كان المشهد غريبا جدا ...
الذي حدث من الصعب تصوره ولا حتى في أفلام هوليود...
ولكن مع صوت فيروز وأغنية ورقو الأصفر شهر أيلول...
كل شيء يمكن أن يحدث ..لأنه صوت قادم من السماء ..
ولكن متى ....إنه نهاية فصل الصيف ..
وبمناسبة خاصة جدا ولكن في صالة الأفراح....
حيث الجموع الغفيرة أحتلت كل الكراسي بحسب الطاولات المرقمة
بعد أن زينت الصالة بكل ماهو جديد ومبتكر...
وقسم من المعازيم سينتقل من الدير إلى الصالة بعد أن قدموا التهاني للعروسين ..
والفرقة الموسيقية على أكمل جاهزيتها ...
وحانت ساعة الصفر...خفتت الإضاءة...هدأ هدير الأصوات المتمتمة...تلعلت أصداء ضربات طبول الزفة...
دخلوا العرسان............
واجتاحت الإبتسامات شفاه وعيون الحاضرين الذين تأهبوا استقبالا لنجمي السهرة، فمنهم من أخذه حماسه لاستقبالهما مرندحًا راقصًا على الباب
ومنهم من اكتفى بالوقوف والتصفيق والمراقبة من البعيد...
اقتربت من العروس لتراها عن كثب... باحثةً عمَا يدور وراء ذلك الفستان الأبيض الذي اكسبها براءة، إشراقًا وثقةً لم ترها فيها من قبل...
تفتش عمّا يجعل ذاك الثوب الهائل قطعة حرير ملقاة على جسدها...تتأمل ذلك الحذاء الذي ترقص وتتمايل به وكأنّها حافية القدمين...
تراقب نظرات الحاضرين...من نظرات فخر، لنظرات رضا، لنظرات غيرة للامبالاة...
انتهت الزفة...وعادت إلى طاولتها...زارعة تلك البسمة على وجهها...
كان ذلك درس تعلمته من الحياة: ابتسامة مشرقة على الوجه هي المفتاح لكل القلوب والأقفال وحتى لأكثرها صدءً...
جلست إلى جانب ذلك الكرسي... الكرسي الذي ملأه فارس أحلام كل فتاة...
الكرسي الذي يفترض أن يملأه شخص يضع في إصبعها ذلك المحبس ويعدها بذلك الفستان...
تجلس وتتحدث معه ومع الحاضرين ملقية العبارات المسلية والمزاح اللين محاولة خلق جو يتجاوز رغبة الحاضرين
بإبراز كل لهيبته وتفوقه على سباق وقهر لنفسه بإقناعها ببرجوازيته التي تنهال عليه فجأة في مناسبات كهذه...
تخترقها الوحدة...تلك التي لا تشعر بها إلأ عند رؤيتها لعروس أمامها...تلك التي لا تزورها سوى على أنغام كلمات:
"غناني الأفراح غنيلن
مرافق يا حب لياليهم
يا رب الكون هنيهن وزيدن حنين
عقبال العايزين يا حبايب عقبال العايزين "...
تلك التي لا تزورها بدون مرافقة الحزن والحسرة...
واقتراب "مالئ الكرسي" منها ليلقي بكلمة " أحبك" في أذنها تزيد من عزلتها....
فتواصل النظر إليه مبتسمة وكأن ذلك التعبير بات البديل والجواب وردة الفعل الوحيدة على كل ما يعجبها أو ما لا يعجبها...
وهو يتابع التأمل فيها والاقتراب منها كمن يتعمّد إستفزازها...
كمن يعبث بها بكلام لا يقال إلا صمتًا...وبقبضة يد ملازمة أناملها ومتحرّشة بحريتها...
" سنرقص هكذا أنا وأنتِ...."....
ولشد ما عانت من صعوبة في تخيّل ذلك المشهد الذي أمرت حواسها الخمسة بالإجتماع لتجسيده أمامها...استأذنت من الحضور تاركةً السهرة في منتصفها...
وفي طريق عودتهما إلى منزلها، كان الصمت موسيقار ينغّم على تجنّبه لسؤاله عن سبب انزعاجها ويناشد على دعوتها للإبقاء على ما في داخلها سرًّا...
لكنها رفضت ...وطلبت أن يوصلها إلى المنزل بالسيارة التي مازالت مزينة وسقفها مكشوف...
أستلقت في المقعد الخلفي ....ونظرت إلى السماء ...وتنفست بعمق...
فأنتفض كل هواء إيلول من حولها ..متغلغلا في شعرها ومن تحت فستانها ملامسًا كل جزء من جلدها الذي أدفأ صقيعه وزاد هديره...
كانت تحاكيه...تسأله عن ذاك الذي يشبهه...أين أراضيه...أين تلاقيه... إلى متى ستواصل البحث عنه...ومن أين هو جاء
لمَ لا يشبه نظرائه من رياح الفصول التي تأتي مرّة كل سنة...وإن كان سيمرّ مرّة في العمر...متى ستأتي تلك المرّة...
فلم يعد يجديها أن تدخل غرفتها مثل قبل وتكدّس فوق رأسها الوسادات وتصرخ ما شاء لها من صراخ.....
ومع صوت فيروز
ورقو الأصفر شهر أيلول
تحت الشبابيك
ذكرني و ورقو دهب مشغول
ذكرني فيك
رجع أيلول و أنت بعيد
بغيمي حزيني قمرها وحيد
بيصير يبكيني شتي أيلول
و يفيقني عليك يا حبيبي
ليالي شتي أيلول بتشبه عينيك
يا ريت الريح إذا أنتا نسيت حبيبي
أول الخريف و ما جيت
ينساها الحور و قمرها يغيب
و ليلا يطول
و نبقى حبيبي غريبي و غريب
أنا و أيلول
ومع هواء أيلول العنيف....ورحمة السماء مع صوت فيروز..الذي احتفلت فيه بعرس حريتها...بعرس صدقها لقلبها...
هواء أيلول الذي جعلها تطير انتفاضةً وترمي بكل المحابس سخريةً...وتفسخ كل العهود استهزاءً ....
وتقفل كل الملفات إقفالا لا أغلال له...لا مفتاح له...إقفالا يفتح كل الطرقات باتجاه واحد...
يعلن أن حبها وحده هو الرباط المقدّس...وأن عشقها هو أقدس المفارق وأقصرها إلى إيمان كامل لا تعيقه ظروف ولا تهزه مطبات...
وصرخت بأعلى صوتها ... إرحل إلى المكان الذي جئت منه...
وأتركني أصلي أنا وأيلول....
..................
_________________