تعود «صيدنايا» إلى الآرامية، ومعناها «سيدتنا» أو «أراضي صيد الغزلان». وتتمتَّع بشهرة عالمية اكتسبتها بفضل طبيعتها الجبلية، ومقدَّساتها الدينية المشهورة.. حتى إنَّ بعض التاريخيين يصنِّفونها على أنها ثاني مدينة مسيحية بعد القدس؛ حيث تكثر في هذه البلدة، التي تعود إلى عصور قديمة، الأديرة والمقدَّسات..
دير السيدة.. أعرق مؤسَّسات الرهبنة الأرثوذوكسية
قصة رهبنة مستمرَّة منذ القرن الخامس إلى اليوم، لم تنقطع حياة الرهبنة في دير السيدة، الذي تشتهر به صيدنايا؛ فهو إحدى أعرق مؤسَّسات الرهبنة الأرثوذوكسية في العالم. ويتربَّع الدير التاريخي في أعلى قمم قرية صيدنايا، على شكل سلسلة أقبية وقاعات حجرية عتيقة تعلوها ثلاثة أبراج تزدان بأجراس الكنيسة.
ومع توالي الأيام، تحوَّل الدير إلى متحف كبير يضمُّ عدداً كبيراً من الأيقونات والرسومات الجدارية في منتهى الجمال. أما أبواب الحجيرات والقاعات، فهي الأخرى تبدو لوحات خشبية فنية تزدان بأعمال نثر ونحت أُنجزت بدقة فائقة وببراعة. وفي جنبات الدير، أُودعت كؤوس حجرية وأجاجين فخارية كبيرة كانت تُستخدم مخازنَ للزيت والمؤن.
أيقونة السيدة العذراء (الشاغورة المقدَّسة)
وتبقى الأيقونة الأهم، التي كانت سبباً في تشييد الدير، محجوبة عن أنظار الراهبات والزائرين، بعدما أُودعت في صندوق خشبي مغلق يسمح بمشاهدته عن بعد والتبرُّك منه والصلاة بجواره. وفي الصندوق توجد أيقونة السيدة العذراء، وهي واحدة من النسخ الأربع الأصلية للأيقونات التي رسمت بيد الرسول لوقا البشير، وتُعرف بـ»الشاهورة» أو «الشاغورة» ومعناها «ذائعة الصيت».. ومنذ العصور الوسطى، كان الحجاج يتوقَّفون وهم في طريقهم إلى الأراضي المقدسة في صيدنايا للصلاة أمام (الشاغورة). الجدير بالذكر، أنَّ الدير في ذاته مؤسسة رهبانية أرثوذكسية تابعة إلى مركز البطريركية الأنطاكية في دمشق، وفيه نحو خمسين راهبة ترعاهن رئيسة، بالإضافة إلى مدرسة لليتامى البنات تضمُّ أكثر من أربعين يتيمة ينفق على تربيتهن ورعايتهن من أموال المتبرعين. كما توجد مدرسة ابتدائية تابعة إلى الدير تتَّسع لـ125 طفلاً. ويوجد أيضاً أراضٍ زراعية تابعة للدير تستخدم قسم من مزروعاتها في الدير، والفائض يباع وتدفع منه أجرة الفلاحين الذين يعملون في هذه الأراضي. وفي الدير مكتبة تضمُّ المئات من الكتب والمخطوطات الثمينة.
قصة بناء دير السيدة
يروي المؤرِّخون أنَّ الإمبراطور البيزنطي، يوستنيانوس الأول، لمَّا خرج بجيوشه لمهاجمة الفرس، مرَّ بطريقه عبر سورية، فوصل إلى صحرائها، حيث عسكر الجند مع خيولهم ومعدَّاتهم، ولكن ما لبث أن فتك بهم العطش، نظراً إلى قلة المياه في تلك البقاع. وفيما هم على هذه الحالة المؤلمة، إذا بأنظار الملك تقع على غزالة شهية للصيد، فأخذ يطاردها بحماسة شديدة، حتى إنَّ التعب كاد ينهكها فوقفت على تلة صخرية، ثم اتَّجهت صوب ينبوع ماء عذب متدفِّق رقراق . وهناك لم تترك الغزالة للصياد أيّ فرصة ليسدِّد إليها سهامه، بل ألهمته بتشييد كنيسة.. وبعد عودة الملك من رحلته، قصَّ على معاونيه ما شاهده من إلهام ببناء كنيسة، وأمرهم بوضع تصميم للكنيسة المنوي إنشاؤها.
ولما انقضت مدة ولم يتمكَّن المهندسون خلالها من الإجماع في الرأي على خريطة موفَّقة، عادت الغزالة ثانية وظهرت ليوستنيانوس مرة ثانية في الحلم، وأرشدته إلى تصميم فخم. ويقال إنَّ هذا الرسم يمثِّل نفس الهندسة التي بني عليها هذا الدير الشريف، الذي لا يزال إلى اليوم محتفظاً بعظمته وجماله البيزنطي.
تستحق الزيارة
تشتهر صيدنايا بأديرتها التاريخية، ويعدُّ دير مار توما من أضخم الآثار الرومانية الموجودة في المنطقة، وهو يقع على الجبل المطلّ على صيدنايا من ناحية الشمال، ويبعد حوالي 2 كم، فيه آثار ومدافن ومغاور، وأهمها مغارة الديوان الكبير، وكانت مكاناً لاجتماع الرهبان، ودرجه محفور بالصخر، وعلى جدران الكنيسة بعض الرسومات والكتابات اليونانية.
تعدُّ معرة صيدنايا من المصايف الجميلة، وهي تعني باللغة الآرامية «مغارة صيدنايا»، وتكثر فيها المغاور والكهوف.
يوجد في معرة صيدنايا مقام النبي إيليا الحي الذي يعدُّ من أشهر وأهم الأديرة، ومقام القديس ثاودروس التيروني في المدفن، بالإضافة إلى كنيسة مارالياس ودير القديس مار أفرام السرياني.
دير الشيروبيم يعتلي أعلى قمم القلمون الشرقية السورية على ارتفاع 2000 م عن سطح البحر.. والشيروبيم كلمة آرامية الأصل معناها الملائكة، وهي مركَّبة من «الشيروب»؛ أي الملاك، والـ«بيم» علامة الجمع. الدير مؤلَّف من قسمين مختلفي الشكل والنوعية: القسم الأول يضمُّ سلسلة من المغاور المحفورة، والقسم الثاني يضمُّ أبنية ضخمة. أما المغاور، فيلاحظ أنها قسمين؛ قسم يشكِّل مغاور لحياة «مشتركة» رهبانية.