رؤيا مطمئنة نامت المرأة ودموعها تجري من عينيها، وإذ بها تري نفسها واقفة على قطعة من الخشب، والكآبة قد شملتها، ودموعها كينابيع تفيض بغير توقف.
رأت فتى بهي الطلعة، ترتسم الابتسامة على شفتيه، ويشع الفرح من ملامح محياة. جاء إليها وبلطف سألها: "مالك تبكين، والغم لا يبرح من قلبك؟"
لم تستطع المرأة أن تجيب من كثرة بكائها، لكنها إذ تطلعت إلى الفتى تشجعت وتعزت. عندئذ أجابته:
"يا سيدي... ولدي!
ولدي الذي من لحمي ودمي قد هلك!
صار فيلسوفًا عظيمًا، يجالس العظماء، ويحسده الأغنياء.
تتمناه كل فتاة أن تكون عروسًا له، لكنه فقد نفسه وهلك!
ابني، منذ صباه لم يختبر حلاوة العشرة معك، ولا ذاق دسم الكتاب المقدس!
ولدي يرتبط بعشيقة يلتقي معها كل ليلة، ينسى حياته ويتمرغ في الدنس!
ولدي، كيف لا أبكيه كل حياتي!
كيف لا تمتلكني الكآبة من أجله، إذ حاد عن ناموسك؟!"
عندئذ لم تستطع أن تكمل حديثها بل أجهشت في البكاء.
تطلع إليها الفتى البهي. وفي حنان أبوي أخذ يطمئنها قائلًا: "تعزي ولا تخافي. فها هو ولدك هنا، وهو معك".
التفتت المرأة، فإذا بها تراه بجوارها واقفًا معها على الخشبة وللحال أدركت أنه سيقبل الإيمان.
استيقظت المرأة من نومها... والبهجة تملأ جوانب قلبها، فقد تأكدت استجابة الرب لطلباتها. ضمت يديها وركعت تشكر الله، ثم أسرعت تبشر ابنها بما رأت.
أما هو ففي سخرية تهكم عليها قائلًا: "أما تفهمين يا امرأة، إنه يقصد أنك ستكونين مثلي؟!"
صمتت الأم ولم تجادله، بل أسرعت بالخروج إلى الكنيسة والدموع تجري من عينيها.
وفي الطريق رآها الشيطان، فاغتاظ من مثابرتها وقوة رجائها، عندئذ أرسل أحد أقاربها التقي معها في الطريق إلى الكنيسة. اقترب إليها وبدأ يسألها:
"ما لك تبكين يا أختي؟
هل مرض أحد أبنائك فاستدعي له الطبيب؟"
أجابته المرأة:
"نعم، ابني مريض، وأنا أعلم من هو طبيبه الذي يقدر أن يشفيه.
إني أذهب إلى الكنيسة أصلي لأجله، وأطلب من أبي الأسقف يصلي عنه لأجل شفائه".
عندئذ أجابها الرجل قائلًا:
"تمهلي يا سيدتي...
اخبريني، لماذا لا يبرح الغم نفسك؟!
هل أهملتِ في شيء من واجبك نحو ابنك؟
في طفولته كنتِ تعلمينه التعاليم الحية.
في صبوته لم تبخلي عليه بشيء من إرشاداتك الروحية أو اهتمامك به دراسيًا أو...
شملتيه بعطفٍ وحنانٍ لم تصنعه أم مع ابنها...
وها هو اليوم شاب كامل السن، ناضج العقل، مسئول عن نفسه...
ابنك ليس بالشاب الخامل، ولا بقليل الذكاء، بل نبغ في كل شيء على أقرانه، وها هو صيته يجول في المسكونة كلها.
كُفيِ عن البكاء، وارجعي إلى بيتك، فأنتِ لست بعد مسئولة عنه".
أجابته المرأة في صرامة:
"كيف أكف عن البكاء من أجله، ومريم ومرثا قد انتحبتا أخيهما الميت بالجسد حتى أقامه الرب لهما؟
الأرملة تنتحب وحيدها الشاب من أجل انتقاله الجسدي، وأنا لا ابكي ابني الذي يهلك في نيران الشهوة؟
ها أنا أذهب أستعين بالكنيسة لتصلي من أجله ومن أجلي أنا أيضًا".
انصرف قريبها، أما هي فأسرعت إلي الكنيسة وهناك التقت بأبيها الأسقف، وبعدما قبلت يديه والدموع تجري من عينيها، قالت له كعادتها:
"أبي... أرجوك ألا تنسي ابني لأنه يهلك ولا يريد أن يسمع مني".
وإذ رأي الأب ارتباكها وبكاءها من أجل ابنها، أجابها في هدوء يطمئنها قائلًا:
"اتركيه كما يشاء يا ابنتي... فقط صلي من أجله إلى الله كثيرًا، إذ من المحال إقناعه بشره مع كونه من أعظم فصحاء العالم.
اتركيه يقف على حاله بنفسه.
لقد كنت أنا يومًا ما من أتباع ماني، ولم أكن فقط أقرأ كتبهم بل وأنسخها بيدي. ولكنني أخيرًا عرفت غباوتهم وتركتهم.
صلِ يا ابنتي من أجله!"
لكن المرأة ازدادت في البكاء وهي تصرخ:
"يا أبي أرجوك أن تصلي من أجل ابني..."
عندئذ أجابها الأب الأسقف:
"ثقي يا امرأة أنه من المستحيل أن يهلك ابن هذه الدموع".
خرجت المرأة، وقد عزمت في قلبها ألا تكفِ عن البكاء إلى أن تري ابنها قد عاد من ضلاله.
صديق حميم : تعرف الفيلسوف على صديق شاب، وتوثقت بينهما رباطات الصداقة حتى لم يكن أحدهما يفارق الآخر.
استطاع الفيلسوف أن يجذب صديقه الشاب إلى بدعة ماني، إذ لم يكن متمكنًا من إيمانه.
هكذا صار الصديقان متلازمين في كل شيء، من لهوٍ وترفٍ وفساٍد، وبقيا على هذا الحال عامًا واحدًا حتى مرض الصديق وأشرف على الموت.
خاف أهله عليه فعمدوه، أما "الفيلسوف" فكان يهزأ بالعماد حاسبًا إياه غسلًا جسديًا. إلا أنه لم ينطق بكلمة حرصًا على مشاعره في ساعات مرضه الشديد.
وإذ بدأ يُشفي، كان عنده الفيلسوف الذي كان يلازمه طوال فترة مرضه، وإذ به يسخر بالمعمودية.
حزن الصديق وانتهره بشدة قائلًا: "اسمع يا أخي... إن أردت أن تضع حدًا فاصلًا لصداقتي بك، فكلمني في هذا الشأن بهذه الطريقة الهزلية".
لم يفتح فاه، إذ ظن أن هذا من أثار المرض، منتظرًا إتمام شفائه ليفاتحه في الأمر. لكن الله سمح فانتقل الأخ.
حزن الفيلسوف على صديقه جدًا.
صار يجول في كل مكان كأنه يبحث عنه.
كان كأنه يتوقع من يقول له، هوذا صديقك آت عن قريب.
أظلمت الحياة في نظره حتى كره كل شيء، وفقد كل تسلية، وصار لا يلذ له إلا البكاء الدائم والتنهد المستمر.
سئم كل شيء.
نفر من الحياة والموت.
كره الظلمة والنور.
أبغض الوجود مع الناس ولم يطق الانفراد بنفسه.
لكن، مرت الأعوام، وعاد ليخضع لمديح الناس له. فأوعز إليه أصدقاؤه أن يسافر إلى روما طلبًا للمجد.
حاولت أمه أن تمنعه إذ خافت عليه لئلا يزداد في انحرافه، لكنه أوعز إليها أنه سيودع صديق له مبحرًا في المركب. وبالليل تركها
في كنيسة القديس كبريانوس وهرب مبحرًا إلى روما تاركًا إياها في دموعها.
مع القديس أمبروسيوس : طلب حاكم ميلان من حاكم روما أستاذًا للبيان، فأرسل إليه هذا الفيلسوف.
وهناك التقى بأسقف المدينة "أمبروسيوس"، الذي شمله بعطفه وهناك، فأحبه الفيلسوف وأعجب بعظاته، وبدأ يدرس الكتاب المقدس.
لكن لأجل الفصاحة لا للتمتع بالشركة مع الرب، وقد أعجب برسائل بولس الرسول، فانكب على دراستها.
سمعت أمه بذهابه إلى ميلان، فأبحرت وجاءت إليه... وكانت تحثه دائمًا على الذهاب عند القديس أمبروسيوس.
وفي إحدى الأيام، بينما كان جالسا مع أليبوس يتسامران، إذا بأحد المؤمنين الحقيقيين يدعي "بنتيسيان" وهو من كبار رجال الدولة، يدخل عليهما.
ولما جلس بينهما وقعت أنظاره علي كتاب موضوع علي طاولة اللعب أمامها، فتناوله ظانا أنه أحد كتب الفصاحة، فإذا به كتاب رسائل بولس الرسول.
التفت إلى الفيلسوف وقد ارتسمت علي ملامحه علامات العجب، ثم قال له مبتسمًا: "ما أحسن هذا الأمر الجديد، أعندكم أنتم كتابًا مقدسًا؟"
أجابه: "لا تتعجب من هذا، فإنني من مدة لم يكن لي ما يشغلني غير مطالعة هذه الأسفار المقدسة".
ثم أخذ بنتيسيان يجاذبهما أطراف الحديث عن أمر القديس أنطونيوس القبطي. وقد أطال الحديث عنه، وهما يتعجبان مما يقال فيه، واختتم حديثه قائلًا:
"إنني كنت في مدينة ترافيري أنا وثلاثة آخرون من زملائي، خرجنا للتنزه واقتربنا إلي أسوار المدينة، حيث انفردت أنا وزميلي عن الاثنين الآخرين.
أما هما فقد سارا حتى التقيا بخيمة فيها بعض المتنسكين، ولما دخلا الخيمة وجدا كتابًا عن حياة أنطونيوس، فتناوله أحدهما وجلس يقرأ فيه، فاندهش مما جاء فيه،
والتهب قلبه وعزم أن يقتدي به.
إذ ازداد قلبه احتراقًا بمحبة الله، وازدرائه للزمنيات، التفت إلى زميله قائلًا:
"بحقك قل لي ما هو غرضنا من كل ما نرمي إليه في جميع أعمالنا؟"
ثم عاد ليقرأ، وأخيرًا قال لصديقه: "لقد انتهي الأمر. أما من جهتي فقد قطعت كل حبال الآمال في العالم الزائل، وقد عزمت أن أحيا لله...
وسأبدأ الآن هنا في هذا المكان بما عزمت..."
أجابه صديقه: "وأنا أيضًا أشاركك عزمك..."
ثم أكمل بنتيسيان حديثه قائلًا:
"أما أنا وزميلي فأخذنا نفتش عليهما حتى وجدناهما في تلك الخيمة وكان عملهما هو الهذيذ في الله.
ولما رأيناهما أخذنا نبكي على أنفسنا، وطلبنا صلواتهما، ورجعنا إلى القصر، وكان قلبنا ملتصقًا بالتراب.
ولما سمعت الفتاتان اللتان كانتا مخطوبتين لهما، عزمتا هما أيضًا أن تقدما عذراويتهما للرب، وأن تسلكا مثل العذارى الحكيمات لتكونا في كنيسة الأبكار.
كان بنتيسيان يتكلم بهذا، بينما كان قلب الفيلسوف يتمزق، إذ ارتسمت في مخيلته حياته الماضية.
طأطأ رأسه، وتنهد تنهدات مرة، وبدء يستعرض نتانة سيرته أمام عينيه. وكان يقول في داخله:
"أيها الرجل الفصيح.
اضغط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت للمزيد من القصص والتأملات.
لقد جال صيتك في العالم، وتاق الكل أن يسمع كلماتك.
لكن أنطونيوس الأمي قد غلبك في حياة العفة والطهارة.
ربي، ماذا قدمت في حياتي غير الدنس والشر؟!
أنني لا أذكر طفولتي... لكنها بالتأكيد مملوءة شرورًا!
أما صباي فمرتسم أمام عيني. كيف أنسي أنني أحببت "اللاتينية" وكنت أهوى القصص الخليعة.
كنت أبكي عشيقة ماتت حبًا بمعشوقها، ولم أكن أنتحب نفسي التي أهلكتها بعدم حبي لك يا عريس نفسي!
اندفعت لأشرب السم من تلك القصص الماجنة المملوءة دعارة.
كنت أهتم كيف أرضي معلمي ولا أهتم كيف أرضيك!
كنت أكذب في لعبي مع أصدقائي، إذ أريد أن أكون غالبًا ولن أقبل قط أن أكون مغلوبًا.
أما وقد انتقلت إلى سن الشباب، فإنه لم يكن يحلو لي إلا أن أكون عاشقًا ومعشوقًا.
لكل حبٍ حدود، ولكل شهوةٍ نهاية، أما أنا فلم أكن أعرف للهوى حد، إذ كان الدخان المتصاعد من براكين شهوات جسدي يعمي عيني.
كنت أرتكب الفحشاء، لا لإشباع شهواتي فحسب، بل ولكي أزهو بها بين أصدقائي. أقص عليهم شرورًا لم أرتكبها، وأحدثهم عن عشيقات هن من وحي خيالي.
مرة جمعت زملائي، وخرجت بالليل أسطو على بيت جارنا لكي أسرق الكمثرى من الشجر وألقي بها للخنازير. كل هذا لكي أكون عظيمًا في أعينهم!
وفي هذا كله، كانت أمي، أمي التقية كانت تكلمني وصوتها على ما أظن هو صدي صوتك.
كانت تلح علىّ بشدة لتمنعني.أما أنا فما كنت أعيرها اهتمامًا، ولا اكترثت بأقوالها، لأنها أقوال امرأة. حال كونها صادرة من عندك!!
أما في قرطاجنة فقد أحاط بي ربات الهوى كما يحيط السوار بالمعصم. ولم تكن لي لذة إلا أن أكون عاشقًا ومعشوقًا...
آه يا ربي! كم من شرور ارتكبتها، حتى في المعابد المكرسة لخدمتك؟!
قرأت كتب شيشرون، فأحببت الحكمة، واشتقت لو أُعطي لي جناحان أطير بهما إليك بعيدًا عن الأرضيات. لكن لم تخلو هذه الكتابات من بعض الضلالات التي أخمدت اشتياقي!
أسرعت إلى الكتاب المقدس، لكنني نقدته نقدًا خبيثًا. أغلقت على نفسي بابك يا إلهي بفساد حياتي، إذ تجاسرت وبحثت بكبرياء عنك يا من لا يعرفك إلا المتواضعون!
وبينما كنت هالكًا، ظننت أنني قادر على الطيران، فتركت العش وسقطت قبل أن أتعلم الطيران – إذ سقطت في بدعة ماني - وهوذا أنت يا إله الرحمة تنتشلني حتى لا يطأني المارة بأقدامهم حتى الموت، وتضعني في العش ثانية!"
في وسط دوامه هذه الأفكار تطلع أغسطينوس إلى أليبوس وصرخ في وجهه:
"وماذا نعمل نحن؟
ما هذا الذي نسمعه؟
أيستيقظ السذج الأميون ويسرعون إلى اختطاف ملكوت السموات، ونحن معشر العلماء الحكماء نتمرغ في وحل النجاسة والدنس؟!
لماذا نخجل من اللحاق بهم؟!
هل لأنهم سبقونا؟!
أما نخجل بالأولي لعدم إقتدائنا بهم؟!
ثورة في البستان : نطق بتلك الكلمات ثم اندفع لاشعوريًا إلى بستانٍ مجاور لمنزله.
تعجب اليبوس، وخرج يقتفي آثاره، فإذ به يجده مرتميًا على جذع شجرة تين وهو يصرخ قائلًا:
"عاصفة شديدة... دافع عني!
وأنت يا رب فحتى متي؟! إلى متى يا رب؟!
أتغضب إلى الأبد؟!
لا تذكر علينا ذنوب الأوليين، فإنني أشعر أنني قد استعبدت لها.
إلى متى؟! إلى متى؟! أإلى الغد؟!
ولماذا لا يكون الآن؟!
لماذا لا تكون هذه الساعة حدًا فاصلًا لنجاستي؟!
لقد كنت قبلًا أناديك: "يا رب أعطني الوداعة والعفة، ولكن ليس الآن".
كنت أخاف أن تستجيب طلبتي، فلا أعود أتمتع باللذة!
كنت أحب مجالسة الأشرار لا الجلوس معك!
أحببت كتب الفلاسفة ولم أكن أتوق إلى كتابك!
والآن إن قلت لك توبني غدًا، فلتسمح أن أتوب الآن!
وبينما هو يبكي سمع صوت طفل يردد "خذ وأقرأ...".
قام وأخذ معه اليبوس وفتح رسائل بولس الرسول فإذ به يجد القول: "قد تناهي الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور..." (رو12:13.)
أخذ يردد القول، ثم قام مع اليبوس يبشران الأم التي عاشت باكية ما يقرب من عشرين عامًا لأجل تلك الساعة.
ارتمت الأم على عنق ابنها وصارت كما في غيبوبة تذكر تلك الكلمات التي قالها لها الفتى في الرؤيا: "تعزي ولا تخافي. فها هو ولدك هنا وهو معك..."
نعم لقد طال الزمن... لكن مواعيد الله تبقي ثابتة، في أوانها.
لقد أتت اللحظة التي طالما ترقبتها السماء لتفرح بذاك الذي كان ضالًا فوجد وميتًا فعاش...
فاقت الأم لتجد نفسها تعانق ابنها وتقبله بدموع غزيرة...
أخذت الأم ابنها وابنه (غير الشرعي) ديداتيوس واليبوس وذهبت بهم إلى القديس أمبروسيوس ليسجدوا شكرًا لله ويعترفوا بخطاياهم ويستعدوا لسرّ العماد والتقدم إلى التناول.
أغسطينوس قد مات! إذ كان الفيلسوف التائب يتأمل في حب الله للخطاة، وترفقه بالضعفاء، وطول أناته مع كل إنسان، إذ بالباب يقرع. سأل عمن بالباب،
وعرف القارع، عندئذ قال: "من تطلبين؟"
أجابت: "أغسطينوس".
عندئذ قال: ”أغسطينوس مات".
دهشت المرأة من تلك الإجابة، إذ قالت: "الصوت صوت أغسطينوس، فكيف تقول أن أغسطينوس مات؟"
أجابها أغسطينوس "يا أختي... أغسطينوس الذي تطلبينه قد مات، أما الذي يحدثك الآن فهو يسوع العامل في قلب أغسطينوس".
لم تصدق المرأة نفسها، إنما أسندت رأسها على يدها ثم بدأت تفكر نفسها.
"ما هذا الذي أسمعه اليوم؟! أنه ليس كعادته!!
أليس هذا أغسطينوس الذي كان يتوق إلى سماع صوتي!
أليس هذا الذي كان يتمرغ لاهيًا في الفجور معي!
أغسطينوس الذي ما كان يستطيع أن أغيب عنه يومًا واحدًا!
أغسطينوس يرفضني! ولا يريد حتى أن يفتح الباب ليتفاهم معي!...
ماذا؟! بالحق هو مات... إنه ليس أغسطينوس الذي كنت أعرفه...
لكن المتكلم هو يسوع العامل فيه!!
أهكذا يا يسوع تقدر أن تميت الخطية وتقتل الدنس وتنزع الشهوات وتلهب القلب بالعفة، حتى يرفض ذلك الفاجر مقابلتي؟!
والآن... لماذا لا تقتل شهواتي أنا أيضًا لأتمتع بك وأحيا فيك واختبر العفة كما يحيا أغسطينوس اليوم؟!
انطرحت المرأة عند الباب باكية، وفي ندم صاحت:
"وأنا أيضًا أريد يسوع... يسوع... يسوع...!"
أنتقال القديسة مونيكا : أقام أغسطينوس مع بعض أصدقائه ستة أشهر في كاسيكاسيوم بجوار ميلان يتأهب لقبول سرّ العماد، وكان معه أمه مونيكا وأخيه وابنه ديداتيوس وأليبوس...
وكان الكل يسترشد بالأسقف أمبروسيوس.
وفي ابتداء عام 387 م. عاد إلى ميلان حيث اعتمد هو وابنه وصديقه على يد القديس أمبروسيوس.
سافر القديس مع والدته وأخيه وابنه وصديقه إلى أوستيا منتظرين السفينة للعودة إلى بلادهم.
وفي أوستيا كان موضوع تأملاتهم هو "ملكوت الله وانتظار مجيء الرب الثاني" وبينما كانت قلوبهم ترتفع في السماويات، إذ بالأم تختم حديثها بقولها لأغسطينوس:
"يا ابني، لا يسعدني شيئًا ما في هذه الحياة بعد.
ماذا لي بعد أن افعل، فإنني أبغض الزمنيات؟!
وإنني أعتقد أن الله قد أمد من حياتي هنا لسبب واحد. وهو أن أراك قبل أن أموت مؤمنًا مخلصًا، ومسيحيًا بالحق!
هوذا الله الغني قد أبقاني حتى رأيتك خادمه الأمين المحتقر للزمنيات.
فما هي رسالتي بعد؟! ولماذا أبقى؟!"
وبعد خمسة أيام من قولها هذا مرضت بحمى شديدة وأغمى عليها. وإذ أفاقت وجدت ولديها في حزنٍ عميقٍ فقالت لهما.
"أينما مت ادفنا والدتكما".
قالت هذا لأنه قد زالت عنها رغبتها الأولى أن تُدفن مع زوجها في القبر الذي أعدته.
أجابها ابنها تافيخوس: "لا تقولي هذا يا أمي..."
تطلعت إليه الأم وفي عتاب وجهت الحديث إلى أغسطينوس:
"أنظر يا أغسطينوس ماذا يقول أخوك تافيخوس.
يا بني لا تهتما أبدًا بأمر جسدي، بل ادفناه حيثما يكون، فإن هذا ليس بذي أهمية عندي.
لكنني أسألكما أمرًا واحدًا، وهو أينما كنتما اذكرا والدتكما على مذبح لله!
وإذ نطقت بهذا أغمضت عينيها ورفعت قلبها إلى الله مصلية وأسلمت روحها الطاهرة.
حاول أغسطينوس ألا يبكي لأجل الفراق الجسدي، لكن دموعه تفجرت من عينيه بغير إرادته، وهو يقول:
"ألا يجب أن أسلم نفسي للدموع ساعة واحدة من أجل تلك التي كانت من أجلي تعوم فرشها كل يوم بالدموع ساعات؟"