قصة رجل حقيقي - بوريس بوليفوي
احتلت الرواية الوثائقية «قصة رجل حقيقي» مكانة هامة في تاريخ الأدب الروسي منذ صدورها مباشرة،
وتدور القصة كلها حول حياة الطيار الكسي بيتروفيتش مارسييف. هنا مقاطع من هذه القصة.
تأليف الكاتب والأديب : بوريس بوليفوي
بوريس بوليفي هو الاسم المستعار لاسم الكاتب الحقيقي: بوريس نيكولافيتش الذي ولد في موسكو عام 1908 وهو ابن عالم فيزيائي يهودي،
تخرج من كلية كالينن الصناعية» ، عمل في مجال تكنولوجيا صناعة النسيج قبل أن يبدأ عمله الصحافي عام 1928 ووصلت عبقريته
إلى درجة بحيث تبناه الكاتب الروسي مكسيم غوركي. ونشر نصوصه في صحيفة «البرافدا» الشهيرة. وخدم في الجيش الأحمر كضابط.
وقد عمل مراسلاً حربياً لصحيفته. وأصبح نائباً في البرلمان السوفييتي من عام 1940 حتى أواخر حياته.
مقطع من القصة :
حدث لألكسيي ميريسيف أسوأ ما يمكن أن يحدث لرجل في مثل هذه الظروف: انسحب إلى ذاته. لم يتذمر، لم ينحب، لم يكن نزقاً أبداً، بل بقي صامتاً فحسب...
كان يرقد على ظهره أياماً بكاملها بلا حركة، تتركز عيناه على الصدع المتعرج في السقف. وحينما كان رفاق الجناح يكلمونه كان يجيب بـ «نعم» أو «لا»،
وبشكل غير مناسب غالباً، ثم يغوص في صمته من جديد، محدقاً في شق داكن في الجص وكأنه رسم هيروغليفي مبهم، يعني حلُّ لغزه خلاصاً بالنسبة إليه.
كان ينفّذ جميع تعليمات الطبيب بامتثال، يتناول كل ما يصفه له، يأكل عشاءه بدون توانٍ، وبدون تلذذ، ثم يتمدد على ظهره من جديد.
ناداه المفوض: «هيه، يا ذا اللحية الشيباء! بأي شيء تفكر؟»
أدار ألكسيي رأسه باتجاه المفوض، ونظر إليه نظرة محدقة جوفاء وكأنه لم يره.
«بأي شيء تفكر، أنا أسألك؟»
«لا شيء».
ذات يوم دخل فاسيلي فاسيليفيتش الجناح وسأله بنبرته المباشرة المعتادة: «حسناً أيها الزاحف، هل أنت على قيد الحياة؟
كيف هي الأمور؟. أنت بطل، أقول بطل. حتى إنك لم تتذمر. الآن أستطيع أن أصدق أنك زحفت على أربعٍ ثمانيةَ عشر يوماً
هارباً من الألمان. لقد أجريتُ في حياتي عمليات لعدد من الأشخاص يفوق عدد حبات البطاطا التي أنت أكلتها، لكنني لم أُجرِ عملية لشخص مثلك».
فرك البروفيسور كفيه. كانتا حمراوين خشنتين، وأظافره متآكلة. «لماذا أنت عابس؟. أنا أمدحه، وهو عابس! أنا قائد في السلك الطبي. آمرك أن تبتسم»!
مط ميريسيف شفتيه بصعوبة في ابتسامة بلهاء مبتذلة، وفكر: «لو عرفت أن الأمر سينتهي هكذا لما تجشمت عناء الزحف.
كانت لا تزال لدي ثلاث طلقات في مسدسي».
قرأ المفوض في إحدى الصحف وصف مراسل حربي لمعركة مثيرة. ستٌ من طائراتنا الحربية اشتبكت مع اثنتين وعشرين طائرة معادية،
أَسقطت ثمانية وفقدت واحدة فقط.
قرأ المفوض هذه القصة بحيوية كبيرة حتى لَيَظن المرء أن الطيارين الذين لم يكن يعرفهم هم فرسانه الذين أبلوا بلاء حسناً.
وحتى كوكوشكين أظهر حماسة في المناقشة التي دارت حينما حاول كل منهم أن يتصور كيف حدث كل هذا.
أما ألكسيي فقد تمدد وفكر: «رفاق محظوظون، إنهم يطيرون ويقاتلون، أما أنا فلن أطير مرة أخرى».
أصبحت تصريحات مكتب الإعلام أكثر اقتضاباً. كانت جميع المؤشرات تدل على أن قوة ضخمة كانت تتجمع في مكان ما من مؤخرة
الجيش لأجل ضربة أخرى. تناقش المفوض وستيبان إيفانوفيتش بإثارة حول المكان المحتمل الذي قد تُنفَّذ فيه الضربة، وحول الآثار
التي ستكون لها على الأعداء. كان ألكسيي منذ فترة قريبة يدير المناقشات على هذا النحو، أما الآن فهو يحاول ألا يصغي إليهم.
هو أيضاً شعر بدنو التطورات الكبيرة للمعارك الهائلة، ولربما الحاسمة.
لكن فكرة أن رفاقه ولربما حتى كوكوشكين الذي كان يتعافى بسرعة قد يشاركون في تلك المعارك، في حين كان محكوما عليه أن يتبلد
في المؤخرة، وبأنه لا يمكن فعل شيء حيال هذا، كانت فكرة شديدة المرارة إلى درجة أنه ما أن يبدأ المفوض قراءة الجريدة،
أو ما أن تبدأ المناقشة حول الحرب، حتى يغطي ألكسيي رأسه ببطانيته ويضغط وجهه على وسادته كي لا يرى ولا يسمع.
ولسبب ما بقي حاضراً في ذهنه السطر المعروف من «أغنية الباز» لمكسيم غوركي: «الذين يولدون ليزحفوا لن يستطيعوا الطيران».
جلبت كلافديا ميخايلوفنا بضعة حِزم من الصفصاف أما كيف نمت في المؤخرة زمن الحرب في موسكو المحاصرة، فالسماء فقط يمكن
أن تعرف ووضعت كل حزمة في كأس بجانب كل سرير. فاحت من الحزم الضاربة إلى الحمرة وعقدها البيضاء الزَغبة رائحة شديدة
النضارة بحيث بدا وكأن الربيع ذاته دخل الجناح رقم 42. شعر كل فرد في ذلك اليوم بالبهجة والانتعاش، حتى سائق الدبابة الصامت
غمغم ببضع كلمات من خلال ضماداته.
استلقى ألكسيي وفكر ملياً: تجري في كاموشين جداول عكرة عبر الأرصفة الموحلة إلى الطريق المتلألئة المرصوفة بالحصى،
وهناك توجد رائحةُ تربةٍ دافئة ورطوبةٌ منعشة ورَوثُ أحصنة. كان يوماً كهذا حين وقفا هو واوليا على الضفة المرتفعة لنهر الفولغا،
والجليد يعوم بهدوء ماراً بهما في الامتداد اللامحدود من النهر وسط صمت مهيب، لا يشقه سوى ألحان القبّرات الصادحة التي تشبه
صوت الجرس. بدا وكأن الجليد لم يكن ينساب مع التيار، بل هو واوليا كانا ينسابان بصمت لملاقاة نهر عاصف متلاطم الموجات.
كانا واقفين هناك دون أن ينبسا بكلمة، يحلمان بسعادة مقبلة كافحا في سبيل لحظة منها في تلك البقعة المطلة على الامتداد العريض للفولغا
في نسائم الربيع السارية بِحُرية. تلك الأحلام لن تتحقق بعد الآن. سوف تنصرف اوليا عنه. وحتى إن لم تفعل،
هل يستطيع أن يقبل هذه التضحية، هل يستطيع أن يسمح لها ? تلك البهية الجميلة الرشيقة أن تسير بجانبه بينما هو يعرج على جدعتين؟...
ورجا الممرضة أن تُبعد بشير الربيع الطبيعي من جانب سريره.
تم إبعاد حزمة الصفصاف، لكنه لم يستطع أن يخلص نفسه من أفكاره المريرة: ماذا ستقول اوليا حينما تعرف أنه فقد ساقيه؟
هل ستتركه وتلغيه من حياتها؟ حيويته بأكملها اعترضت على هذا. كلا! إنها ليست كذلك! إنها لن تتخلى عنه، لن ترحل عنه!
لكن ذلك سيكون حتى أسوأ. صوّر لنفسه زواجها منه بباعثٍ من قلبها النبيل، زواجها منه ? المُقْعد، ومن أجله تتخلى عن حلمها
بالتعليم التقني العالي، تَنذر نفسها لعمل وظيفي لكي تعول نفسها، وزوجها المقعد، وربما حتى أطفالاً، من يعلم؟.
هل يملك الحق بقبول تضحية كهذه؟ إنهما ليسا مرتبطين بعضهما ببعض بعد، إنهما خطيبان، لكنهما ليسا زوجاً وزوجة بعد.
إنه يحبها، يحبها كثيراً، ولهذا السبب قرر أنه لا يملك حقاً كهذا. يجب أن يقطع ارتباطهما بنفسه فوراً، ضربة واحدة، لكي يحفظها
ليس من مستقبل ثقيل فحسب، بل ليحفظها كذلك من عذابِ مأزق حاضر.
لكنْ آنذاك وصلت رسالة تحمل ختم بريد كاموشين، أبطلت جميع هذه القرارات. إنها رسالة من اوليا، وكل سطر فيها يفوح منه القلق.
وكأنها ترزح تحت نذير كارثة، كتبت إنها ستبقى معه إلى الأبد، لا يهم ما حصل له، إنها عاشت لأجله فقط، إن أفكارها كانت معه
في كل لحظة متوفرة، وإن هذه الأفكار ساعدتها على تحمّل شدائد زمن الحرب، وليالي العمل في المصنع، وحفر الخنادق
ودشم الدبابات أيام العطلة ولياليها، ووجودها بصراحة في شبه مجاعة.
«تلك الصورة الصغيرة الأخيرة معك، جالسَين على جِذْل شجرة مبتسمين هي دائماً معي. وضعتها في قلادة أمي ولبستها حول عنقي.
وحينما أشعر بالكآبة أفتح القلادة وأنظر إليك... أنا أعتقد أنه طالما واحدنا يحب الآخر فلن نضطر إلى الخوف من شيء».
وكتبتْ له أيضاً أن أمه شديدة القلق عليه في الفترة الأخيرة، وألحت عليه بالكتابة للسيدة العجوز كثيراً، لكنْ مع عدم إزعاجها بأخبار سيئة.
كانت هذه الرسائل من الموطن تشكل دائماً حدثاً سعيداً، حدثاً كان يبهج قلبه وسط مشقات الحياة في الجبهة. أما الآن فإنها لم تمنحه
للوهلة الأولى أي فرح، بل جعلت قلبه أكثر كآبة. وقد ارتكب حماقة سببت له الكثير من العذاب لاحقاً:
فلم يجرؤ على الكتابة إلى الموطن ليقول إن ساقيه جرى بترهما...
أمضى ألكسيي أيامه الرتيبة في المستشفى في تفكير مرير. ومع أن بنيته الصلبة تحملت البتر الذي نُفّذ بمهارة واندملت الجراح بسرعة،
فقد ازداد وهناً بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من جميع التدابير المتخذة لمواجهة هذا، فإن كل شخص لاحظ أنه كان يزداد نحولاً وضعفاً كل يوم.
في غضون ذلك كان الربيع يجيش في الخارج.
شق الربيع طريقه داخل الجناح رقم 42، إلى هذه الغرفة التي تفوح منها رائحة اليودوفورم. أتى الربيع من خلال النافذة، جالباً العبير
الطلق الذي رطّبه الثلج الذائب، ومن خلال تغريد عصافير الدوري النشطة، والصخب المرح الذي تطلقه الحافلات الكهربائية حينما كانت
تلف المنعطف، ووقع الخطوات على الإسفلت الذي زال عنه الثلج الآن، وفي المساء ـ ألحان الأكورديون الرتيبة الخافتة. تسلل الربيع
من النافذة الجانبية التي يمكن منها رؤية غصن شجرة حور أناره شعاع من نور الشمس وظهرت عليه براعم متطاولة مغطاة بصمغ أصفر
كانت تنتفخ. دخل الربيع الجناح في هيئة نمشات ذهبية على وجه كلافديا ميخايلوفنا اللطيف الشاحب، متحدية كل أنواع ذرور الوجه،
ومسببة للممرضة إزعاجاً غير قليل. جذب الربيع الانتباه إلى نفسه بإصرار بوساطة النقر المرح لنقط الندى الثقيلة على عتبات
النافذة الخارجية المغطاة بالصفيح.
وكما هي الحال دائماً، رقّق الربيع القلوب وأيقظ الأحلام.
... كوكوشكين أُزيلت جبيراته. وستيبان إيفانوفيتش يتعلم المشي بدون عكازات، وقد استطاع التنقل منتصباً إلى حد ما. وهو الآن يُمضي
الأيام بكاملها أمام النافذة، يراقب ما يجري في «العالم الفسيح». المفوض وميريسيف فقط تزداد حالهما سوءاً باطراد مع مرور الأيام.
هذه كانت حال المفوض على وجه الخصوص، فلم يعد يستطيع القيام برعشاته الصباحية. وأصاب جسمَه تنفّخ فاسد مصفرّ واضح تقريباً.
كان يَثني ذراعيه بصعوبة، ولم يعد يستطيع الإمساك بالقلم أو بالملعقة.
وفي الصباح كانت عاملة الجناح تغسل له وجهه وتطعمه، وكان باستطاعة المرء أن يلاحظ أن ما كان يوْقع الكآبة في نفسه ويؤرقه
إلى أبعد حد لم يكن الألم القاسي، بل هذا العجز والضعف. لكنه مع ذلك لم يصبح قانطاً. كان صوته الجهور يهدر بمرح مثلما كان
قبل الآن تماماً، وكان يقرأ الصحف بحيويته السابقة، وحتى إنه واصل دراسة اللغة الألمانية.
لكنه لم يعد قادراً على حمل كتبه حين القراءة، لذلك صنع له ستيبان إيفانوفيتش مسند كتب من الأسلاك، وراح يجلس إلى جانب سريره
ليقلّب له الصفحات. وفي الصباح، وقبل أن تصل الصحف، كان المفوض يسأل الممرضة بلهفة ماذا كان التصريح الرسمي الأخير،
وما هي الأنباء التي تم بثها بالراديو، وكيف كان الطقس، وماذا يشاع في موسكو؟ وقد نال موافقة فاسيلي فاسيليفيتش للحصول
على جهاز راديو مثبت إلى جانب سريره.
كلما ازداد جسمه وهناً يبدو وكأن معنوياته تصبح أقوى. هاهو يتابع قراءة الرسائل الكثيرة التي يتلقاها باهتمام كبير، ويجيب عنها مُمْلياً
مرة على كوكوشكين، وأخرى على غْفوزْديف.
غفا ميريسيف مرة بعد تناوله الدواء، وفجأة أيقظه صوت المفوض الجهور الهادر. كانت على مسند الكتب السلكي نسخة من صحيفة الفرقة العسكرية.
وعلى الرغم من الأمر المدموغ عليها «لا تُنقل بعيداً» إلا أنه كان هنالك من يرسلها إليه بانتظام.
هدر المفوض: «هل أصابهم الجنون هناك، أم ماذا، في حين هو في موقف الدفاع عن نفسه؟ كرافْتسوف بيروقراطي أفضل طبيب بيطري
في الجيش بيروقراطي. غريشا، سجل فوراً ما سأمْليه عليك».
وأملى على غفوزديف رسالة غاضبة إلى عضوٍ في المجلس الحربي للجيش يطالب بفرض قيود على رجال الصحافة الذين يشوهون بغير
حق سمعة الضابط الطيب المتحمس. واستمر في شتم «انتهازيي القلم أولئك» حتى بعد أن أعطى الممرضة الرسالة لإرسالها، وكان غريباً
سماع كلمات الغضب تلك من الرجل الذي لم يكن يستطيع حتى أن يدير رأسه على وسادته.
في ذلك المساء حدث شيء أكثر استثناء. في تلك الساعة الهادئة، حين لم تكن الأنوار قد أُشعلت بعد، وكانت الظلال قد بدأت تصبح قاتمة
في زوايا الغرفة، كان ستيبان إيفانوفيتش جالساً إلى النافذة يحدق في الجسر وهو مستغرق في التفكير.
كانت بعض النسوة بمآزر قنبية تقص الجليد على النهر. كنَّ يحززن بالقضبان قطعاً طويلة من الجليد من حافة فجوة جليدية قاتمة مربعة،
ثم يكسرن القطع الطويلة إلى كتل مستطيلة بضربة و اثنتين من قضبانهن، وبعد ذلك، وباستخدام خطافات قوارب، يزلقن هذه القوالب
على ألواح خشبية خارج الماء. امتدت القوالب في صفوف شفافة ضاربة إلى الخضرة من الأسفل وصفراء متكسرة من الأعلى.
قطار طويل من الزحافات المترابطة الواحدة خلف الأخرى، تزحف على طول شاطئ النهر إلى حيث كان يجري تقطيع الجليد.
رجل عجوز يرتدي قبعة بغطاءِ أذنين وبنطالِ تخويض ومعطفاً، تَزَنّر بحزام يتدلى منه فأس، كان يقود الأحصنة إلى حيث كان الجليد مصفوفاً،
والنسوة تحمّل قوالب الجليد على الزحافات.
عيْن ستيبان إيفانوفيتش الخبيرة أنبأته أن العمل يقوم به فريق من مزرعة تعاونية، لكنه سيئ التنظيم. كان عددهم كبيراً، لكن كلاً منهم كان
يعمل بطريقته الخاصة. خطرت على باله خطة للعمل، فقسم الفريق ذهنياً إلى مجموعات تتألف الواحدة من ثلاثة أشخاص،
وهو العدد الكافي لسحب قوالب الجليد من الماء بدون صعوبة.
وحدد بعد ذلك كل مجموعة لجزء معين من العمل، وثبّت لها الأجر، ليس على أساس مبلغ ضخم من المال للفريق بأكمله،
وإنما لكل مجموعة بشكل منفصل، حسب عدد القوالب التي ينقلونها.
رأى في الفريق شابة نشيطة مستديرة الوجه، متوردة الخدين، فاقترح ذهنياً أن عليها أن تبدأ المنافسة مابين المجموعات...
كان مستغرقاً كثيراً في تأملاته إلى درجة أنه لم يلاحظ أحد الأحصنة يقترب كثيراً من حافة الفجوة الجليدية مما أدى
إلى أن تنزلق قائمتاه الخلفيتان ويسقط في الماء. وزن الزلاجة أبقى الحصان
على السطح، لكن سرعة التيار كانت تجره تحت الجليد. اهتاج الرجل العجوز ذو الفأس بيأس، تارة يسحب حاجز الزلاجة، وأخرى يشد لجام الحصان.
شهق ستيبان إيفانوفيتش، وصاح بأعلى صوته: «الحصان يغرق»!
المفوض بوجهه الرمادي الشاحب من الألم، نهض بجهد هائل ضاغطاً على مرفقه، مال بصدره على عتبة النافذة، أطل منها وهمس:
«الأحمق! ألا يفهم؟ السَيْران! اقطع السيرين! الحصان سوف يخرج من تلقاء نفسه. سيُقتل الحيوان»!
تسلق ستيبان إيفانوفيتش عتبة النافذة بصعوبة. الحصان كان يغرق، والماء المضطرب يتناثر فوقه، لكنه كان يبذل جهوداً يائسة للخروج
ويقحم حافريه الأماميين بحدوتيهما الحديديتين في حافة الجليد.
صاح المفوض: «اقطع السَيْرين! »، وكأن الرجل العجوز عند النهر كان يستطيع سماعه.
جمع ستيبان إيفانوفيتش كفيه مثل بوق، ومن خلال طاقة التهوية في النافذة أطلق عبر الشارع نصيحة المفوض:
«هيي! أيها العجوز! اقطع السيرين! يوجد لديك فأس في حزامك، اقطع السيرين، حزّهما»!
سمع العجوز ما بدا له أنها نصيحة مرسلة من السماء. انتزع الفأس من حزامه وقطع السيرين بضربتين. تحرر الحصان
من عقاله فتسلق الجليد فوراً،
ثم وقف بعيداً عن حافة حفرة الجليد وزفر نافضاً نفسه مثل كلب.
وفي هذه اللحظة صدر صوت يسأل: «ما معنى هذا؟»
كان فاسيلي فاسيليفيتش واقفاً عند الباب بصدّارته المفتوحة وبدون قلنسوته التي يلبسها عادة. كان شديد الغضب، ضرب الأرض بقدمه،
ولم يكن مستعداً لسماع أي تفسير.
قال إن الجناح أصابه الجنون، وإنه سيرسلهم جميعاً إلى الشيطان خارج هذا المكان، وخرج زافراً وموبخاً الجميع دون أن يتحقق مما حدث بالفعل.
وبعد عدة لحظات دخلت كلافديا ميخايلوفنا الجناح بوجه دامع تبدو عليه ملامح القلق الشديد. لقد تلقّت للتو توبيخاً شديد اللهجة من فاسيلي فاسيليفيتش،
لكنها لمحت منظر وجه المفوض الرمادي الشاحب عديم الحيوية، والذي كان متمدداً بلا حركة وعيناه مغلقتان، فاندفعت نحوه.
* * *
وفي المساء شعر المفوض بألم شديد. زرقوه حقنة كافور، ومن ثم أعطوه أوكسجيناً، فبقي فاقداً وعيه لفترة طويلة. وفي اللحظة التي استعاد فيها
وعيه حاول قدر الإمكان أن يبتسم لكلافديا ميخايلوفنا التي كانت واقفة إلى جانبه مع زجاجة الأوكسجين.
«لا تقلقي أيتها الممرضة، سأرجع حتى من الجحيم لأجلب لك الدواء الذي يستعمله الشياطين لكي يتخلصوا من النمش».
كان فظيعاً أن تراقب هذا الرجل الضخم القوي يزداد ضعفاً كل يوم في نضاله المرير الذي كان يشنه ضد العجز.
_________________