على قصاع الحياة؟ فما بالكم تهربون من قدور الموت؟ و لو لم تكن قدور الموت مملوءة أبداً لكانت قصاع الحياة فارغة أبداً. أتخافون الموت؟ إذن فكيف تركنون إلى الحياة و أنتم عارفون أنها تقودكم إلى الموت؟ من كره الموت فليكره الحياة، ومن أحب الحياة فليحب الموت. فما الموت إلا حقل الحياة و لا الحياة إلا بيدر الموت. لكنني أقول لكم إنّكم لو أنفقتم العمر في الشكر لربّ الحياة و الموت لكنتم مع ذلك إلى الكفران أقرب منكم إلى عرفان الجميل. ها هو العالم من حولكم يكاد يختنق بالدخان الذي تثيره أوهامه، بأن الحياة سلعة تباع و تشرى أو تغتصب بحدّ السيف. وأن البعض يأخذ منها أكثر من الآخر، و أن هذه الكتلة من الناس أحقّ ببركات الوجود من تلك أو هاتيك. يا ويل هذا العالم من غروره! فهو يدعي المعرفة و ما يزال بعيداً حتى عن عتبتها. ما قولكم، لو كان أحدكم ربان سفينة في بحر، في صبي لا يعرف شيئاً عن تركيب السفينة و الميناء التي جاءت منها و الميناء التي تقصد إليها، يأتي الربان قائلاً بلهجة الأمر: "أعطني الدفّة"؟ ألا يضحك الربانُ منه و يسير بسفينته إلى المنياء التي يريد؟ ما قولكم لو كان أحدكم قاضيا على منصة الحكم، و جاءه غرّ لا يعرف من الشرع شيئاً، و لا مَن و لا الغاية من وضعه، و قال بلهجة العارف: "دعني أبتّ في الدعوة التي بين يديك"؟ ألا يسخر به و يمضي في دعواه؟ فكيف بالحياة التي لا حدّ لأعاليها و لا قرار لأعماقها و لا نهاية لعجائبها، يقوم في وجهها أحد أبنائها القاصرين- الإنسان- وفي يمناه ميزان و في يسراه ذراع و يقول لها بلهجة السيد المتعنت: "بهذا الميزان، و بهذه الذراع أريد أن أصحح ما اختلّ من موازينك و مقاييسك. " ألا ترون أن الحياة تربت بحنوّ على كتفه، ثم تجرعه من الشقاء على قدر غروره، كيما يفيق من غروره؟ هكذا يشقى العالم بغروره و سيظلّ في شقائه إلى أن يتعلّم ما تعلّمه هذا الشرق من زمان ثمّ نسى معناه- إلى أن يتعلم قول "إن شاء الله". فالمشيئة لا تكون بغير معرفة، و المعرفة لا تكون بغير مشيئة، بل إن المعرفة هي المشيئة، و المشيئة هي المعرفة، أمّا الجهل فلا مشيئة له. كيف لمن يجهل من أين أتى أن يشاء إلى أين يمضي؟ أم كيف لمن لا يعرف علّة وجوده أن يحتم هذه الغاية، أو تلك لوجوده؟ كيف لمن لا علم له بالأسباب أن يقر النتائج؟ لا. ليس يعرف شيئاً من ليس يعرف سوابق ذلك الشيء من الأزل و لواحقه إلى الأبد. من كان في مستطاعه أن يقول "أنا أعرف" حقّ له أن يقول "أنا أريد". أما الإنسان الذي ما برح في عالم البدايات والنهايات و القناطير و الفراسخ، فقصيّ عن هذه المعرفة. و مشيئته وبال عليه، كلما عاكست المشيئة الكليّة. فما له، إن هو أراد التخلص من شقائه، إلا أن يقول " أنا أشاء كيت و كيت، و إن شاء الله كيت و كيت". لو تعود الإنسان قول "إن شاء الله" بقلبه لا بلسانه لما عتمت المعرفة أن سكبت من نورها في قلبه. و إذ ذاك لآزرت المشيئة العامة مشيئته فأسعدته، بدلاً من أن تسحقها فتشقيه. لكنّه لاهٍ عن مشيئة الحياة المبصرة، و ما في طاعتها من طمأنينة لا تدرك، و غبطة لا توصف، بمشيئته العمياء و ما تبذره في كل يوم من مشاكل و هموم. أوَلا ترون كيف أنه يرهق جسده بتوسيع نطاق حاجاته إلى حدّ لا يطاق، و يخنق روحه بتضييق نطاق حاجاتها إلى حد لا يطاق؟ ما أبسط حاجات الجسد و أقلها لمن يعقلون! فالذي وهب الإنسان الفكر و ما فيه من سحر، و الخيال و ما فيه من قوّة، والشعور وما فيه من جمال، لن يبخل عليه برغيف و قميص و مأوى. أوَلا ترون كيف أنه يسعى جهده لامتلاك كل ما تصل إليه يداه، غير عارف أن المالك مملوك ما يملك؟ أوَلا ترون كيف أنّه يدأب الليل و النهار في تحصيل ما يحسبه ثروة أو غنى، جاهلاً أن الغني من استغنى عن الشيء لا به، و أن الزيادة في ثروة المادة نقصان في ثروة الروح؟ يا للعار أن يصبح مالك الكون مملوكاً لمال أو عقار! يا للخزي أن تغدو صورة الله سلعة في أسواق الكسب و الخسارة و النخاسة و الدعارة! يا للهزيمة أن يهرب مثال الله من الله إلى كهوف الهمّ و مفاوز الشكّ و الشقاء! ألا فرجوا عن صدوركم فأنتم أقوى من الفناء، لأنكم أبناء الحياة التي لا تفنى، و أنتم أغنى من أن تستعطوا، لأنكم ورثة الحياة التي تعطي أبداً و لا تستعطي. أنتم أشد من أن تخور عزائمكم، لأنّكم ذرية الحياة التي لا تعرف الملل و لا الفتور. لا تهتموا بالأسباب لأنكم تجهلون أسباب أي عمل من أعمالكم و فكر من أفكاركم أين تبتدئ، و لا بالنتائج لأنكم لا تعرفون نتائج أي عمل من أعمالكم، و لا أي فكر من أفكاركم إلى أين تمتدّ؛ و اعملوا في حقل الحياة الفسيح، مؤمنين بأنها لن تكون إلا عادلة في كل ما تقضيه لكم أو عليكم، و أنها إذا ما انصرفتم عن كل همّ غير هم من الوصول إلى المعرفة لن تبخل عليكم بالمعرفة، من بعد أن وهبتكم كلّ وسائل المعرفة. و ريثما تدركون ذلك قولوا في قلوبكم، كلما أقدمتم على عمل أو نويتم نية أو رغبتم رغبة: "إن شاء الله" و الحياة كفيلة بأنكم لن تضلوا المحجّة، التي عندها تستطيعون أن تقولوا: "أنا أشاء لأنني أعرف". تلكم في اعتقادي هي محجة المحجات، و الناس كلّهم مدركوها يوماً ما- إن شاء الله!
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: من كتاب / دروب الأحد ديسمبر 09, 2012 12:15 pm
من كتاب / دروب
لو شئت أن أحدد النقد بثلاث كلمات لقلت : إنه عمل الحياة الدائم ، فهي ما زرعت السماء شموساً وأقماراً وكوكبات ومجرات ، ولا فجرت من أديم الأرض هذه الأشكال ما بين سائل وجماد ونبات وحيوان وإنسان ، ولونتها بسائر الألوان ، ولا ربطت كل ذلك بنظام شامل مانع لتقبع من بعدها في زاوية من المسكونة ، وتنظر إلى زرعها بعين ارضى ، ثم تقول معتزة بما صنعت :" إنه حسن جداً " . فلو أنه كان أقصى ما تستطيع أن تتوخاه لما أمعنت فيه تبديلاً وتغييراً ، وتحريفاً وتحويراً .فما تفتت نجوم وتكورت نجوم ، ولا بركان ، وطغى بحر ، وزمجر إعصار ،وقرقر زلزال ،ولا كان إنطلاق بعد انغلاق ، وانغلاق بعد انطلاق ، أو نمو ينتهي إلى انحلال ، وانحلال ينتهي إلى نمو ، ولا كان " هذا الحيوان المستحث من جماد " الذي حار في نفسه على قدر ما حارت البرية فيه . لو كان لنا أن نُجري على هذه الحركة الكونية التي لا تنقطع ولا رفة جفن مثل الأحكام التي نجريها على حركاتنا البشرية لقلنا إنها ناجمة عن قلق وشوق في آن معاً . فنجن لا نأتي حركة من الحركات - عفوية كانت أو عن سابق قصد وتصميم - إلا نتيجة لعدم اطمئناننا إلى وضع نحن فيه ، وإلا تشوقاً منا إلى وضع أفضل منه . ما كان الإنسان في حاجة إلى التفكير والتمييز والخلق والتخيل والإرادة والإفصاح عن هذه جميعها لو لم يكن العالم الذ يسكنه عالماً إزدواج ثم تناقض كل ما فيه . فذكر وأنثى ، وبعيد وقريب ، وطويل وقصير وحار وبارد ، وثقيل وخفيف ، وأبيض وأسود ، وحلو ومر إلى آخر ما هنالك من متناقضات . ولا كان القلق والشوق لولا الحاجة الدائمة إلى الاختيار ما بين هذا الشيء ونقيضه ، أو ذلك الفكر وعكسه ، أو هاتيك العاطفة وأختها التي على الطرف الآخر منها . فنحن مدعوون في كل لحظة من وجودنا إلى التفكير والتمييز والاختيار - أي إلى النقد . ...................
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: التوأمان : الشرق و الغرب ( البيادر ) الأحد ديسمبر 09, 2012 11:44 pm
التوأمان : الشرق و الغرب ( البيادر )
: شرق بصير وغرب مبصر تفرَّدت اللغةُ العربية بكمالاتٍ كثيرة، ولاسيما في معالجة النفس البشرية وما انطوتْ عليه من قوى ومشاعر ونزعات. وفي ذاك دليل على أن بُناة هذه اللغة الكريمة قد سبروا في النفس أغوارًا سحيقة؛ وإلا لما خلقوا لغة تمكِّنُهم من تصوير دفائن النفس في أدقِّ معانيها، وأشفِّ ألوانها، وألطف ظلالها. فما كانت اللغة يومًا أكثر من أداة للإفصاح عن حاجة في النفس أو حاجة في الجسد. فعلى قدر ما تتسع تلك الحاجات وتتنوَّع طواياها تتَّسع اللغةُ وتتنوَّع أساليبُها. وشعبٌ غزير الحسِّ، مرن الفكر، وثَّاب الخيال، لا بدَّ من أن يخلق لغة غزيرة الألوان، مرنة المفاصل، وثَّابة البيان.
من أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزُها ما بين "البصيرة" و"البصر" وجعلُها الكلمتين فرعين من أرومة واحدة، بل توأمين من بطن واحد. ولكن ذاك الفرع غير هذا؛ ولكن هذا التوأم غير ذاك. فكأنَّهما واحد وليسا بواحد. فالعين، إذ تمرُّ بهما، تحسُّ ما بينهما من تجانس، ولكنها تحسُّ مع التجانس تباينًا. والأذن، إذ تلتقطهما، تستأنس في الاثنين برنَّة تكاد تكون واحدة، ولكنها غير واحدة. فهما أبدًا متلاصقان متباعدان، ومتشابهان متناقضان. أما التلاصق والتشابه ففي المصدر؛ وأمَّا التناقض والتباعد ففي الطريق والواسطة.
فالبصر – ومركزُه العين – يحصر كلَّ همِّه في التقاط أشكال الأشياء وألوانها؛ ومن أشكالها وألوانها يحاول أن ينفذ إلى كنهها. حين أن البصيرة – ومركزُها القلب أو الوجدان – همُّها الوصول إلى بواطن الأشياء دون التلهِّي بظواهرها. فالاثنان يدأبان وراء المعرفة؛ لكن سبيل الواحد غير سبيل الآخر. أما أيُّ السبيلين أفضل وأكفل بالوصول إلى المعرفة فأمرٌ لكلٍّ منكم الحقُّ أن يبتَّ فيه بحسب هواه.
أما أنا فقد قلت من زمان – وما أزال أقول – بأسبقية البصيرة على البصر في بلوغ الغاية المنشودة التي هي الفهم الأقصى المؤدي إلى الحرية القصوى.
لن يبلغ البصرُ قلبَ الحقيقة قبل أن يبلغ حدودَه ويدرك عجزَه وقصورَه، ويلوذ بالبصيرة فينقلب بصيرة. أما البصيرة فلا حدود لها، مثلما لا حدود للحقيقة التي تتوخَّاها. فهي، وإن توكَّأتْ على البصر، لا تسير في نوره. فالمحدود لا يسع سوى المحدود؛ وما كان بغير حدود لا يسعُه إلا ما كان بغير حدود.
والآن، إذا ما قلت لكم إن الشرق هو بصيرة العالم وإن الغرب هو بصره، فما إخالكم تسيئون فهم ما أقول، فتحسبون أن الشرق كلَّه بصيرة ولا بصر، وأن الغرب كلَّه بصر ولا بصيرة. ذاك يعني تجريدَكم الشرق عن كلِّ حسٍّ خارجي، وتجريدَكم الغرب عن كلِّ شعور باطني؛ وهو غير الواقع وغير المعقول. وجل ما أرمي إليه هو القول بأن زبدة الشرق في بصيرته وزبدة الغرب في بصره، وأن الاثنين توأمان متلاصقان يبدوان كأنهما واحد ولكنهما غير واحد.
لقد اتَّبع الشرقُ هدْيَ البصيرة، واتبع الغربُ هدْيَ البصر؛ فأنجب الأول الأنبياء وأنجب الثاني العلماء. فكانت هدية الأنبياء إلى العالم أديانًا ترفع الأرض إلى السماء؛ وكانت هدية العلماء علومًا تهوي بالسماء إلى الأرض.
لكنما الإنسان، وقوى الإنسان، من ظاهرة وباطنة، في مدٍّ وجزر متلازمين. فللبصيرة، مثلما للبصر، مدٌّ يتلوه جزرٌ وجزرٌ يتلوه مدٌّ. ومَنْذا ينكر أن من بصيرة الشرق قد فاض على العالم مدٌّ جارف من الكمالات والجمالات الروحية؟ منذا ينكر على الشرق قوةً اندفعت من قلبه وفكره وروحه إلى كلِّ قلب وفكر وروح، فتغلغلتْ في نبضاتها، وسيطرتْ على خلجاتها، وتسلَّطتْ على أقدس أشواقها وأعزِّ أمانيها؟
منذا ينكر على الشرق سلطانَه على كلِّ أبناء الأرض، منذ كانت الأرض وكان الشرق؟ وأيُّ سلطان يتوخَّاه إنسان على إنسان أقوى من السلطان على القلب والفكر والوجدان؟
ما هي بالهدية الطفيفة أن تهدي إلى العالم بأسره إلهًا، ومع الإله اليقين بأنه أبوك الشفيق الرحيم العادل، ومع اليقين الرجاء بالانعتاق من ربقة الموت وآلام الموت.
تلك هي هدية الشرق إلى العالم. وهي هدية ما تلقَّفها العالمُ حتى أصبح كلُّه معبدًا لإله تعدَّدتْ أسماؤه ولكنه واحد. وإذا الناس يفتحون قلوبهم وأفكارهم وبيوتهم لذلك الإله، فلا يأكلون ولا يشربون، ولا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، ولا يعملون ولا يستريحون، ولا يولدون ولا يموتون، إلا باسمهِ وبمشيئته.
وكأن بصيرة الشرق، إذ هَدَت العالم إلى الله، حاولتْ أن تعطِّل بصره من قبل أن تفتح بصيرته. فكان من ذلك ردُّ الفعل الفظيع الذي بدأنا نشهده في العصور الأخيرة – وأعني طغيان البصر على البصيرة. فالبصر اليوم في مدٍّ والبصيرة في جزر. وكما استغرق مدُّ البصيرة أجيالاً، بل عصورًا طويلة، يستغرق مدُّ البصر عصورًا طويلة. ولعلَّ العصر الذي نحن فيه هو نهاية تلك العصور.
لقد كان من مدِّ البصر أن حياة الإنسان المادية أخذت تتقلَّب من حالٍ إلى حال بسرعة خاطفة: فنُظُمٌ تنهار ونُظُمٌ تُشاد، وحواجز تندكُّ وأخرى ترتفع، وممالك تمَّحي وغيرها يُسطَّر، ولآلئ تغدو حصًى وحصًى تغدو لآلئ؛ ما كان أمس حرامًا يصبح حلالاً، وما كان حلالاً يمسي حرامًا.
هو ذا الإنسان يهزأ بالنسر في جوِّه، وبالحوت في بحره، وبالأسد في عرينه. وهو يُمَنْطِقُ بصوته الأرض، ويحبس نور النهار في أسلاك يسلِّطها على الليل فتمحو ظلامه، ويجترح من العجائب أشكالاً وألوانًا في مختبراته العجيبة. ولا ينقصه – على حدِّ قول البسطاء – إلا أن يخلق إنسانًا نظيره، ثمَّ أن يغلب الموت.
حقًّا إنه لتيار هائلٌ جارف تتعالى أمواجُه وتتدافع في كلِّ ناحية؛ وفي تدافعها صخبُ الزلازل وعتوِّ العواصف، مع شيء من بهجة الفصول، ورونق السماء، وسحر الفوز بالغنيمة، وجاذبية القوة الظافرة. فلا غرو إذا ما غمرت المعمورة وبهرت الأبصار. فهي بنت البصر، وللبصر الحقُّ أن يعتزَّ بها؛ فهو ما أنجبها إلا لينعم بمواهبها وخدماتها.
لاغرو أن يقف العالم – وفي جملته هذا الشرق – مشدوهًا تجاه مدنية الغرب المبصر، وأن يهلِّل لها ويكبِّر، وأن يغفر لها كلَّ زلاتها، ثمَّ أن يعقد عليها آمالاً أبعد بكثير من مدى سلطانها. فهي، على ما فيها من مرارة، غنية بالحلاوة التي لا يصعب على أيِّ إنسان تذوُّقُها، لأنها حلاوة يتذوَّقها الحسُّ. أما حلاوة المدنية القائمة على البصيرة فدون تذوُّقها شقُّ النفس وقهر الجسد. لذلك كانت الأولى أقرب إلى متناول الناس وأذواقهم من الثانية؛ ففيها – كما جاء في بعض الحكايات – "ما يُحَلِّي ويُسلِّي ويُعشِّي الحمار". والحكاية – إذا كنتم تجهلونها – هي حكاية مَكارٍ معه حمارٌ بلغ عند المساء فندقًا في الطريق فعزم أن يبيت ليلته فيه. ثم طلب إلى صاحب الفندق أن "يأتيه بشيء رخيص يحلِّي ويسلِّي ويعشِّي الحمار". فما كان من صاحب الفندق إلا أن جاءه ببطيخة؛ فتحلَّى بلبِّها وتسلَّى ببذرها وعشَّى حماره من قشرها.
ومدنية البصر للجماهير كتلك البطيخة لذاك المكاري. ففيها ما يدغدغ الذوق، ويسلِّي العين والأذن، ويلهي الإنسان عن نفسه؛ مثلما فيها غذاء – أو بعض الغذاء – للبهيمة في الإنسان. أما القلب فتتركه فارغًا، وأما الروح فتعلِّقه على مشنقة الشك والحيرة والإبهام. إلا أنها ذات قيمة من غير شكٍّ. فليس من الحكمة نبذُها، ومن الجهل المطبق التفتيشُ فيها عن التغذية الكاملة للإنسان الطامح إلى الكمال.
ذاك، إذا ما أخذتموها من حيث هي تريد أن تؤخذ، أي من حيث محاسنُها لا غير. أما إذا تفحصَّتم مساوئها فلن تجدوا مدنية قبلها بلغت ما بلغتْه من التكالب والتباغض والقساوة، مع الكثير من التبجح بالعكس. وإما عجبتم لمشهد غريب فاعجبوا معي لهذا الشرق – وقد أهدى إلى العالم المحبة والقناعة والتضامن والتآخي – يقف اليوم على مفرق طريق البصيرة والبصر كسير القلب، ذليل الجفن، ضامر الصدر والبطن، ويمينُه الفارغة ممدودة نحو الغرب، وفي يسراه قائمة بأسفاره المقدسة وأسماء أنبيائه. ثم اسمعوه يستعطي بصوت متهدِّج فيه الانسحاق، وفيه المسكنة والاندحار. وماذا عساه يستعطي؟ إنه ليستعطي طيارات ودبابات ومدمرات ومدافع وقنابل. وإني لأسمعه يقول:
"من يقايضني قنبلة محرقة بآية منزلة؟ وطيارة أو دبابة بسِفْر مقدس؟ بل من يقايضني مخترِعًا واحدًا بعشرة أنبياء؟"
ما هذا، ما هذا؟ أبصيرة تستجدي بصرًا؟ أشمس تستغيث بذبالة؟
أجل، إن بصرًا نشيطًا لخير من بصيرة كليلة. وبصيرة الشرق حلَّ بها كلالٌ منذ أن بلغتْ من مدِّها أقصاه. وإن ذبالة تشتعل لخير من شمس اعتراها الكسوف. وشمس الشرق حلَّ بها كسوفٌ منذ أن انكفأ الشرق على ذاته في جَزْرِه الطويل. إلا أن الكلال يزول بالراحة؛ والكسوف، من بعد أن يبلغ حدَّه، ينجلي عن شمس كلُّها نار وكلُّها نور. ومن ثمَّ فالحياة – وهي أمُّ التوأمين بالسواء، أمُّ البصيرة والبصر، أمُّ الشرق والغرب – ما دَرَجَتْ بالشرق إلى أسمى ذراه حتى عادت فدرجت بالغرب إلى أسمى ذراه. والذروتان ستلتقيان حتمًا في ذروة واحدة هي ذروة الإنسان الموحَّد والمالك زمام نفسه وزمام الأرض والسماء.
أما زمان الملتقى فلن ينقاد تحديدُ قربه وبعده إلى الذين يقيسون الزمان بالساعات والسنين، والفضاء بالأذرع والفراسخ. فهو قريب – وقريب جدًّا – لمن في بصيرتهم أبصار، وفي بصرهم بصائر، وبعيد – وبعيد جدًّا – لمن بصائرهم كفيفة وعلى أبصارهم غشاوات.
وإلى أن يكون الملتقى لا بدَّ للشرق من وثبة بعد هجعة، وللغرب من هجعة بعد وثبة؛ بل لا بدَّ لذاك وهذا من وثبات بعدها هجعات.
وإني لأرجو لهذا الشرق أن تكون وثبتُه القادمة وثبةً تجلو الغشاوة عن بصيرته وعن بصر أخيه الغرب؛ وثبةً فيها القوة دون البطش، والمعرفة دون الادِّعاء، والرفعة دون الكبرياء، والقناعة دون الخنوع، والإيمان دون التعصُّب، والسلام دون الانتقام، والنور دون النار، والسكينة دون الاستكانة – وكيف لمن سيم الذلَّ دهرًا أن يسوم سواه الذلَّ يومًا؟ ولمن ذاق طعم الفقر أن يشتهيه لغيره؟ لا يشبع من أجاع جاره؛ ولا يعلو من نَعلُه على عنق قريبه.
مادامت البشرية على هذه الأرض دام شرقُها في حاجة إلى غربها، وغربُها في حاجة إلى شرقها، وكان ما يرفع الواحد يرفع الآخر، وما يحطُّ هذا يحط ذاك. فما طار نسرٌ بجناح واحد ولا صفقتْ يمينٌ بغير يسار.
: شرقٌ يقيم الأهداف وغربٌ يمهد السبيل إليها لقد كان من هجعة الشرق بعد يقظته، ومن يقظة الغرب بعد هجعته، أن تبادر إلى أذهان كثير من الناس أن الشرق قد شاخ وهرم، وأن الغرب لا يزال في ميعة شبابه وعنفوان قوته. فأصبح من شاء الكلام عن الاثنين لا يجد ما ينعت به الشرق أفضل من الانحطاط، والجمود، والخنوع، والتفكُّك، والتحجُّر، والكسل، وفقر الجيب والقلب، وعمى البصيرة والبصر؛ ولا ما ينعت به الغرب أقل من النور، والعلم، والإقدام، والرقيِّ، والحرية، والعدالة، والبأس، والشجاعة، والمروءة؛ فكأن الشرق بؤرةٌ من الأوبئة القتَّالة، والغرب فوَّارة من البركات المحيية. أما الحقيقة فهي أن كلا التوأمين – الشرق والغرب – يجدِّد شبابه كالنسر. ولن ينفكَّا يهجع الواحد فينهض الآخر، وينكمش هذا فينبسط ذاك، حتى يبلغا بالإنسانية إلى حيث لا هجوع بعد نهوض، ولا انكماش بعد انبساط، بل وجود بغير شطوط، وحياة بغير عواصف.
والغريب أن أبناء هذا الشرق كانوا – وما برح الكثير منهم حتى اليوم – أفظع تنكيلاً بشرقهم من أبناء الغرب، وأشد إعجابًا بالغرب من رجال الغرب. فقد تسمعون في الغرب أصواتًا تُجاهِر بالتواء سبله، وإفلاس فكره، وفقر روحه بالنسبة إلى الشرق؛ ولا تكادون تسمعون في الشرق صوتًا يشيد بما فيه من كنوز القلب والفكر والخيال. وأغرب من ذاك أن هذه الكنوز عينها هي في نظر دعاة الغرب في الشرق السبب الأول والأخير في ما يدعونه انحطاطًا وما هو بالانحطاط، وجمودًا وما هو بالجمود، واحتضارًا وما هو بالاحتضار. إنْ هو غير هدأة بين عاصفتين، وفجوة بين موجتين.
أصحيحٌ ما يزعمه الزاعمون أن أنبياء الشرق قد جَنَوْا على الشرق، وأن أديان الشرق هي أكبر آفات الشرق؟ أصحيحٌ أن السماء قد شغلت الشرق عن الأرض، والآخرة عن الدنيا، وأن الاعتقاد بالقدر قد غلَّ يديه، وشلَّ فكره، وسدل حجابًا على عينيه؟ أصحيحٌ أن الشرق مات لأنه آمن بالإله الحي الذي لا يموت؟
لا. ثمَّ لا. ثمَّ لا. فالذي فعله الشرق حتى اليوم ما كان أكثر من وضع أهداف له وللعالم أجمع. وتلك الأهداف تتوحَّد كلُّها في هدف واحد هو هدف الكمال لهذا المخلوق الذي ندعوه إنسانًا – هدف الانفلات من قيود اللحم والدم، والتغلُّب على الحيرة وما في الحيرة من وجع، وعلى الموت وما في الموت من ألم، والتسلُّط على طلاسم الوجود، ثم الانطلاق في حياة لا حدود لها ولا قيود فيها، يرفُّ عليها سلامُ المعرفة، ويتألَّق في جوِّها بهاءُ الألوهة، ويندمج في قبضتها النقيضُ بالنقيض، ويتلاشى في فضائها الزمان والمكان.
وهذا الهدف قد نفذ إليه الشرق ببصيرته البالغة منتهَى النقاوة والصفاء في بصائر أنبيائه. فهو حقيقة لا مجاز. وهو رؤية لا رؤيا. وهو واحة حية لا سراب خدَّاع.
أما أن الشرق بمجموعه ما بلغ ذلك الهدف بعدُ فأمرٌ لا نزاع فيه على الإطلاق. والقائل بعكس ذلك كالقائل بأن كلَّ رجل في الشرق نبيٌّ وكل امرأة نبية، أو كالقائل بأن كلَّ رجل في الغرب عالِم أو مخترع وكل امرأة عالِمة أو مخترعة. وفي ذاك ما فيه من السذاجة والبلاهة.
ليس يعيب منارةً ألا يستنير بنورها الحارسُ الساكن في كنفها، مثلما لا يعيب قمة نابتة في بقعة من الأرض ألا يتسلقها أبناءُ تلك الأرض. فهدف الشرق هو هو – حقيقة وضَّاءة ثابتة أبدية – سواء أفي هذه الحقبة من حياته أدركه الشرقُ أم بعد حقب طويلة.
بل يكفي الشرق فخرًا – إذا كان من مجال للمفاخرة – أنه في فترة من حياته التهب حماسةً لذلك الهدف، واتَّقد إيمانًا به، وتفانى في سبيل الوصول إليه. ولكنه أدرك العياء قبل الوصول؛ فانكفأ على ذاته، وراح يوصل ما تقطَّع من نياط قلبه، ويرمِّم ما انهار من عزمه، ويبحث في الثرى عن الثريا، فيفوتُه الثرى ولا يظفر بالثريا.
ذلك لأن الطريق المؤدي إلى ذلك الهدف طريق ليس يكفي السالكين فيه أن يؤمنوا بالهدف وأن يتبرَّكوا بأسماء واضعيه، وأن يتصدَّقوا على متسوِّل، ويُطعموا جائعًا، أو أن ينقطعوا أيامًا عن الطعام، أو أن يؤدوا فروضًا معلومة في المعابد.
إنه لطريق ما عبَّدتْه كثرةُ الأرجل بعد. والرعيل الأول من الإنسانية الذي قطعه إنما قطعه مشيًا على القلوب لا على الأقدام، وعلى ضوء غير ضوء الشمس والقمر. وسواد الناس، شرقًا وغربًا، لا يزالون أطفالاً لا يحسنون المشي على أقدامهم حتى الآن؛ فكيف بهم يمشون على قلوبهم؟ وهم يتعثرون في النهار؛ فكيف بهم يسيرون في ظلمة دامسة؟
ما هو بالشنار على الشرق ألا يدرك الهدف بوثبة أو بوثبتين، أو في خلال قرن أو قرنين. فما هو بالهدف الذي يُدرَك بألف وثبة وفي ألف جيل. وإنما الشنار أن يقعد الشرق بمجموعه، من بعد أن وثب ولم يصل، قعدة اليائس البائس، قعدة المنهوك والمقهور، قعدة الخاسر الحائر؛ ثمَّ أن يشيح بوجهه عن هدفه قائلاً إنه خيال وإن الوصول إليه ضرب من المحال، وأن يدير وجهه شطر الغرب باحثًا هناك عن هدف وعن طريق.
أقول لكم: لا هدف للإنسان أبدع وأسمى وأقوى على الزمان من الذي نَصَبَه الشرق وراح يدعو إليه الناس أجمعين. وهو، إذا ما تحجَّب عن البصر المقنَّع بألف قناع، فلأنه ابن البصيرة النيِّرة الصافية؛ وهو، إذا ما عزَّ منالُه، فلأن الكمال عزيز المنال. وهو حقيقة مثلما الوجود حقيقة؛ بل هو الحقيقة قبل كلِّ حقيقة وبعد كلِّ حقيقة.
ثمَّ أقول لكم إن الغرب لعاجز عن خلق مثل ذلك الهدف، بل عن خلق أيِّ هدف للإنسان يقوى على الزمان وتقلُّباته. ذاك لأن الغرب سائر على ضوء بصره؛ والبصر لا يثبت على حال، لأن الأشياء التي يتناولها لا تثبت على حال. ولكن للغرب رسالته مثلما للشرق رسالته.
إنْ تكن رسالة الشرق البصير خَلْقَ الأهداف فرسالة الغرب المبصر هي تعبيد الطريق إليها.
تقولون: وكيف للغرب الذي لا يبصر هدف الشرق ولا يؤمن به أن يعبِّد الطريق إليه؟ وجوابي هو أنه فاعل ذلك في كلِّ ما يفعل، ولكن من حيث لا يدري ولا يقصد. وههنا الأحجية.
لقد حصر الغرب همَّه في درس هذا العالم المحسوس والسُّنن التي يتمشَّى عليها، ثمَّ راح يطبِّق ما اكتشفه من تلك السنن على حياته اليومية. فكانت علومُه وكانت فنونُه؛ وكان منها ذلك السيل من المخترعات والمكتشفات الذي لا يزال في أوْجِه، والذي، إذا ما بلغ يومًا حدَّه، فسيعود حتمًا بالإنسان من المحسوس إلى غير المحسوس – أي من البصر إلى البصيرة، من المحدود إلى غير المحدود، من البدايات إلى اللابداية، ومن النهايات إلى اللانهاية. وذاك هدف الشرق بعينه.
أما ترون إلى العلم، الذي هو دعامة المدنية الغربية والذي يدَّعي ويجاهر أن لا شغل له إلا بالمحسوسات، كيف أنه يبتدئ بغير المحسوس لينتقل منه إلى المحسوس؟
فالنقطة، التي هي لاشيء، تصبح مقياسًا لسائر الأبعاد وأساسًا للهندسة العملية. والواحد، الذي ليس سوى خيال بحت، يصبح الأول والآخر في جميع المعادلات الرياضية؛ والمعادلات الرياضية التي تقوم عليها فصيلة العلوم الطبيعية تنقلب ناطحات سحاب وجسورًا وبواخر وطائرات ومولدات للكهرباء؛ والكهرباء التي ما كنَّا نلمحُها إلا كبرق في الفضاء تُسيَّل نورًا وطاقة في أسلاك من النحاس، أو تُسيَّر أمواجًا في الأثير تنقل أصوات الناس إلى الناس وأخبار الناس إلى الناس، من أقاصي المشارق حتى أقاصي المغارب.
فلا نكران، إذن، أن للعلم الحديث، كما رتَّبه ونسَّقه وروَّجهُ الغرب، فضلاً عميقًا على الشرق والغرب معًا. فهو، من حيث لا يقصد، دائب في نقل ما لا يُحَسُّ إلى حيِّز المحسوس، أو ما كان ضمن دائرة البصيرة إلى دائرة البصر. ولأن معظم الناس – خاصَّتهم وعامَّتهم – لا يؤمنون بالكهرباء إلا أن يبصروها نورًا في بيوتهم، ولا بالشيء إلا أن يلبسوه ثوبًا على أجسادهم أو يمضغوه تفاحة بأضراسهم، لذلك كان للعلم الحديث هذا الأثر البالغ في عقولهم وحياتهم وكانت للغرب هذه المنزلة في ضمير الشرق.
ثمَّ لا نكران أن الغرب قد سهَّل على الإنسان أمر المعيشة بفضل ما استنبط من حيل ميكانيكية، وما توصَّل إليه من خيرات كانت دفينة في الماء والتراب. وإذا ما أعوزتْه اليوم الحكمةُ لخلق نُظُمٍ لا تحرم البعض وتبلو البعض بالتخم فالحاجة التي لا ترحم ستعلِّمه في الغد ما ليس يعلمه اليوم، وستساعده على خلق عالم لا يُنفُق جلَّ حياته في السعي وراء ما يُلهي بطنَه ويستر عريه ويحمي جسده من نقمة العناصر. ومتى انعتق الناس من كابوس القوت والكساء والمأوى أصبح في إمكانهم الانصراف إلى تسكيت جوع غير جوع البطن، وتستير عُرْيٍ غير عري الجسد، والتفتيش عن مأوى يحميهم من نقمة أنفسهم التي لن ترضى بمأوى غير حضن الله.
وثمة مِنَّة ثالثة للغرب لا بدَّ من ذكرها، وهي أن هذا السيَّار، الذي يعلم الله كم دار بنا وكم سيدور في فيافي الفضاء، كان، إلى عهد قريب، عالَمًا مترامي الأطراف، كثير المجاهل، وعر المسالك، عديد الألسن، وفير الصبغات، متضارب النزعات. أما اليوم فقد أصبح، بفضل الغرب ومخترعاته، كرة تكاد تحتويها قبضة الطفل. فالطيارة قد مَحَت الأبعاد والمجاهل والحدود والحواجز.
وهذه الآلة العجيبة التي أخاطبكم بواسطتها الآن قد وصلتْ كلَّ لسان، أينما كان، بكلِّ أذن، أينما كانت. وعلاوة على ذلك فالمدنية الغربية قد أحدثت حاجات كثيرة وخلقت أزياء كثيرة يشترك فيها ابن الشمال مع ابن الجنوب، وابن الغرب مع ابن الشرق؛ حتى إن سائحًا ليكاد يسيح اليوم حول الأرض في أقل من أسبوع من غير أن يحتاج إلى دليل أو ترجمان. وقد كان لا ينتقل من قرية إلى قرية، حتى في القطر الواحد، إلا بمضِّ الفكر والقلب والعصب.
هكذا نرى الغرب، بعلومه وفنونه، ومخترعاته ومكتشفاته، وحتى بحروبه، يصل الأرض بعضها ببعض؛ ومن حيث لا يدري، يمهِّد السبيل لضمِّ الإنسانية المبعثرةِ الشمل أسرةً واحدة يجمعها بيتٌ واحد وتقودها إرادةٌ واحدة إلى غاية واحدة. وذاك ما نادى به الشرق من زمان. أما قال: "أحببْ قريبك كنفسك؟" أما قال: "عامِلْهُ بمثل ما تريد منه أن يعاملك؟" أما قال: "إن الناس كلَّهم عيال الله؟"
وعندما تبلغ علومُ الغرب المادية أقصى مداها، عندما تفلق الذرة أو ترتدُّ عاجزة عن فَلْقِها، ستراها وجهًا لوجه مع ما يجعل المادةَ مادةً وليس بمادة – مع القدرة التي أسماها الشرقُ الله ورفعها هدفًا للإنسان المخلوق على صورتها ومثالها. وبكلمة أخرى، سينتهي الغرب من المحسوس إلى غير المحسوس. وبذاك تنتهي مهمَّتُه في هذه الدورة من حياة الإنسانية، وتبتدئ من جديد مهمَّةُ الشرق.
ومهمة الشرق إذ ذاك، وقد مهَّد الغربُ له الطريقَ إلى الهدف، هي جَلْوُ ذلك الهدف كيما يظهر في كلِّ بهائه، نقيًّا من السفاسف والترَّهات التي حَجَبَ الجهلُ بها سناءَ وجهه باسم الله والدين، وما هي من الدين والله لا بخمرٍ ولا بخلٍّ؛ ثم لمُّ شعث الإنسانية التائهة ما بين بصرها وبصيرتها، وبثُّ النشاط في مفاصلها المفككة، وبعثُ الإيمان الدفين في قلبها بجمال ذلك الهدف وحكمته وعدله؛ ثمَّ السير بهذه الإنسانية المتجددة نحو هدفها بخطى لا تردُّد فيها، وعزم لا التواء فيه، وإرادة تعرف ما تريد، ولا تريد غير ما تعرف، فلا يقهرها شك، ولا يثنيها عياء.
: غربٌ حاكم وشرقٌ محكوم من الأوهام المسيطرة على عقول الناس – وما أكثرها! – وَهْمُهم أن في مستطاع إنسان أن يحكم إنسانًا من غير أن يكون محكومًا منه. والواقع أنه ما قامت علاقةٌ بين مخلوق ومخلوق إلا كان فيها شركةٌ للاثنين، وكانت حصةُ الواحد معادلةً لحصة الآخر.
فأنتم ما اغتذيتم بلحم الأرض ودمها إلا غذَّيتموها بلحومكم ودمائكم. ولا استخدمتم بهيمة إلا كنتم خُدَّامها. ولا ملكتم شيئًا إلا مَلَكَكُم. ولا حكمتم إنسانًا إلا حَكَمَكُم.
هل عرفتم ربَّ أسرة ما تحكَّمَ فيه كلُّ فرد من أفراد عائلته، حتى الذي ما برح مقمَّطًا في المهد؟ أو هل سمعتم بقائد قاد جيشًا وما قاده جيشُه؟ أو هل قرأتم من كتاب إلا على قدر ما قرأ ذلك الكتاب منكم؟
لا يستطيع حاكمٌ أكثر مما في استطاعة محكومه؛ فقدرة المحكوم هي قدرة الحاكم. وإذ ذاك فما معنى هذه الهالة من الجلال والعظمة والسؤدد والسعادة التي تنسجها أوهامُ الناس حول هامات حكامهم، ولا تجد غير الذلِّ والحقارة والصغارة والطاعة العمياء ونكران الكرامة تنسج منها أقنعةً لأبصار محكوميهم؟
إن يكن في الحكم جلالٌ فهو جلال المحكوم قبل أن يكون جلال الحاكم، أو تكن فيه صغارة فهي صغارة الحاكم والمحكوم بالسواء.
وما علاقة الحاكم بالمحكوم سوى علاقة طارئة تفرضها أحوالٌ طارئة من عالَم خفيٍّ ما توصَّل الإنسانُ بعدُ إلى الوقوف على أسراره والسيطرة على منابعها ومجاريها. فحاكم الأمس يصبح محكوم اليوم، ومحكوم اليوم يغدو حاكم الغد؛ لا كسبًا لشرف، أو امتهانًا لكرامة، بل امتثالاً لمشيئة البشرية الخفية في سيرها نحو المثل الأعلى، وتحقيقًا لرغباتٍ في نفسها لا تزال أبعد من متناول مداركها وأعمق من نفوذ وعيها.
والسرُّ في عدم ثبات الحكم البشري وسرعة تنقُّله من يد إلى يد، ومن فئة إلى فئة، ومن شعب إلى شعب، إنما هو في النفس البشرية، وما في زواياها الغريبة من خبايا عجيبة.
إنه لمن الصعب أن تسوق قطيعًا من الغنم بعصًا واحدة. فلا بدَّ ولو من كبش واحد يتمرد على عصا الراعي وصوته. فكيف بقطيع من البشر تسوقه بعصًا واحدة – وإلى الأبد؟
أما كان فرعون سيِّد مصر المطلق يوم جاءتْه ابنتُه بلقيط حظيتْ به على ضفة النيل فربَّاه في قصره؟ وذلك اللقيط جرَّ فرعون ومركباته فيما بعد إلى مدفن من الأوحال في قعر البحر الأحمر؟ فأيُّ الاثنين كان حاكم الآخر؟ أفرعون كان حاكم موسى، أم موسى كان حاكم فرعون؟ ومن أين كان لفرعون أن يعرف القوى المدفونة في نفس موسى والغاية التي نَدَبَتْهُ لها المشيئةُ الكلِّية؟
أما كانت رومة الحاكمة المطلقة في الجليل واليهودية يوم ولد ابن مريم ويوم راح يبشر بملكوت الله! وها هي ذي بشارة ابن مريم لا تزال ماشية من فمٍ إلى فم، ومن قلب إلى قلب. فأين رومة وجحافل رومة؟ أكانت رومة حاكمة الجليل أم كان الجليل حاكم رومة؟ ومن أين كان لرومة أن تتكهَّن بما ستنفتح عنه شفتا الطفل المولود في مِذْوَدٍ للبهائم في بيت لحم؟
أما كانت قريش سيدةً لا يناهضُها مناهضٌ في مكَّة يوم قام يتيمٌ لا سلطان في يده يدعو الناس إلى الإله الأوحد؟ وأين اليوم سلطان الذين اضطهدوه وقاتلوه من سلطانه؟ أكانوا هم حكامه أم كان هو حاكمهم؟ ولو دَرَتْ قريش يومذاك بما انطوى عليه قلب ذاك اليتيم من قوى وأسرار لخرَّتْ أمامه صاغرةً بدلاً من أن تتصدَّى له بسوء.
والآن ماذا عساكم تقولون فيمن يقول لكم إن مشكلة الحكم ما بين الشرق والغرب ليست بالمشكلة التي تتوهمون. فالغرب لا يحكم اليوم الشرقَ أكثر مما يحكم الشرقُ الغربَ. لكنما المؤسف والموجع في هذا الحكم ألا يكون فيه ما يشرِّف أو يمجِّد الاثنين. فهو لا يقوم على مودَّة وأخوَّة ومحبة حَرِيَّة بأن تربط التوأمين، بل على منافع موهومة تذروها الأيام والليالي، فإذا بها حسكٌ ولا حَب، وإذا بها ألعوبة للرياح.
ومن ثَمَّ فأيُّ حكم دام، وأيُّ حاكم تمكَّن يومًا من سبر أعماق محكوميه والوصول إلى كلِّ ما في أغوارها من قوى هاجعة تتململ للوثوب؟ وإن هو لم يتمكَّن من ذلك فبماذا وكيف يصون حكمه؟ ومن يدري بماذا حَبِلَ هذا الشرق في غضون هجعته الطويلة، وبماذا يتمخَّض اليوم؟
إنه لا شك يتمخَّض بأمور أعجب وأعظم بكثير من التي يحلم بها أبناؤه ويحسبونها من خطر الشأن في أعلى مكان. فهم يحلمون – في جملة ما يحلمون – بعنقاء يدعونها الاستقلال، ويتوهمون أنهم، إذا ما ظفروا بها يومًا، ظفروا بالغبطة التي ما بعدها غبطة.
ألا ليت الاستقلال كان ما يتوهمون! ألا ليتهُ ما كان أكثر من استبدال حكم بحكم، ووجه بوجه، ولسان بلسان.
ألا ليته كان يُنال – كما يزعمون – ببذل الفلس والدم؛ إذن لما كان أغلاه نعمةً يبتاعها الناس بمثل ذلك الثمن الزهيد.
لكن الاستقلال غير ما يزعمون. فما استقلَّ إنسانٌ وفي قلبه من الضغائن بثورٌ ودماملُ، وفي فكره من المخاوف ديجورٌ فوق ديجور؛ ولا استقلَّ من كان الفلسُ في جيبه سيِّدَه وأميرَه؛ ولا من كان مقودُه في يدٍ غير يده.
وأيُّ أبناء هذا الزمان، أيُّ شعوبه، أيُّ أمصاره، يستطيع القول بأن مقوده في يده؟ ألعلَّ لا حاكم للإنسان إلا الإنسان؟ إذن أين أنتم من الموت؟ أو من الطبيعة التي، إذا ما فتحتْ كفَّها فوق حاجاتكم، أغرقتْكم، أو أمسكتْها دون حاجاتكم، خنقتْكم؟ بل أين أنتم من الذبابة والبعوضة والجراثيم التي لا تبصرونها، تقضُّ عليكم مضاجعكم وتعتِّم حتى النور في أبصاركم؟
إن تكن تلك حالُكم مع أنفسكم ومع غير الناس فكيف بحالكم مع الناس؟ من منكم ليس محكومًا من نسيب أو حبيب، أو صديق أو عدوٍّ، قبل أن يكون محكومًا من رئيس دولة وقاضٍ وشرطيٍّ؟
ما من مناصٍ للإنسان من الإنسان وحكم الإنسان. وكذلك الشعوب – ما تجانس منها وما تخالف، وما تصادق منها وما تعادى – لا مناص لأيٍّ منها من أن يكون حاكمًا ومحكومًا في آن واحد. ومن خُيِّل إليه العكس، ومن توهَّم أن في مستطاع قبيلةٍ أن تسود إلى الأبد من غير أن تكون مَسُودةً، كان في حاجة لا إلى الاستقلال، بل إلى طبيب عقول وطبيب أبصار – لأنه ما فَقِهَ من عِبَرِ التاريخ أبسطَها وأقربَها إلى العقل والبصر: وهي أن دولاب الزمان ما ينفكُّ يدور، وأن البشرية العالقة به لا بدَّ من أن يعلو بعضُها هنا وينخفض هناك؛ ثم لا يلبث المنخفضُ أن يعلو والعالي أن ينخفض. فصَبْغُكم الدولابَ بالدم البشري لن يسرِّع في دورانه لحظة ولن يبطئ لحظة.
وبعد ذلك فالدم البشري دمٌ زكيٌّ طاهر؛ فهو الإناء الحامل جرثومة الحياة المباركة والفهم المقدس. ومن الحرام أن يُهراق إلا في سبيل الحياة والفهم؛ بل من الإثم أن يُهدَر بغير حساب، على حدِّ ما يُهدَر اليوم ترضيةً لأهواء يثيرُها الجهلُ ويسوقُها الموتُ. ولا بدَّ لهذه الإنسانية المفصودة بمفاصد البغض والجشع من صوت يهيب بها إلى حقن دمائها الزكية والاحتفاظ بما تبقَّى منها لغايات أنبل وأسمى من استبدال حكام بحكام، وتخوم بتخوم، وأوبئة بأوبئة.
إن هذا الصوت سيخرج من الشرق – من هذا الشرق الذاهل اليوم عن نفسه وما في أعاليها من قمم باسقة وفي أعماقها من أبعاد، وعن رسالته العلوية وما في رسالته من بلسم لجراح الإنسانية الدامية ومن نور لأبصارها القَرِحَة وبصيرتها الكفيفة.
إي، ثمَّ إي، من هذا الشرق ستندفع أمواجُ ذلك الصوت إلى أن تغمر الأرض؛ من هذا الشرق المنكوب بأبنائه أشدَّ من نكبته بغير أبنائه. فهم يتطلَّبون له أمجادًا غير مجده؛ والأمجاد التي يتطلَّبونها هي التي جعلتْ من الأرض مسلخًا، ومن الإنسان قصَّابًا لأخيه الإنسان، ومن حياة الناس مجزرة هائلة ومقبرة شاسعة. هي دفعات من السموم التي أفسدتْ على الناس دماءهم ولحومهم، ونخرتْ عظامهم، فصرفتْهم عن نفوسهم وعن ربِّهم.
أما مجد الشرق الحقيقي فسيكون في أنه لن يطلب مجدًا على الإطلاق، بل يقول، مع الناصري: "من أراد منكم أن يكون سيدًا فليكنْ للكلِّ خادمًا." أجل. سيكون الشرق خادم العالم؛ وسيخدم الإنسان، أينما كان، لا بتحريره من حكم جاره، بل بتحريره من حكم نفسه. فما ساد مَن كان عبدًا لنفسه – وإن حكم الشرق والغرب؛ ولا ذلَّ من ساد نفسه – وإن كان محكومًا من الناس أجمعين.
ولو قال لي قائل إن الشرق سيفعل غير ذلك، أو أقلَّ من ذلك، وإنه لن يتمخَّض من بعد هجعته الطويلة بأكثر من حكومات جديدة وتخوم جديدة، لأنكرتُ هذا الشرق ولصرختُ من أعماق قلبي: "ألا ليته ما حَبِلَ ولا تمخَّض!"
غير أني واثق بأن المولود العتيد أن يأتي به الشرق سيكون أعظم من كلِّ ذلك بما لا يُقاس. فالشرق أخصب فكرًا، وأسمى خيالاً، وأسمح قلبًا، من أخلص المخلصين من زعمائه – فكيف بغير المخلصين؟ والشرق أصلب عودًا، وأبعد جذورًا في تربة الوجود، من أن تلويه سياسةٌ أو يقتلعه إعصار.
وإن تسألوني عن ثقتي بهذا الشرق من أين منبعها أجبكم: من الحكمة التي فاضت على لسانه من زمان، والتي يبلى الزمان وجِدَّتُها لا تبلى، وتبور كلُّ سلطة وسلطتُها لا تبور. وهذه الحكمة لن يجلوَها من جديد إلا الشرق، ولن يُحسِنَ الحكمَ بها إلا الذي خلقها من نفسه، ثم حكَّمها في نفسه. فلها ستكون السيادة في العالم المزمع أن يولد، وعلى حَدْوِها ستمشي قوافلُه جيلاً بعد جيل.
: غربٌ يغرب وشرقٌ يشرق كانت الحرب الماضية خاتمة لعهد وفاتحة لعهد من حياة البشرية على سطح هذي الأرض. فبدخولها دخل الغربُ دور التصفية، فأخذتْ أمواجُه في الانكفاء، ودخل الشرق دور التعبئة، فأخذتْ أمواجُه في الامتداد.
وما الحرب التي ننوء بكابوسها اليوم غير مرحلة من مراحل هاتيك التصفية وتلك التعبئة. ومَن ظنَّها الأخيرة كان على ضلال مبين. فحياة البشرية، ما كرَّ منها وما برح ملفوفًا على بكرة الزمان، أطول من أن تُقاسَ بحركات عقرب في ساعة؛ وأدوارها لا تتعاقب بسرعة الليل والنهار. فالفجر الذي يفصل دورًا عن دور قد يطوي من الأجيال أكثر من واحد أو اثنين.
وها نحن في طليعة فجر يُنذِر بانتهاء دور ويبشر بابتداء آخر. أمَّا كَمْ يطول هذا الفجر، ومتى ينجلي عن صباح جديد ونهار جديد – أفي هذا الجيل أم في الآتي؟ – فجوابُ ذلك ليس عندي، بل عند مَن "ألْفُ سنة في عينيه كيوم أمس العابر، وكهجعة من الليل".
وسواء أطال ذلك الفجر أم قَصُرَ فالأمر الذي لا شكَّ فيه هو أن ما تشهدونه اليوم من غليان في العالم وفوران، وما تسمعونه من فحيح وجلبة، ليس سوى حشرجة مدنية تُحتضَر، ووَعْوَعَة مدنية تقتبلُها الأقدارُ من رحم الأيام التي ما تنفك حُبلى وما تنفك تولِّد.
إنَّ ما وقع للشرق في سالف الزمان لشبيهٌ كلَّ الشبه بما هو واقع للغرب في هذا الزمان. فمثلما امتدت مدنية الشرق – وأساسُها الدين – إلى أن غمرت المعمورةَ بأسرها، كذلك امتدتْ مدنيةُ الغرب – وأساسُها العلم – إلى أن طَغَتْ على كلِّ أمة وبقعة من أمم الأرض وبقاعها. وحالُ دين الأنبياء والأصفياء، من بعد أن انحدر إلى الدهماء والغوغاء، وقد احتجبتْ أنوارُه في دياميس من الخرافات والترَّهات، وتكسَّرت أمواجُه على سدود من التعصُّب الكافر، مثل حال عِلْم العلماء، وقد تناولتْه ألسنُ الجهلاء وأيدي المستثمرين والنفعيين، فأصبح منجنيقًا لهدم كلِّ عِلم عداه، ومهمازًا لكل هوًى طائش وشهوةٍ جموح، وبوقًا للتبجُّح في فم كلِّ زعنفة ما أهَّلتْه الحقيقةُ أن يرى وجهها سافرًا.
إن في الكون الذي نحن بعضٌ منه أسرارًا لا يزال العقلُ بعيدًا جدًّا عن الوصول إلى كنهها – وفي جملة تلك الأسرار سرُّ التوازن؛ ولعلَّه من الكون بمثابة حجر الزاوية من البناء. فالمسكونة، بكلِّ ما فيها – ما ظَهَرَ منها وما استتر – في توازن أبديٍّ. وحيثما طرأ أقلُّ اختلال في توازن أقلِّ عضو من أعضائها أصلحتْه في الحال. أما الوسائل التي تلجأ إليها لتقويم الخلل في توازنها فأكثر من أن يحصيها عدٌّ، وأبعد حكمة من أن يدركها عقلٌ.
ما زلزلت الأرضُ زلزالها، ولا كان كسوفٌ أو خسوف، ولا تطايرت الشهبُ في الفضاء، ولا هبَّت عاصفةٌ، أو انهمر سيلٌ، ولا كان بحرٌ بمدِّه وجزره، ولا يابسة بجبالها وأوديتها، إلا لحفظ التوازن الكوني من خلل طارئ. كذلك هي الحال في عالم الإنسان. فلولا خلل يطرأ على توازن كلٍّ منَّا بمفرده لَما عرفنا المرضَ ولا الوجع ولا الموت ولا المصائب بأنواعها.
ولولا خلل يطرأ على توازن الأمة لما عرفت القلاقلَ والثورات والمجاعات والتعسف والظلم والانحلال.
ولولا خلل يطرأ على توازن الإنسانية بأسرها لما كانت الحروب والأوبئة، والاضطهادات والتقلبات في أنواع الحكم ووجهة النظر.
ولكن حذارِ أن يتبادر إلى ذهن أحدٍ منكم أنني أبارك الموت والوجع والثورات والأوبئة والحروب لأنها بعضٌ من الأساليب التي تلجأ إليها الحكمة الأولية لحفظ التوازن في عالم الإنسان. أجل، إنها لدليل على وجود تلك الحكمة؛ ولكنها، في آنٍ، دليل على جهل الإنسان لسرِّ التوازن والحكمة التي أوجدتْه. فلا سبيل للإنسان، إذا ما شاء الانعتاق منها، إلا الانصراف بكلِّ قواه الجسدية والروحية إلى تفهُّم ذلك السر والوقوف على تلك المشيئة التي جعلتْ منه حجرَ الزاوية في بنيان الكون وبنيان حياة الإنسان.
أما قصدي من الكلام عن هذه الأمور فليس أكثر من أن أمهِّد تمهيدًا سريعًا للفكرة التي هي نواة حديثي، والتي تدور حول اختلال التوازن ما بين الشرق والغرب، وهما توأما البشرية، بل ساعداها، بل الكفَّتان في ميزانها. وهذا الاختلال في التوازن قد بدأ يقلب مدَّ الغرب إلى جزر، وجزرَ الشرق إلى مدٍّ؛ وطلائع هذا الانقلاب ليست بخافية عن كلِّ ذي بصيرة.
لمَّا حَمَلَ الشرق مشعل الدين إلى العالم حَصَرَ جُلَّ همِّه في قلب الإنسان وما انطوى عليه من الأشواق المُحرِقة لمعرفة مَن هو، ومن أين، وإلى أين، ولماذا. أما عقله فقلَّما أعاره اهتمامًا. والعقل هو الدرجة الأولى في سُلَّم المعرفة. فكأن الشرق حاول أن يبلغ بالإنسان أعلى درجة من سُلَّم المعرفة من غير أن يطأ الأولى.
لئن كان ذلك في مستطاع الأنبياء والرسل والأولياء فما هو في مستطاع الذين لا يبصرون من العالم ما كان أبعد من أنوفهم، والذين لا يؤمنون إلا بما يُبصرون، وهم سواد الناس.
لذلك نام العقل، ولكن على مضض. فما إن دار الزمان دورته، وفترت الحماسة الدينية، حتى أحسَّتْ البشرية خللاً في التوازن بين قلبها وعقلها. فتنبَّه العقلُ وراح يطالب بقسطه من حياة الإنسان. وحمل الغرب راية العقل، وأجلسه على عرش من الوقار، وانبرى يناضل باسمه. ومن هذا النضال انبثقتْ المدنيةُ التي عشنا – وما نزال عائشين – في كنفها طوال هذه الأجيال.
غير أن هذه المدنية، لشدة مغالاتها في الأمانة للعقل واندفاعها في خدمته، قد أهملت القلب البشري وحنينَه الأبديَّ إلى ما وراء المعقول والمحسوس. فهي قد صرفتْه، أو حاولتْ صرفه، عن الدين، ولكن من غير أن تعطيه جوابًا أفضل من جواب الدين على أسئلته الملحَّة: من أنا؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فما إن بلغت أقصى مداها حتى عادت البشرية فأحسَّتْ من جديد خللاً فظيعًا في التوازن بين عقلها وقلبها. وعادت الحكمة التي لا تُحَدُّ تُصلِح ذلك الخلل بشتى الوسائل، من ظاهرة وخفية – ومنها هذه الحرب التي يكاد الناس يغرقون في غمارها ويختنقون بدخانها.
وكأني، كلَّما أنصتُّ في هذه الأيام إلى قلب الإنسانية الدامي، سمعتُه يخاطب عقلها فيقول:
"ألا بوركتَ يا أخاه. فلقد جئتَ حقًّا بالمعجزات. لقد خرقتَ حرمة الأعالي. وفضضتَ بكارة الأعماق. وحشرتَ أجرام السماء في عدسية مرقبك. وفضحتَ أسرار الجراثيم بعين مُجهِرك. واتخذتَ من البرق رسولاً لأفكارك. وجعلتَه قنديلاً في دارك.
"ولقد أرحتَ الثورَ من نيره، والجوادَ من مركبته، والحرَّاث من محراثه، والحطَّاب من فأسه، والحدَّاد من كوره ومطرقته وسندانه.
"ولقد دخلتَ بسحرك جوف الأرض فقرأتَ تاريخها في ما سطَّرتْه الدهورُ على صخورها وطبقاتها. ثم أكرهتَها على التخلِّي عن الكثير من دفائن كنوزها.
"ولقد خلَقْتَ المطبعة، واتخذتَ من دواليبها رُسُلاً تذيع سحرك في الناس وتجعله حلالاً لكلِّ راغب وطالب، دون ما تمييز بين خاصَّة وعامة.
"ولقد بنيتَ للناس معاهدَ يستظهرون فيها علومَك، وينعمون بفنونك، ويتذوَّقون سحرك، ويحرقون لك البخور، ويسبحونك ويمجِّدونك.
"ولقد شيَّدتَ للناس بيوتًا يداوون فيها أوجاع أبدانهم وعقولهم. فإنْ نجع الدواء كان الفضل لك. وإنْ لم ينجع كان اللوم على الأبدان والأقدار، لا عليك.
"أجل. لقد فعلتَ كلَّ ذلك من أجل الناس، وفعلتَ أكثر من ذلك يا أخاه. ولكنك بعتَ نفسَك والناس من مخلوق عجيب، خلقتَه ليكون خادمك وخادمهم، فإذا به يصبح سيِّدك وسيدهم من غير مُنازع. فوا عجبًا لمخلوق فاق خالقه، ولعبد ساد سيده! أما اسم ذلك المخلوق فالدرهم.
"فبالدرهم تُباع رحمتُك للموجوع – ويا ليتها كانت رحمة؛ ومعرفتُك للجاهل – ويا ليتها كانت معرفة؛ وخبزُك للجائع، وعطفُك لليتيم، وقِراك لابن السبيل، ودفؤك للمقرور، وثوبُك للعريان، وحريتُك للرقيق، وعدلُك للمظلوم، وسَلْواك للمفجوع. ودرهمُك لا يُنال إلا ببذل ماء الوجه، وسفح دم القلب، وإنفاق الدماغ، وإرهاق العضل، وتخدير الضمير، وحرق فتيلة العمر، بلا شفقة ولا حساب.
"وهكذا أصبحتَ يا أخي ألعوبة في يد مخلوقك العجيب. وأصبح مَن والاه مخلوقُك سيِّدَ الناس، وإن يكن أشدَّهم فتكًا بالناس؛ وأصبح مَن جافاه مخلوقُك عبدًا للناس، وإن يكن أشدَّهم غيرة على خير الناس وأعرفهم بالسبل المؤدية إلى سعادتهم. ورحتَ تأتمر بأمر الدرهم. فإن قال لك: اخترع لي ما أُلهي به الجائع عن جوعه، والعبد عن حرِّيته، وما أسلِّي به أخا الضجر والبطر، وما أخدع به طالب الجمال والكمال – اخترعتَ له في الحال من الملاهي ما يلهي حتى الحمار عن علفه، ومن الملذات ما يخدِّر الوجدان؛ وخلقتَ لطالب الجمال والكمال تمائم دَعَوْتَها الفنون، ولطالب المعرفة تعاويذ أسميتَها سُنَّة النشوء وتنازع البقاء وبقاء الأنسب؛ وخلقتَ لناشد الحرية والاستقلال تعاويذ سواها دعوتَها الوطنية، والقومية، والجنسيَّة، وشرف المحتد واللسان، وعلَّقتَها كلَّها بحواشي خرقة ذات ألوان، وقلت للناس: ها هو رمز حريتكم واستقلالكم؛ فافدوه بدمائكم – فآمن الناسُ بما قلتَ وبما فعلتَ، وراحوا بدمائهم يَشرَقون.
"وأما أنا – أنا القلب الذي ما انفكَّ ينبض منذ كان الزمان وكان الإنسان – فأسألك: مَن أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فلا تسمع ولا تجيب. وأشكو إليك أوجاعًا تتأكَّلني، من غضب وبغض وحقد وحسد وطمع وفجور وقلق وذعر وشكٍّ وحيرة، فلا تتعطَّف عليَّ بدواء سوى التمليق والتخدير.
"وأُسِرُّ إليك أشواقًا تساورُني في هدأة الليل وضوضاء النهار إلى حياة لا محاباة في عدلها، ولا مواربة في صداقتها، ولا مخاتلة في إخائها، ولا شناعة في جمالها، ولا باطل في حقِّها، ولا خوف في قلبها، ولا موت في مفاصلها؛ إلى كيان لا يبتدئ هنا وينتهي هناك، بل تضيع في جوانبه البداياتُ والنهايات، وتغور في أعماقه الفواصلُ والمتناقضات، وتتلاقى في فضائه سائرُ الكائنات. فلا نزاع ولا صراع، بل فَهمٌ يترفَّع عن النزال، ومحبة لا تتدنَّس بالقتال.
"أُسِرُّ إليك أشواقي، فتسخر بها وتدعوها أضغاث أحلام – وأنا أعْرَف منك بها وبمصادرها. وإنِّي لعلى يقين من أنني ما اشتقت شيئًا إلا كان له في كياني كيان. فلو أنه كان عدمًا لاستحال عليَّ أن أشعر به وأن أشتاقه. ففي جوعي الدليل على وجود الغذاء، وفي عطشي الدليل على وجود الريِّ. ولكن مسالكي قد استعصتْ على علمك وسحرك. فما نالني من طعامك غير الجوع، ومن ريِّك غير العطش، ومن نارك إلا البرد، ومن نورك إلا الظلمة.
"لقد تسلَّمْتَ يا أخي قيادة الناس زمانًا ليس باليسير، فأحسنتَ وأسأتَ؛ لكنك أسأتَ أكثر مما أحسنتَ. وها هي ذي البشرية لا تنهض من حفرة إلا لتقع في أخرى، ولا يلتئم لها جرح حتى ينفتح في جسمها ألفُ جرح. وإني لأسمعُها في خلواتها وصلواتها تستغيث بي. فتنحَّ وناولْني الأعِنَّة!"
بمثل هذا الكلام أسمع قلب الإنسان المفجوع بآماله يخاطب عقله المغرور بأوهامه. ولا عجب. فالتوازن بين الاثنين قد اختلَّ إلى درجة لا تطاق؛ فلا بدَّ من تعديله وتصحيحه.
وإني لأبصر أعنَّة البشرية التائهة ما بين سمعها وبصرها تنتقل من يد الغرب – وهو توأمها الماشي على ضوء البصر – إلى يد الشرق – وهو توأمها السائر على هدى البصيرة. وإني لأرى هذا الشرق يعبِّئ قواه منذ الآن للقيام بمهام القيادة الملقاة إليه.
والذي يعبِّئه الشرق لن يكون – بإذن الله – جيوشًا برية تحمل النقمة والثأر، ولا عمارات بحرية تزرع الويل والدمار، ولا أساطيل جوية تُمطِرُ الناس كبريتًا ونارًا؛ بل سيكون بلسمًا لجراح الإنسانية الدامية، ودعامة لِما تصدَّع من إيمانها بالعدل والأخوَّة، وطعامًا وريًّا لِما جاع وعطش فيها إلى السلام الذي لا ينام على الأسنَّة والشفار، والحرية التي تأبَى فوهة المدفع مسكنًا لها، والحقَّ الذي يُغيث ولا يستغيث.
وإذ ذاك فما على الشرق إلا أن يدير وجه البشرية شطر الهدف الذي أدارت له قذالها من زمان. فهدف الشرق ما برح وضَّاح الجبين والسُّلَّم الأوحد الواصل ما بين الأرض والسماء. والمنارات القائمة على جانبي الطريق المؤدي إليه ما تزال تشعُّ القوة والإيمان لكلِّ قلب جسور ينشد الحقَّ الأبدي، ولكلِّ روح مقدام يحنُّ إلى مواطنه الفردوسية، بما فيها من حياة لا تبلى، ونور لا يخبو، وحرية لا يطوِّقها زمان ولا يحصرها مكان. ................
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
أنتم في عالم مُرهَفِ الظفر والناب، متوتِّر الحسِّ والأعصاب، واسع البطن، ضامر الصدر، حسير البصيرة والبصر، أزغب الفكر والخيال. هو عالم الإنسان المتهالك على الأوشال، وفي قبضته البحار؛ وعلى فِتْر من التراب، وله الأرض بقطبيها؛ وعلى بصيص من النور، والشمس والقمر والنجوم في ناظريه؛ وعلى نسمة من الهواء، وأنفاس الفضاء الأوسع تمرح في حنايا ضلوعه. وأنتم من هذا العالم في بقعة صغيرة جرَفتْ إليها الأيَّامُ منذ القِدَم – وما تزال تجرف – كلَّ ما اسودَّ من رغبات القلب البشري وما ابيضَّ، وكلَّ ما دبَّ على الأرض من أفكار الناس وحلَّق في الجوِّ من أشواقهم. فكم غازٍ غزاها فتملَّكتْه وما تملَّكها. وكم فاتح جاءها فطوتْه من قبل أن يحظى بمفتاحها. وكم من نبيٍّ شعَّ نورُه من جبينها، ورسول أذاع الحقَّ بلسانها. فكأنَّ القدرة التي جعلتْها من الأرض قلبَها، ومن السماء قارورةَ طيبها، ما كوَّنتْها كذلك إلاَّ لتكون فتنةً للغزاة والفاتحين، لعلَّ أرواحَهم تتضمَّخ بطيب روحها، وقلوبَهم تتجمَّل بجمال قلبها؛ ولعلَّهم إذ ذاك يدركون أن السيف مفتاح الجحيم، وليس مفتاح الجنَّة، وأن المدفع نذير الفناء، لا بوق البقاء، وأن خيرات التراب لكلِّ أبناء التراب: مَنْ طَمِعَ منها بأكثر مِنْ نصيبه خَسِرَ نصيبَه، ومَن أباحها لنفسه وحرَّمها على سواه حرمتْه الحياةُ أشياء كثيرة أباحتْها لسواه.
هي بقعة قلَّ ذهبُها وكثرتْ مذاهبُها – هذه البقعة التي تدعونها بلادكم.
وهناك أشباه العقلاء، وما هم بالعقلاء، الذين يتمنون لو تُعكَس الحال، فتفيض هذه الأرض فضةً وذهبًا، لا لبنًا وعسلاً، وتغيض ينابيعُ إلهامها، فتذوي مذاهبُها وتمسي هشيمًا يَعافُه الحيوانُ والإنسانُ وتحتمي به الفئرانُ والديدان.
فهم يقولون إن المال سؤددٌ وسلطان، وقلَّة المال شقاءٌ وخذلان – وهم لا يعرفون من الغنى غير الغنى بالفلس والدينار، ولا من الفقر إلاَّ الفقر إلى الدار والعقار. أما أن تكون لهم ثروة لا تصدأ ولا تنتن ولا تذوب، وأما أن تكون لهم مذاهب تعلِّمهم أن الغنى بالشيء هو الاستغناء عنه، وأن مكمن القوَّة في الفكر والخيال، لا في الظهر والعضل، ولا في السحت والمال، فكل ذلك عندهم هراء في هراء.
وهناك أشباه الحكماء، وما هم بالحكماء، الذين يرون في كثرة المذاهب كارثة، فيلومون السماء التي ما جعلتْ هذه الأرض منبتًا لشتى المذاهب حتى جعلتْها منبتًا للشفار والنصال ومعقلاً للخصام والنضال؛ فتفرَّقتْ كلمتُها، ولانتْ شكيمتُها، وهانت قيمتُها، فكانت موطئًا لأقدام الفاتحين، وألعوبةً في أيدي الطامعين. وهؤلاء واثقون كلَّ الثقة، مؤمنون كلَّ الإيمان، بأن جراثيم الشقاق والنزاع إنَّما هي في المذاهب عينها، لا في جهل المتمذهبين بها وهم عن اكتناهها قاصرون.
ومن ثمَّ فأشباه الحكماء يقولون إن مذاهب هذه البلاد قد أدَّت بها إلى الخمول والتواكل، والاستسلام والتخاذل؛ فسبقتْها الأممُ التي تتكل على نشاط ساعِدها وقوَّة إرادتها، وتركتْها خلفها أشواطًا لا حول لها ولا طول، ولا رهبة ولا وقار. وكأنَّهم بذلك يقولون إن مَن يتكل على ساعِده أقوى من الذي يتكل على ساعِد ربِّه. لقد كفروا بالحياة وما أحسنوا الكفر، وآمنوا بشعرة من شعورها فما أحسنوا الإيمان. ولو أنهم أحسنوا الإيمان لعرفوا أن الاتكال على القوَّة التي منها وفيها وإليها كلُّ شيء لهو القوَّة التي ما بعدها قوَّة؛ ولو أنهم أحسنوا الكفر لأدركوا وهنَ الاعتداد بالنفس وخذلان القائل: "بمشيئتي عملت وأعمل وسأعمل كيت وكيت." أيُّها الكافرون، أحسِنوا الكفر! ويا مؤمنون، أحسِنوا الإيمان! أمَّا الذين لا كفرهم كفرٌ ولا إيمانهم إيمان فأشدُّ الناس وبالاً على أنفسهم وعلى الناس.
وهناك أشباه المصلحين، وما هم بالمصلحين، الذين يرتأون توحيد المذاهب لاعتقادهم أن الناس إذا ما توحَّدتْ مذاهبُهم توحَّدتْ قلوبُهم وأفكارُهم، فجَلَتْ عنهم جيوشُ التعصُّب والضغينة وحلَّتْ محلَّها أجنادُ الوئام والسلام. إذن فليوحِّدوا أذواق الناس في كلِّ ما يأكلون ويشربون، ويحبون ويكرهون؛ إذن فليوحِّدوا أحلامَهم في الليل وأهواءهم في النهار؛ إذن فليوحِّدوا ميولَهم وأعمالَهم، وليوحِّدوا قاماتِهم وبيئاتِهم، كي لا يحسَّ واحدُهم ما لا يحسُّه الآخر؛ إذن فليصهروهم في أتون واحد، ويسكبوهم من جديد في قالب واحد. لكنني أقول لكم إنَّهم ولو فعلوا كلَّ ذلك – وهو مستحيل إلاَّ على الله، ولو شاء الله لفعله من زمان! – لما خلقوا مذهبًا واحدًا تنصبُّ فيه جميعُ قلوب الناس وأفكارهم. فما المذاهب بأنواعها سوى اتجاهات الفكر المولود إلى الفكر المولِّد، والخيال الأدنى إلى الخيال الأسمى. هي مناقب كثيرة في جبل الوجود، لكنها كلها تؤدي إلى القمة؛ هي شعاعات عديدة في دائرة الوجود، لكنها تجتمع في محور واحد هو الله. فمادامت غايتك من مذهبك الوصول إلى الله، وغايتي من مذهبي الوصول إلى الله، فما شأنك معي أي طريق أسلك إلى الهدف؟ وما شأني معك إذا سلكتَ إليه طريقًا غير طريقي؟ لعلَّك نسرٌ تبلغ القمَّة بخفقة واحدة من جناحيك؛ ولعلني سلحفاةٌ أدبُّ في منعرجات الأرض. أو لعلَّني أصبحت خيالاً هائمًا، كيفما اتَّجه واجَه الخيال الأكبر؛ ولعلَّك لا تزال شهوةً خسيسة، أنَّى دَرَجَتْ تعثَّرتْ بخساستها. فما بالك لا يهنأ لك عيش إلاَّ إذا شددتَني بحبال خساستك؟! وأنا، من قبل ومن بعد، ما اخترت سبيلي إلى الله، بل اختاره الله لي. هل تكون أعدل من الله وأعرف بمشيئته منه؟!
وأخيرًا، هناك أشباه المرشدين، وما هم بالمرشدين، القائلون بنبذ التعصب وهم من المتعصبين، والكارزون بالتساهل وليسوا من المتساهلين. وهم يعنون بـ"التعصُّب" تعلُّق الإنسان بمذهبه تعلُّقًا يحمله على كُره كلِّ ذي مذهب سواه؛ وهم يقصدون بـ"التساهل" أن يغضَّ الواحدُ الطَّرْفَ عن الاختلافات التي بين مذهبه ومذهب جاره، فلا يقاتله من أجلها ولا يضطهده، ولاسيما إذا كان كلاهما من أبناء وطن واحد. ولهم في ذلك شعار يُكثِرون من ترديده، وهو: "الدين لله والوطن للجميع" – وكانوا أصدق نطقًا وأبعد تأثيرًا لو أنَّهم قالوا: "الوطن لله والله للجميع." فمن أين لنا – وكلنا عيال على الله – أن ندَّعي الملك في الأرض أو في أيِّ شطر منها، وأن نمنِّن الله لقاء ذلك بجعلنا الدين وقفًا عليه؟ ومتى كان الله في حاجة إلى دين إنسان؟! إنما أحتاج إليه لأجعله ديني، ولا يحتاج إليَّ لأدين به. وهو للكلِّ وفي الكل. فمن أين لك أن تدَّعي منه أكثر ممَّا لي؟! ومتى كنتَ قادرًا أن تجزِّئ الله وتوزِّعه حصصًا غير متساوية على الناس كنتَ أقدر من الله.
أما فلسفة "التساهل" فأعيذكم منها إن كنتم من المؤمنين. فأنتم عندما "تتساهلون" مع الناس – إنْ في عقيدة أو ذوق أو شعور – فكأنَّكم تقلِّدونهم جميلاً، متكرِّمين عليهم بحقٍّ ليس لهم، وواضعين أنفسكم في مرتبة أعلى منهم؛ وكأنَّكم بذلك تقولون لهم: "نحن على هدى وأنتم في ضلال، لكنَّنا نسكت عن ضلالكم رأفةً بكم ودرأً لما قد يكلِّفنا ردُّكم إلى الحقِّ من تعب وجهاد."
حذارِ، يا صاحبي، أن تجعل نفسك أكرم من الله، وأعلم منه بذاته، وأعدل منه في خلقه. فهو قد أهَّلني لأحمل صورته ومثاله، ولأمتِّع روحي بجمال أكوانه؛ وقد بَسَطَ أمامي خيراتِ الأرض، وسَكَبَ عليَّ بركاتِ السماء، وما منَّنني يومًا بعطية. وأنتَ، مَن أنت لتحجبه عني، فلا أراه إلاَّ بعينك، ولا أمجده إلاَّ بلسانك؟! وأنتَ، مَن أنت لـ"تتساهل" معي، فـ"تسمح" لي أن أبصر ربي بعيني وأمجِّده بلساني؟! ومذهبي في الله هو صوت الله فيَّ. فمَن أنت لتخنقه، أو لـ"تتساهل" معي فلا تخنقه؟! ومذهبي من روحي كأنفي من وجهي: ذاك يكمل كياني الباطني، وهذا يتمِّم كياني الخارجي. فإن أنت لم يعجبك أنفي، بل لم يعجبك من أنوف الناس غير أنفك، أفلا امتشقت سيفك وأعملْتَه في أنوف الناس لتجعلها مشابهةً لأنفك؟!
إن يكن مذهبي نتانةً في أنفك وقذًى في عينك، فهو ليس كذلك في أنف الحياة وعينها – وإلاَّ لما جادت عليَّ بذاتها. وإذن أنت عندما تضطهدني إنَّما تضطهد الحياةَ التي هي أمك وأمي وأبوك وأبي، وتجعل نفسَك أعلم منها بذاتها، وأعدل منها في بنيها. ولعلك، يا صاحبي، لو تفقَّدتَ قلبَك لوجدت أن النتانة التي في أنفك إنَّما تتصاعد إليه من قلبك؛ ولعلك لو تفقَّدت فكرَك لوجدت أن القذى الذي في عينك إنَّما تسرَّب إليها من فكرك.
لا. لا، يا صاحبي. خذْ "تساهلك" عني! فحقِّي أن أسلك إلى خالقي السبيلَ الذي يهديني إليه خيالي، لم يأتِني من قبضتك ولا من حدِّ سيفك. وإذا ما شئتَ أن تعطيني شيئًا، أو أن تأخذ مني شيئًا، فأعطِني محبتك وخذ محبتي: فأنا أحوج إلى محبتك منِّي إلى تساهلك، وأنت أحوج إلى محبتي منك إلى زادي. وأنت إذا ما أسكنتَني قلبَك أدنيتَني من محجَّتي، وأنا إذا ما أسكنتُك قلبي أدنيتُك من محجَّتك. فأنت في كلِّ ما تفتش عنه لا تفتش في الواقع إلاَّ عني، وأنا لا أفتش إلاَّ عنك. وما مذهبي غير سبيلي إليك؛ فليكن مذهبك سبيلك إلي.
قال أحدهم: "دعوني أنظُم أناشيد الشعب ولا همَّ لي من بعد ذلك مَن يسنُّ شرائعه." ولو أنَّه قال: "دعوني أنظُم صلواتِ الناس ولا همَّ لي من بعد ذلك مَن يسوسهم"، لجاء بحقيقة أسمى وأروع من تلك. فالناس، مهما تنوَّعت ملاهيهم، من علوم وفنون، واختراعات واكتشافات، ومتاجر وسياسات، يشعرون أبدًا بخيبة الهزيمة من وجه قوة لا قوَّة لهم عليها؛ ومهما أمعنوا في طلب الملذات الأرضيَّة، وسكروا بقدرتهم الفكرية والفنيَّة، تمرُّ بهم ساعاتٌ يرون فيها الأرض قاعًا صفصفًا، وكلَّ أعمالهم قبض الريح: فلا علومهم وفنونهم، ولا اختراعاتهم واكتشافاتهم، ولا متاجرهم وسياساتهم، قرَّبتْهم قيد شعرة من السعادة التي ينشدون والمعرفة التي يطلبون. فهم كلَّما عضَّهم الألمُ لجَّ بهم الشوقُ إلى الحياة الصافية من الألم، فثابوا إلى أنفسهم يضرعون إلى مَن هو فوق اللذة والألم ويبتهلون؛ وهم كلَّما فتَّتَ الموتُ أكبادَهم جدَّ بهم الوجدُ إلى الكينونة التي لا تعرف الموت، فهبوا إلى معابدهم يستعطفون ربَّ الحياة ويترجَّوْن؛ وكلَّما طلبوا المعرفة، فألفَوْا أبوابَها موصدةً في وجوههم، راحوا يطرقون بابَ مَن ليس معرفة إلاَّ منه ويسجدون له ويمجِّدون.
وأنتم، يا أبناء هذه البقعة الصغيرة من الأرض، أما كفاكم مجدًا – إن كنتم للمجد طالبين! – أن بلادكم نَظَمَتْ صلواتِ نصف سكان الأرض، فأعطت أفكارَهم أجنحةً وقلوبَهم ألسنة، وطافت بهم الأزليَّة والأبدية، وسَمَتْ بأرواحهم إلى عرش السناء الأسمى؟ أم ما كفاكم فخرًا أن تكون بلادكم في كلِّ يوم وجهةَ الملايين من الأحداث والشبان والكهول والشيوخ في كلِّ أقطار الأرض، كلَّما جاعوا إلى أكثر من الخبز وعطشوا إلى أكثر من الماء؟
فكيف لا تخجلون من بعد ذلك أن تحسدوا غيركم وتقلِّدوه، وأن تحتقروا أنفسكم وتكبروه؟ أم كيف تتبرَّمون بمذاهبكم، وهي تراثكم الأثمن وتراث الناس أجمعين؟
ألا فتشوا مذاهبكم بإخلاص. فتِّشوها بلهفة العاشق. فتشوها بطهارة الطفل، وحرقة التائه، وإيمان المحتضر، تجدوا فيها السلامَ الذي إليه تطمحون، والطمأنينةَ التي بها تحلمون، والحريةَ التي باسمها تترنَّمون.
موضوع: رد: من أدب ميخائيل نعيمة الجمعة يناير 04, 2013 8:15 pm
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: الكلمة الوليمة – ميخائيل نعيمه السبت أكتوبر 05, 2013 4:32 pm
الكلمة الوليمة – ميخائيل نعيمه
أيَّتها الكلمة! علَّمْتِني النطق، فنطقت. وعلَّمْتِني الكتابة، فكتبت. وكان ما نطقتُ به عوالمَ من السحر والسرِّ. وكان ما كتبتُه دنيواتٍ من الرموز والألغاز. ولو لم تكن لي قابليَّةُ النطق والكتابة لَما نطقتُ وكتبت. ولو لم تكن لي القابليَّةُ لفهم ما أنطق به وأكتبه لَما خُيِّل إليَّ أنَّني أفهمه. ولكنَّني، في الواقع، لا أفهم حقَّ الفهم ما أقول وما أكتب. فها أنا ألفظ وأرسم كلماتٍ من نوع: الله – الحياة – الحق – العدل – الجمال – الحرِّية – الخلود؛ وبمثل السهولة، ألفظ وأرسم كلماتٍ من نوع: الشيطان – الموت – الباطل – الظلم – البشاعة – العبوديَّة – الفناء. وأحسب أنَّني أفهم ما ألفظ وأرسم؛ أمَّا، في الواقع، فلا أفهم. فمتى أفهم؟ وإذا أنا قلت وكتبت كلماتٍ من نوع: إنسان – حيوان – بحر – جبل – زنبقة – أمس – غدًا – ماء – تراب – إلخ، حسبتُني كذلك أفهم ما أقول وأكتب؛ في حين أنَّني لا أفهم. فهذه جميعها صناديق مقفلة، وهي بعضٌ من كلٍّ. فكيف لي أن أفتحها، وأن أفهم البعض، ما لم أفهم الكلَّ؟ حتى “أنا” – وهي أكثر الكلمات شيوعًا على قلمي ولساني – لا أفهمها! فمتى أفهم؟ متى أفهمك، أيَّتها الكلمة التي تعني كلَّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وبيني وبينك من وشائج القربَى ما ليس مثله بين أمٍّ وطفلها، أو بين عابد ومعبوده؟ متى يعود إليَّ لُبِّي الشاردُ في متاهات رموزكِ وألغازك، والمأخوذُ بسحركِ وأسرارك، – متى يعود حاملاً لي نعمة الفهم المقدَّس؟… وكأنَّني سمعت الكلمة تجيب فتقول: “ليس المهمُّ، يا ولدي، أن تعرف متى تأتيك نعمةُ الفهم المقدَّس، بل المهمُّ أن تميِّز معالمَ الطريق المؤدِّي إليها، وأن تسير فيه بقدم ثابتة. ومعالم الطريق لن تخفى عليك مادام توقك إلى فهم “الكلمة” يفوق توقك إلى التلهِّي بحروفها لا أكثر. “في الكلمة، يا ابني، سرُّ عظمتك وحقارتك، وسرُّ هنائك وشقائك. إذا أنت امتهنتَها امتهنتْك، وإذا أنت قدَّستَها قدَّستْك. وأنت تمتهنُها كلَّما قلت أو كتبت غير ما تُضمر، أو عكس ما تُضمر، وكلَّما اتَّخذتَها وسيلةً لنيل مآرب لا تشرِّف ناسوتك. “في قواميس النَّاس آلاف الكلمات: منها الزَّبد، ومنها الزبدة؛ منها ما يُضلُّك عن طريق الفهم، ومنها ما يدلُّك عليه. “هناك الكلمة الجيفة – وهذه أحبُّ الولائم إلى الذئاب والديدان وبنات آوى في الإنسان؛ وهناك الكلمة القرح – وهذه يتهافت عليها الذباب؛ وهناك الكلمة الخنجر، والسمُّ، والعلقم؛ والكلمة البغيُّ، والجرباء، والبخراء، والعوراء؛ والكلمة التي تتبرَّج، وتتبختر، وتتكبَّر، وتتجبَّر؛ والتي تقول: أنا – وكفى! وهذه جميعها، وما كان من نبعتها، كلمات أعيذك منها، يا ولدي، إذا كنتَ ممَّن لا يكتفون من الحياة برغوتها. “وهناك الكلمة الشَّهْد؛ والكلمة البلسم، والشذا، والجناح، والواحة، والوحي؛ والكلمة التي هي الدرع، والإيمان، والمصباح، والباب، والمفتاح، وغيرها ممَّا هو من مقلعها. وهذه أوصيك بها، يا ولدي، إذا كنتَ من التوَّاقين إلى نعمة الفهم المقدَّس. فهي المعالم التي تدلُّك على الطريق – على أن تنبجس هذه الكلمات من وجدانك انبجاسَ النبع من قلب الجبل. فلا حذلقة، ولا تصنُّع، ولا تبرُّج – وهل يتحذلق ويتصنَّع ويتبرَّج إلاَّ الكذب؟ أمَّا الصدق فبسيط أبدًا. ولأنَّه أبدًا بسيط فهو أبدًا جميل. لذلك أوصيك بالكلمة الصادقة. والكلمة الصادقة باتت اليوم أعزَّ ما في الأرض. فلا عجب أن ترى أبناء الأرض يتخبَّطون في الرغوة حتى لَيكادون يختنقون! “أنا الكلمة. مَن جمَّلَني جمَّلتُه، ومَن قبَّحَني قبَّحتُه، ومَن امتهنَني امتهنتُه، ومن قدَّسَني قدَّستُه. “وأنا الوليمة التي لا مثلها، ولا قبلها وبعدها، وليمة. فلا حصر لأصنافها، ولا عدَّ للمدعوِّين إليها. والذي أولِمُه آلهة وسماوات، وشموس ومجرَّات، وآزال وآباد، وحيوات تنسلُّ من حيوات. “وأنت لن تشبع من وليمتي ولن ترتوي إلاَّ يوم تعرف أنَّ ما تأكله هو أنت، وأنَّ ما تشربه هو أنت. فاحذرْ كيف تأكل وكيف تشرب، إنْ أنت شئتَ أن تعرف مَن أنت، فتشبع بعد جوع، وترتوي بعد عطش. ودع المعربدين يعربدون، والعابثين يعبثون، والذين يتلهُّون بالقشور دَعْهم يتلهُّون. فنور الكلمة لم يشرقْ في قلوبهم بعدُ، وروح الفهم لم يطهِّر أيديهم وأفواههم.” ذلك ما خُيِّل إليَّ أن الكلمة ألقتْه في أذني وفي خَلَدي. وذلك ما أودُّ، يا قارئي، أن ألقيه عند الوداع في أذنك وفي خَلَدك – لعلَّني وإيَّاك نتعلَّم كيف نجمِّل الكلمة ونقدِّسها لنتجمَّل بها ونتقدَّس، وكيف نتناول من وليمتها السخيَّة ما يمهِّد لنا طريق الفهم المقدَّس.
_________________
عطر الليل
الجنس : المشاركات : 62 العـمر : 54 الإقامة : طرابلس العـمل : عمل مكتبي المزاج : رومانسي السٌّمعَة : 0 التسجيل : 05/05/2013
موضوع: يا نهرُ الإثنين أكتوبر 07, 2013 12:51 pm
من أروع ما كتب ميخائيل نعيمة
يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخرير؟
أم قد هَرمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟ ٭٭٭ بالأمس كنتَ مرنماً بين الحدائق والزهور تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور ٭٭٭ بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانعَ في الطريق واليومَ قد هبطتْ عليك سكينةُ اللحد العميق ٭٭٭ بالأمس كنتَ إذا أتيتُكَ باكياً سلَّيْتَني واليومَ صرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكاً أبكيتني ٭٭٭ بالأمس كنتَ إذا سمعتَ تنهُّدي وتوجُّعي تبكي، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي! ٭٭٭ ما هذه الأكفانُ؟ أم هذي قيودٌ من جليد قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْكَ بها يدُ البرْد الشديد؟ ٭٭٭ ها حولك الصفصافُ لا ورقٌ عليه ولا جمال يجثو كئيباً كلما مرَّتْ به ريحُ الشمال ٭٭٭ والَحوْرُ يندبُ فوق رأسكَ ناثراً أغصانَهُ لا يسرح الحسُّونُ فيه مردِّداً ألحانَهُ ٭٭٭ تأتيه أسرابٌ من الغربان تنعقُ في الفَضَا فكأنها ترثي شباباً من حياتكَ قد مَضَى ٭٭٭ وكأنها بنعيبها عندَ الصباح وفي المساء جوقٌ يُشَيِّعُ جسمَكَ الصافي إلى دار البقاء ٭٭٭ لكن سينصرف الشتا، وتعود أيامُ الربيع فتفكّ جسمكَ من عقَال مَكَّنَتْهُ يدُ الصقيع ٭٭٭ وتكرّ موجتُكَ النقيةُ حُرَّةً نحوَ البحَار حُبلى بأسرار الدجى، ثملى بأنوار النهار وتعود تبسمُ إذ يلاطف وجهَكَ الصافي النسيم وتعود تسبحُ في مياهكَ أنجمُ الليل البهيم ٭٭٭ والبدرُ يبسطُ من سماه عليكَ ستراً من لُجَيْن والشمسُ تسترُ بالأزاهر منكبَيْكَ العاريَيْن ٭٭٭ والَحوْرُ ينسى ما اعتراهُ من المصائب والمحَن ويعود يشمخ أنفُهُ ويميس مُخْضَرَّ الفَنَن ٭٭٭ وتعود للصفصاف بعد الشيب أيامُ الشباب فيغرد الحسُّونُ فوق غصونه بدلَ الغراب ٭٭٭ قد كان لي يا نهرُ قلبٌ ضاحكٌ مثل المروج حُرٌّ كقلبكَ فيه أهواءٌ وآمالٌ تموج ٭٭٭ قد كان يُضحي غير ما يُمسي ولا يشكو الَملَل واليوم قد جمدتْ كوجهكَ فيه أمواجُ الأمل فتساوت الأيامُ فيه: صباحُها ومساؤها وتوازنَتْ فيه الحياةُ: نعيمُها وشقاؤها ٭٭٭ سيّان فيه غدا الربيعُ مع الخريف أو الشتاء سيّان نوحُ البائسين، وضحكُ أبناء الصفاء ٭٭٭ نَبَذَتْهُ ضوضاءُ الحياة فمالَ عنها وانفرد فغدا جماداً لا يَحنُّ ولا يميلُ إلى أحد ٭٭٭ وغدا غريباً بين قوم كانَ قبلاً منهمُ وغدوت بين الناس لغزاً فيه لغزٌ مبهمُ ٭٭٭ يا نهرُ! ذا قلبي أراه كما أراكَ مكبَّلا والفرقُ أنَّك سوفَ تنشطُ من عقالكَ، وهو لا
Ginwa صديقة فيروزية نشيطة
الجنس : المشاركات : 1346 العـمر : 54 الإقامة : لبنان العـمل : عمل مكتبي المزاج : ماشي الحال السٌّمعَة : 4 التسجيل : 06/04/2007
موضوع: نت الإنسانيَّة الجمعة أكتوبر 18, 2013 10:14 am
أنت الإنسانيَّة بكاملها. أنت ألِفُها وياؤها. منك تتفجر ينابيعها، وإليك تجري، وفيك تصبُّ. أنت حاكمها ومحكومها، وظالمها ومظلومها، وهادمها ومهدومها. أنت واهبها وموهوبها، وناكبها ومنكوبها، وصالبها ومصلوبها. أنت فقيرها وغنيُّها، وضعيفها وقويُّها، وظاهرها وخفيُّها. أنت جلاَّدها ومجلودها، وناقدها ومنقودها، وحاسدها ومحسودها. أنت رفيعها وخسيسها، وأثيمها وقدِّيسها، وملاكها وإبليسها. أنت ابن كلِّ أبٍ وأمٍّ، وأبو كلِّ أخٍ وأخت. وأنا، كائنًا مَن كنتُ، لا مهرب لي منك، ولا لك منِّي، لأنك أنا، وأنا أنت، وكلانا الإنسانيَّة بأسرها. لولاك لما كنتُ كما أنا، ولولاي لما كنتَ كما أنت، ولولانا لما كان سوانا كما هو. لولا الذين سبقونا لما كنَّا، ولولانا لما كان في رحم الزمان إنسان. أفي قلب جارك سعادة؟ – ألا فاغتبطْ بسعادته، لأن في نسيجها خيطًا من نَسْج روحك. وما همُّك أرأتْ عينُ جارك ذلك الخيط أم لم ترَه – فالعين التي ترى كلَّ شيء تراه! أفي قلب جارك حرقة؟ – فليحترقْ قلبُك بها، لأن في نارها شرارةً من موقد بغضك وإهمالك. أفي عين جارك دمعة؟ – فلتدمعْ بها عينُك، لأن فيها ذرَّة من ملح قساوتك. أعَلى وجه جارك بسمة؟ – فليبسمْ لها وجهُك، لأن في حلاوتها شعاعًا من نور محبتك. أجارُك في السجن لجريمة اقترفَها؟ – ألا فأرسلْ بعضًا من قلبك معه إلى السجن، لأنَّك شريكه في جريمته، وإنْ لم تحاكمْك السلطةُ المشروعةُ بشرائعها ولم يقضِ بسجنك رجلٌ مثلك. أمس رأيتك ترقص وتصيح في الناس: “صفِّقوا! صفِّقوا!” ألست ترى أن الحياة الجذلة فيك لا ترقص إلاَّ إذا صفَّق لها جذلُ الحياة في سواك؟ فما بالك لا تصفِّق عندما يرقص الغير؟! أمس سمعتك تشكو وتنوح: “اسمعوني، أيُّها الناس! أنصفوني، أيُّها الناس، فأنا مظلوم!” وممَّن تودُّ أن ينصفك الناس إلاَّ من أنفسهم؟! فإذا كنت تشكو الناس للناس، فعلامَ لا تصغي لشكواهم منك وتنصفهم من نفسك؟! أمس رأيتك تحصي أرباحك، وتربِّت نفسَك معجبًا بدهائك، وما سمعتك تقول: “هذا ما أكسَبَنيه الناس.” واليوم رأيتك تحسب خسائرك، لاعنًا دهاءَ غيرك، وسمعتك تقول: “هذا ما سَلَبَنيه الناس.” أوَلا تخجل من أن تكون في الحياة شريكًا “مُضاربًا”؟! أنت الإنسانيَّة بكاملها، عرفتَ ذلك أم جهلتَه. وأنا صورتك ومثالك. فأين تهرب منِّي إلاَّ إذا هربتَ من نفسك؟! وإنْ أنت هربت من نفسك – فمَن أنت؟!
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
أفاق الملك العادل من نومه نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل، واستوى جالساً في سريره، ثم راح يفرك عينيه بيديه محاولاً أن يطرد من خلف أجفانهما أشباح حلم مزعج. ولما أعياه الأمر نادى بحارسه الليلي الواقف خارج الباب وأمره أن يأتيه في الحال بمفسر أحلامه. وكان اسمه بهرام. وكان بهرام شيخاً طاعناً في السن حوى من الحكمة والفضيلة ما لم يحوه أحد من أبناء زمانه. ومما يُروى عنه أنه كان يعرف لغة الطير والحيوان، وأنه تنبأ عن أمور كثيرة فما خابت له نبؤة. وما إن مثل الشيخ أمام الملك حتى بادره الملك بقوله:”اليوم يومك يا بهرام. فإن صدقت في تفسير الحلم الذي حلمته الليلة فطيّر النوم من أجفاني تنازلتُ لك عن نصف مملكتي. وإن لم تصدق تنازلتَ لي عن حياتك”.
فأجابه بهرام بمنتهى التواضع والاحتشام: “عاش مولاي الملك. أما أن أصدق أو لا أصدق في تفسير الحلم فأمر لا أستطيع البت فيه. فما أنا غير قارئ في كتاب. وفي الكتب ما يستعصى فهمه أحياناً إلا على كاتبه. وإني لأرجو أن أوفق اليوم، كما وُفقتُ فيما مضى، إلى فهم ما أقرأ. وأما أن يتنازل الملك لي عن نصف مملكته إذا صدقتُ، وأن أتنازل له عن حياتي إذا لم أصدق، فما أنا ممن يطمعون في ملك ولا أنا ممن يبخلون بحياة. فليتلطف الملك – عاش رأسه وسلم ملكه – بأن يقص عليّ حلمه.” قال الملك: “حلمتُ أيها الحكيم أن جيشاً عدواً جراراً جاء يغزو مملكتي. فخرجتُ على رأس جيش عرمرم لملاقاته. ولكننا ما قطعنا فرسخاً وبعض الفرسخ حتى اعترض طريقنا رجل رثّ الثياب، حافي القدمين، هزيل البنية، يحمل قصبة طويلة كتب على رقعة في أعلاها: نريد خبزاً لا دماً. نريد عدلاً لا قانوناً. نريد سلماً لا هدنة. وقد بدا لنا من هيئة الرجل والقصبة في يده أنه معتوه. وطلبنا إلى الرجل مرة واثنتين وثلاثاً أن يتنحى عن الطريق، وأفهمه رجالي أن الذي يطلب إليه التنحي هو الملك بعينه. إلا أنه ما تزحزح من مكانه. عندها أمرت حاشيتي بقطع رأسه وبتحطيم القصبة التي في يده. فانبرى له أحد الرجال واستل سيفه وأهوى به عليه. فقابله الأبله بالقصبة كما لو كانت ترساً، وإذا بالسيف يتطاير شظايا وتبقى القصبة سليمة. حينئذٍ انبرى له ثانٍ وثالث ورابع حتى آخر رجل من رجال الحاشية. وكلهم عملاق جبار. فكانت النتيجة واحدة: تتكسر السيوف، ولا تُمس القصبة بأذى، ويبقى الرجل صامداً كالطود لا يتراجع خطوة، ولا ينحرف يميناً ولا شمالاً. إذ ذاك كادت تنفجر مرارتي غيظاً من رجال حاشيتي. فصحت بهم: ابتعدوا من طريقي يا أرانب ويا ثعالب! واستللتُ سيفي وانقضضتُ بجوادي على الرجل وأنا أحسبني سأسحقه سحقاً. ولكن سيفي طار من يدي إلا القبضة. ونشبت القصبة في بطن جوادي ومنه في صدري، فخر الجواد صريعاً وهويتُ من فوقه وبي رمق أخير يصيح: “أين الرجال؟!” وتراءى لي في لمحة الطرف، وأنا أعالج سكرة الردى، أن جيشي قد انتشر في سهل لا يدرك له أول ولا آخر، وأن رجالي قد اصطفوا في ذلك السهل كتفاً إلى كتف، وفي يد كل واحد منهم قصبة طويلة كالتي في يد المعتوه، وتحت قدميه سيف مكسور، وفي أعلى كل قصبة رقعة كتب عليها: ليس بالخبز وحده ولا بالعدل وحده ولا بالسلم وحده يحيا الإنسان. وعندها استفقتُ من نومي وفي فكري وقلبي وأحشائي من الاضطراب ما لا يوصف. ذلك هو الحلم يا بهرام. فهات تفسيره. ولك الأمان.” سمع الشيخ تفاصيل الحلم فأطرق طويلاً حتى عيل صبر الملك فصاح به: “تكلم! أما قلتُ إنك في أمان؟” عندئذٍ رفع الحكيم بصره عن الأرض وحدق إلى وجه الملك وأجاب بصوتٍ لا خوف فيه ولا تردد: “عاش مولاي الملك. وليعلم أن حلمه نبؤة بنهاية ملك السيف وبداية ملك القلم.” - الملك: وما دخل القلم في الأمر؟ - بهرام: إن القصبة التي رأيتها في يد المعتوه ما كانت غير رمز للقلم. - الملك: والمعتوه؟ - بهرام: أما المعتوه فشاعر أو كاتب أو فيلسوف. - الملك: والكتابة على رأس القصبة؟ - بهرام: ذلك ما يطلبه الشعب في سره فلا يستطيع أن يعلنه غير شاعر أو كاتب أو فيلسوف يحسن استعمال القلم ويحسن قراءة ما في ضمير الشعب. - الملك: ألعل الشعب جائع ليطلب خبزاً؟ إن مملكتي لتفيض بالخيرات. فكيف لشعبي أن يشكو الجوع؟ - بهرام: الخبز موفور يا مولاي. ولكنه معجون بالدم. وما دام السيف مصلتاً فوق رؤوس العباد كان خبزهم معجوناً بالدم. والإنسان مُطالب بأن يأكل خبزه بعرق جبينه لا بدم قلبه. تلك حقيقة يجهلها السيف ولا تجهلها القصبة. لذلك كتب على القصبة: نريد خبزاً لا دماً. - الملك: والعدل؟ أما لقبني شعبي بالملك العادل؟ أليس القانون يُطبق في مملكتي على الكل بالسواء؟ - بهرام: لقّبوك بالملك العادل لعلهم يخففون من ظلمك. فعدلك عدل السيف. لأنك تحكم بالقانون الذي لا يقوم بغير حد السيف. والسيف ظالم أبداً وإن عدل. - الملك: وكيف أحكم إن لم يكن بالقانون؟ - بهرام: بالعطف واللطف والرأفة والمحبة يا مولاي. فعدل هذه غير عدل القانون. والسيف لا يفهم لها معنى ولا يقيم لها وزناً. أما القصبة فتفهم المعنى وتقيم الوزن. ولذلك كُتب على القصبة: نريد عدلاً لا قانوناً. - الملك: والسلم؟ ما أظن أن في الأرض مملكة ترفل في بحبوحة من السلم كمملكتي. - بهرام: وسلمك يا مولاي هو سلم السيف كذلك. وأنت قد انتزعته من جيرانك انتزاعاً. ولا تدري متى ينتزعه جيرانك منك. إن سلماً يقوم بالسيف ينهار بالسيف. فهو هدنة لا سلم. أما السلم الذي يشاد على التفاهم والتعاون والتآخي فلا يتصدع ولا ينهار. ذلك السلم لا يفهمه السيف وتفهمه القصبة. ولذلك كُتب في أعلاها: نريد سلماً لا هدنة. - الملك: وما تفسيرك للسيوف تتكسر على القصبة وتبقى القصبة سليمة؟ - بهرام: معنى ذلك يا مولاي أن السيف سيمضي وتبقى القصبة. - الملك: ومتى كانت القصبة أقوى من السيف؟ - بهرام: ما كانت، ولكنها ستكون. - الملك: أتدول دولة السيف وتقوم دولة القصبة؟ إنك لتهذي أيها الشيخ. - بهرام: قلت لمولاي إنني لست غير قارئ في كتاب. والذي أقرأه في حلم مولاي هو أن دولة السيف آذنت بالغروب وأن دولة القلم آذنت بالبزوغ. - الملك: وذلك السهل الفسيح الذي رأيته آخر ما رأيت وقد اصطف فيه الرجال كتفاً إلى كتف وفي يد كل واحد منهم قصبة كالتي في يد المعتوه وتحت قدميه سيفٌ مكسور – وفي أعلى القصبة: “ليس بالخبز وحده ولا بالعدل وحده ولا بالسلم وحده يحيا الإنسان” – ماذا ترى كل ذلك يعني يا بهرام؟ - بهرام: ذلك يعني يا مولاي أن الناس، وقد تخلصوا من سلطان السيف بقوة القصبة، ونالوا الخبز والعدل والسلم، سيمضون يفتشون بمعونة القصبة عن أشياء أبعد من الخبز والعدل والسلم. - الملك: وما عسى تلك الأشياء أن تكون؟ - بهرام: إنها أشياء في ضمير الزمان يا مولاي. وبصري أقصر من أن يدركها اليوم. - الملك: يا لخيبة فألي فيك يا بهرام. لقد ضيعتَ حكمتك في شيخوختك. ولولا أنني أمنتك على حياتك لأمرت الآن بقطع رأسك بحد السيف لعلك لا تنسى أن السيف كان وسيبقى أمضى من القصبة. لكنني سأحجز عليك في مقصورة من مقصورات قصري تطلّ منها على فِناء القصر الواسع لتبصر بعينيك ما سيفعله السيف بالقصبة. وأصبح الصباح فأمر الملك بجمع كل ما في مملكته من أقلام وبحرقها في الساحة الواسعة أمام القصر على مرأى من الجماهير. مثلما أمر بالزج بكل الشعراء والكتّاب والفلاسفة في السجون. وكان كما أمر الملك. فغصت السجون بالشعراء والكتّاب والفلاسفة وامتلأت الساحة الواسعة بالأقلام. وأضرمت النيران في الأقلام وارتفع دخانها ولهيبها في الفضاء حتى كاد يحجب الشمس. وهلل الناس وكبروا وتعالت هتافاتهم: “عاش الملك!” إلا معتوهاً كان يدفع القوم بمنكبيه محاولاً الوصول إلى رابية الأقلام المشتعلة. حتى إذا بلغها من بعد أن خمدت نيرانها تناول منها فحمة وتسلل من بين الجماهير إلى حيث كان علمٌ يخفق فوق سارية عالية. فأنزله ورفع مكانه رقعة وقد كتب عليها بالفحمة التي كانت في يده: نريد خبزاً لا دماً! نريد عدلاً لا قانوناً! نريد سلماً لا هدنة! وما هي إلا طرفة عين وانتباهتها حتى مشت في الجماهير اهتزازات خفية كأنها السحر. وإذا بهم خضم متلاطم الأمواج. وإذا بصراخهم يشق عنان السماء: “ليسقط الملك!” وكان بهرام ينظر من نافذته بعينين دامعتين. وعندما سُئل: أحزناً على الملك كان بكاؤه أم فرحاً بانتصار الشعب؟ أجاب!: “لا ذاك ولا هذا. ولكنها العجيبة التي اجترحتها فحمة القصبة!”
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: صلوات من كتاب هوامش - ميخائيل نعيمة الأحد أبريل 20, 2014 4:05 pm
صلوات من كتاب هوامش - ميخائيل نعيمة عاشق يصلي : “ربي! أنت أدرى بحالي مني. هذا القلب الذي وضعته في صدري بات بحبها أتوناً تنشوي فيه دقائق عمري وساعاته،
وباتت ناره تحجب سناء وجهك عني. إنني لا أستطيع التفكير إلا فيها، ولا العيش إلا بقربها ومن أجلها. وهي تماطلني
في أمر الزواج، في حين يؤكد لي والداها أنها لن تكون إلا من نصيبي. بيني وبينها موعد لقاء بعد ساعة. فألهمها يا ربي أن تقول “نعم””. “ربي! أقسم باسمك الذي يتسامى عزاً ومجداً وكرامة وتقديساً فوق سائر الأسماء أنني لن أزعجك مدى العمر بضراعة غير هذه الضراعة. إن حياتي لجحيم بدونها. فألهمها يا ربي أن تقول “نعم” بعد ساعة”. ولقد قالت الصبية “نعم” بعد ساعة، ولكن لشاب آخر كانت تحبه، وكان والداها يماطلانه فأقلعا في النهاية عن المماطلة واستسلما.
تلميذة تصلي : عمرها تسع سنوات، واسمها سلوى. وأكره ما تكرهه الحساب. إنها تؤثر منظر الحيات على منظر الأرقام. تخدر دماغها، وزاغ بصرها تلك الليلة وهي تحدق إلى عملية حسابية في كتابها فلا تهتدي إلى حلها. والعملية كانت تطلب معرفة كمية النقود التي أعطتها أم فريد لابنها عندما أوصته أن يشتري لها سبع بيضات، وتسع أواق من السكر، وثلاث أواق من البن. فاشترى الولد البيضة بتسعة قروش، وأوقية السكر بثلاثة عشر قرشاً،
وأوقية البن بخمسة وتسعين. ورد لوالدته خمسة وثلاثين قرشاً. وعندما أعياها حل العملية واشتد بأجفانها النعاس انطلقت إلى سريرها وهي تلعن أم فريد وفريدها والذين اخترعوا الحساب ليعذبوا به فتاة مثلها. وكانت صلاتها، وهي تغمض عينيها: “يا ربي اجعل معلمتنا تمرض غداً”. ولشد ما أذهلها أن تنهض في الصباح فتسمع أهل بيتها يتداولون في أمر وفاة معلمتها المفاجئة. لقد ماتت المسكينة في الليل بسكتة قلبية. وخيّل إلى الفتاة الصغيرة أن صلاتها هي السبب في موت معلمتها. فطفقت تبكي وتلطم خديها بيديها وهي تخاطب نفسها، ثم ربها، فتقول: “يقصف عمرك يا سلوى! ولكنني يا ربي لم أطلب لها الموت. وطلبت لها المرض فقط…”.
طفل يصلي : عمره خمس سنوات. ضربته أمه لأنه مزق قميصه بالأسلاك الشائكة عندما حاول أن يقتحم حديقة الجيران ليسرق منها وردة. فارتمى أرضاً وراح يفلح التراب برجليه ويديه، والدموع تترقرق على وجنتيه، وصوته المخنوق يردد: “ليتها مكسورة! ليتها مكسورة إن شاء الله!” وكان يعني اليد التي ضربته. أما الأم فكانت تهز يدها في وجهه وتصيح: “إذا فعلتها ثانية فعلتُ بك أكثر من هذا”. في ذلك المساء كانت الأم تفتش عن طفلها فلا تجده. وإذا بها تبصر أحد الجيران يحمله بين يديه، وإذا بالطفل يئن وينشج.
لقد كان يلعب مع أترابه فوقع وكسر رجله.
_________________
Amer-H صديق فيروزي متميز جدا
علم الدولة : الجنس : المشاركات : 9804 الإقامة : Sweden العـمل : IT-computer المزاج : Good السٌّمعَة : 316 التسجيل : 09/02/2007
موضوع: رد: من أدب ميخائيل نعيمة الإثنين أبريل 21, 2014 6:24 pm
لو أن البشر عرفوا الله لما قسموه إلى عبراني ومسيحي ومسلم وبوذي ووثني. ولما أهرق إنسان دم إنسان، ولا أبغض إنسان إنساناً من أجل الله. وما أنقسم البشر مللاً ونحِلاً إلا لأنهم حاولوا المستحيل فحددوا الله الذي لا يحد بلغاتهم المحدودة، وقاسوا ما لا يقاس بمقاييس بشرية أرضية. وسيبقون كذلك إلى أن يدركوا قوة الفكر، وإلى أن يسكتوا متأملين ومتفاهمين بالأفكار لا بالألسنة. ويوم يدرك الإنسان قوة الفكر ثم يستطيع تسييرها حسب هواه. يومئذٍ يصبح في إمكانه أن ينقل الجبال ويحمل البحار على أكف الريح.