مشهد واحد لا ثاني له نراه ونحن نجول بنظرنا على أسطح الأبنية القديمة والحديثة في دمشق، كتل حديدية مصفوفة تشبه الصحون الطائرة ولكن ميزتها أنها لا تطير إلا عندما تهب العواصف والرياح الشديدة وإن حدث ذلك فلن تكون رؤوس المارة ولا السيارات في منأى عنها.
دخل مع بداية الستعينيات وانتشر بسرعة كبيرة بعد أن فكت قيوده المادية من قبل المحتكرين والتجار فكانت صحونه كأسراب الغربان السوداء على جميع الأسطح، ودخلنا معه عهداً جديداً من الانفتاح العالمي حملت رياحه الكثير من التغيرات في المجالات كافة.
توسيع للأسواقبدأنا مع الظاهرة منذ اللحظات الأولى فكان الحديث عن التأثيرات الاقتصادية التي تسببها القنوات الفضائية المتخصصة على حياة الناس بشكل عام وانعكاساتها على معيشتهم من جانب وعلى المهتمين والمتخصصين من جانب آخر.
ونقلت الثورة عن عبد الحميد الهاشمي - أستاذ الدراسات والتوثيق قوله إن المجتمع كان منغلقاً وغير منفتح إعلامياً ووجود تلك القنوات المتخصصة وسع الأفق لدى الناس ليس في سورية فحسب وإنما في كل أنحاء العالم.
ويضيف إن هذا النوع من الأجهزة له تأثير سلبي وإيجابي كأي تقنية حديثة، وبشكل أو بآخر ينعكس على حياة الناس، والقنوات الكثيرة التي تبثها الفضائيات تعتمد على الدعاية الإعلانية وتروج لبضائع معينة ومهما كانت أنواعها فهي تكسب المال لها وللأشخاص الذين يروجون لها وتهم فئات من الناس
ولاسيما رجال الأعمال أو الأشخاص الذين يريدون تطوير مجالات عملهم ويجدون في تلك القنوات باباً واسعاً لهم.
إضافة إلى أن ملاييناً من الناس أصبحوا يشاهدون تلك القنوات التي تقدم الخدمات في كل أنحاء العالم ولم تقتصر على بلد معين وهذا بدوره خلق نوعاً من التقارب من ناحية العادات الاستهلاكية للشعوب وأصبحنا نعرف الكثير عن تلك العادات، إضافة إلى جانب مهم جداً، إن تلك القنوات ساعدت على فتح وتوسيع الأسواق من خلال التوسع بمجالات التجارة والتعرف أكثر على مجالات خاصة ومتعددة لعمليات التسويق، والحصول على المنتجات الجديدة عن طريق بث كل ما يتعلق بالمنتج وكيفية صنعه وتوفيره.
تصدير للسياحة
وهو كغيره من المنتجات الجديدة حاول الناس امتلاكه لأن التعرف على كل شيء جديد هو من طبيعة البشر، فهو لم يساهم بالتعريف بالمنتجات العالمية فقط، بل ساهم بالتعريف بمنتجات البلد نفسه، وخاصة المنتجات السياحية من خلال البرامج السياحية التي تبثها القنوات الفضائية، وساعدت على التعريف بالمواقع الأثرية والتاريخية المهمة، فلعبت تلك القنوات دور المروج لها سياحياً وهذا بدوره ينعكس إيجاباً على الوضع السياحي والاقتصادي ويشجع على زيارة تلك المواقع والتعرف عليها من قبل السياح العرب والأجانب.
منظر آخر غير سياحي
حديثنا هذا عما تقدمه لنا هذه الفضائيات عبر قنواتها ولاسيما المتخصصة منها سواء كانت غايتها تسويقية أم إعلانية من برامج لها انعكاسات إيجابية على الجانب الاقتصادي والسياحي لأي بلد كان، وأهمه الجذب السياحي.. ولكن بالمقابل..!! إذا نظرنا إلى الوجود العشوائي والكثيف لتلك الصحون القابعة على أسطح الأبنية لوجدنا أنها بعيدة كل البعد عن موضوع السياحة والجذب وأنها أيضاً تخلق كماً هائلاً من الأذية والتشوه البصري.
وهذا بدوه يجعلنا نتساءل عن إمكانية إيجاد بعض الحلول لتلك المشكلة وعن فرض آلية معينة في عملية وضعه على أسطح الأبنية كأن نستبدل تلك الصحون بصحن مركزي لكل بناية أو عمارة بحيث يخدم كل الشقق الموجودة فيها كما هو موجود حالياً على بعض الأبنية الحديثة والفنادق.
انخفاض سعرهوبالعودة إلى الحديث عن آلية دخوله وأسباب انتشاره السريع يتابع الهاشمي: بداية كان دخوله بشكل غير نظامي من بعض الدول المجاورة وكانت أسعاره مرتفعة جداً بلغت 80 - 100 ألف ل.س ولكن بسبب انتشاره السريع والطلب المتزايد عليه وتصنيعه محلياً من قبل شركة سيرونيكس التي تستخدم قطعاً محلية ذات نوعية جيدة والسماح باستيراده، كل هذا ساعد في انخفاض أسعاره حتى بلغت 2500 - 3500 ل.س لأفضل منتج له، وهذا بدوره ساعد على انتشاره بين جميع الناس حتى أصبح وجوده بالمنزل أمراً طبيعياً.
ما يخص المستهلكأما فيما يخص المخالفات التي تقع على المخالفين والمتعاملين مع تلك الأجهزة وفيما يخص حماية المستهلك، هي كغيرها من الأجهزة الإلكترونية يطبق عليها ما يطبق على البقية من ناحية وجود الفاتورة النظامية لدى البائع أو التاجر هذا ما أكده لنا المهندس عماد أصيل مدير حماية المستهلك وأضاف: نقوم بتدقيق المعلومات الواردة على بطاقة البيان ونجري مخالفات تموينية على هذه السلع في حال عدم وجود الفاتورة وبطاقة التعريف .. ونتابع موضوع توزعها في المحافظات ووصولها إلى المستهلك، وفي حال وجود شكوى تخص الستالايتات، نشكل لجنة ذات خبرة لتدقيق الشكوى ولمعرفة السبب إذا كان الفعل الذي حصل من التصنيع أو من استعمال المستهلك، وعلى هذا الأساس تتم الإجراءات القانونية اللازمة، ونقوم بتدقيق السلع التي دخلت القطر وعند الكشف على أن دخولها غير نظامي نعلم الجمارك بذلك، لأنه من اختصاصها وعقوبة التهريب والمصالحة باهظة وتكلف أضعاف المادة، وتختلف عن العقوبات التموينية.
أثّر على ثقافتناكيف تسلل بسهولة بيننا وانتشر بسرعة حتى تمكن منا وأصبحنا لا نفارقه، نحن الجيل الذي عاصره؟ فماذا عن الأجيال التي تربت عليه، هل أثّر على ثقافتنا ونمط علاقاتنا؟ وما الذي أضافته الفضائيات على الجانب الثقافي وهل من الممكن رقابتها ووضع ضوابط لها؟
عمار حامد - الناقد السينمائي في وزارة الثقافة يقول: كانت هناك معارضة له في التسعينيات، فريق عارض الأشياء التي تعرضها المحطات على أنها لاتتناسب مع عاداتنا وقيمنا، والآخر تعامل معها بإيجابية أكثر، ورغم هذا فقد انتشر انتشاراً واسعاً سواء كان بهدف التسلية أو المعرفة والثقافة.
ويضيف: إنه تعامل مع هذه التقنية بناء على آراء الأصدقاء بوجود محطات فضائية تعرض حول العالم الكثير مما لا نراه على التلفاز الذي يبث برامجه على محطتين أرضيتين فقط.
واستمرت علاقتنا به حتى أصبح جزءاً من حياتنا ككل وعلى مستوى العالم سواء أكان سلباً أم إيجاباً وتعودنا على حضوره في المنزل، ورخص سعره في الآونة الأخيرة سهل وجوده في كل غرفة في المنزل.
عهد جديدونحن بهذا دخلنا عهداً جديداً في الإعلام وفي الثقافة المرئية، وعهداً من التحول الاجتماعي والأخلاقي في أسرنا ومجتمعنا وحتى جيلنا الذي عاصر التلفاز الأرضي والفضائي، فكان حلقة وصل بينهما ويمكننا القول حسب عمر وجود الستالايت إنه لدينا جيل تربى على الفضائيات وجيل يتربى عليه حالياً.
ومن الطبيعي أن يؤثر على نمط العلاقة بين الأجيال وحسب رأي حامد أن التلفاز كان سابقاً أخلاقياً أكثر مما عليه الآن وتتحكم به الضوابط والقوانين التي تحكم المجتمع, ولكن مع الانفلات اللا أخلاقي أصبح لا وجود لتلك الضوابط والقوانين وأصبح الفن للإثارة الغرائزية وليس الإثارة الفنية.
من وراء كل هذا؟ويرى حامد: كان المعول على الفضائيات أن يكون لها الطابع الثقافي ولكن معظم أصحاب الأموال أرادوا لها أن تكون ترفيهية وليست ثقافية،
ويحاولون إيجاد توازن بين الفن واللافن والأخلاق واللا أخلاق ولهذا نجد قنوات تعنى بالفن الراقي.
وعلى هذا يجد أن الفضائيات لم تضف أي ثقافة أخرى سوى الثقافة المرئية الإعلامية وطغت الثقافة الإعلامية السياسية على الثقافة الأدبية وعلى الشعر والأدب والرواية حتى على المسرحيات، فالكثير من المسرحيات الجديدة لم تعرض، بل تعرض مسرحيات الدرجة الثانية والثالثة، ولم نستفد من القيمة الأدبية منه بشيء إلا ما ندر ولكن استفدنا كثيراً من السياسة وذلك حسب مصالح هذه المحطات الفضائية وحسب أهواء مموليها.
زمن الانفلات الرقابيوحسب وجهة نظره أيضاً، يرى أننا نعيش زمن الانفلات الرقابي ولا يمكن الحديث عن رقابة بوجود 400 - 500 محطة عربية، ويرى أنها جعلت الناس أكثر وعياً من الناحية السياسية وجعلتهم يميزون بين الغث والسمين وبين الخبر الصادق والكاذب، ولم يعد للفرد رؤية أحادية، بل تنوعت الرؤية، ولكن للأسف انتشرت ثقافة العنف ولاسيما عند الطفل الذي أصبح يرى العنف في الأخبار السياسية وأفلام الكرتون التي أصبحت حولنا لمدة 24 ساعة.
قطعت الروابط الأسرية
الدكتورة هناء برقاوي أستاذة في كلية الآداب قالت: منذ البداية كان هناك تشوق لامتلاك هذه التقانة في مجتمع اعتاد الناس فيه على أخذ المعلومات والتسلية عن طريق اللاقط العادي، فكان الستلايت فرصة لأن يرى الناس ماذا يحدث في الدول المجاورة والدول البعيدة على تنوع ثقافاتهم.
ولكن على الرغم من أهمية هذه القنوات وعدم إنكار دورها الإيجابي إلا أنها خلقت انقسامات بين أفراد العائلة «فقد تعددت الخيارات وتعددت الآراء» بينما كان الجميع مضطراً لرؤية ما يعرض، ومن هنا بدأت المشكلات والخلافات حول اختيار البرامج والقنوات، وهذه الظاهرة ولدت ظاهرة أخرى وأصبحنا نعاني منها الآن وهي غياب القراءة والكتاب حيث حلت محل القراءة ثقافة القص واللصق، فلم يعد جيل الستلايت يبحث عن الثقافة الجيدة.
المتاجرة بأذواق الناسبالطبع غالبية ماتبثه شاشات الستلايت يتبع لأهواء ولمصلحة الجهات الممولة، ومن هنا بدأت بعض القنوات بالمتاجرة بالبرامج وكان ذلك سبباً في تغيير الكثير من سلوكياتهم وعاداتهم وحتى في مشاعرهم تجاه القضايا المهمة وفي نظرتهم للعلاقات الأخلاقية والإنسانية داخل الأسرة وفي المجتمع.
تكريس للأمية الفكريةهناك جوانب عديدة تتعلق بالأطفال والشباب فكيف كان التأثير التربوي؟ تجيبنا الدكتورة البرقاوي أن هناك هوة ساحقة بين ما يشاهد على هذه القنوات وبين الأهداف التربوية، فمن الجانب البدني والعقلي يجلس هؤلاء أمام الشاشات ساعات طويلة، ما يؤدي إلى اعتلال الصحة مع الخمول الذهني وتعطيل الذكاء حيث تتسطّح وتضمحل الثقافة وتسكن محلها ثقافة وافدة وبالتالي تكريس لأمية الفهم والقدرة على المحاكاة والموازنة.
أما من الجانب النفسي فإن أطفالنا وشبابنا وبسبب ما يعرض عليهم من برامج محشوة بالعنف والخوف والأفلام المرعبة، ينعكس ذلك على حالتهم النفسية وشخصيتهم وحتى علاقتهم مع أفراد الأسرة ومع الأصدقاء، وبالتالي قتل الاحساس بالجماعة لأننا حتى أثناء تناول الطعام توجد متابعة للقنوات.
تراجع التحصيل العلميأوضحت الدراسات التربوية أن الأوقات الطويلة التي تستغل لمتابعة القنوات لها أثرها السلبي في متابعة الدروس والتحصيل العلمي، ما يؤدي إلى تدني المستوى الدراسي.
وتؤكد الدكتورة برقاوي أن ذلك يرافقه تدن في مستوى القدرة على ممارسة الأنشطة الاجتماعية وتقوية حس الجريمة والسلوكيات السيئة نتيجة عدم المراقبة لما يعرض.
العزلة والاستغلالبالإضافة إلى ما تكرسه هذه البرامج والمحطات من اختلافات وانقسامات هي أيضاً تكرس نوعاً من العزلة الاجتماعية وتروج للكثير من الأفكار والمهن التي كانت مرفرضة اجتماعياً، والبرامج التي عودت المشاهد على استسهال نوعية العمل للحصول على المال جعلت كل المهن مقبولة حتى أصبحنا نشاهد أشخاصاً مثقفين يدخلون مسابقات الأغاني والرقص بحثاً عن الشهرة والمال.
أين المشكلة؟تقول الدكتورة رشا شعبان مديرة البحوث العلمية في وزارة التربية: إن المشكلة ليست في الوافد الجديد القديم، وليست في التطور العلمي، فهي وجدت لإسعاد البشر، وعلينا إذاً أن ننطلق من أسباب وجودها، وبالتالي الأساس في هذه الظاهرة وما خلقته من تداعيات يعود لطريقة التعامل مع المادة الجديدة كما تعود للقيم والأخلاق والعقول التي تتعامل معها، فهناك هوة بين التقدم التقني والتقدم المادي والفكري والثقافي وهناك مشكلة بالأشخاص والشركات التي تتولى إدارة هذه التقنيات من تبعية وأهداف مادية وغيرها من المسائل التي حولت الستلايت إلى عبء على المجتمع في غالبية جوانبه.
لا ننسى الإيجابيات :وتؤكد شعبان أنه علينا ألا نغفل الجوانب الإيجابية ولا ننسى كيف تعمل الفضائيات على نقل الأخبار والأحداث مباشرة من أي بقعة في العالم وساعدت في نقل العلوم والاكتشافات الحديثة وتحريض عقل الشباب تجاه معرفة الآخر.
وفي ساحة التأثير والتأثر التي تولدها الظاهرة ننتقل للحديث عن مسألة المنع والحجب كأحد الحلول، وهي التي لم ير فيها جميع من سألناهم أنها صحيحة، لأننا أمام جيل لانستطيع منعه من التعامل مع التقنيات الحديثة، فالمنع لا يجدي، بل المشاركة لهذا الجيل في الحوار وانتقاء البرامج والتمكين من ترسيخ القيم والثقافات الإيجابية وتنمية حس المسؤولية هي الأساس في الحماية والتخفيف من الخطر، لا حل مع عدم شراء الستلايت أو اغلاق القنوات بل في مشاركة الأبناء ونقل التفكير الصحيح لديهم، في ظل فلتان الرقابة العامة وخروج هذه القنوات عن كل القيود الإيجابية أو السلبية.
نقلا عن موقع سانا للأنباء