الصَلْب والقيامة
المهندس جورج فارس رباحية
يُعَيِّد المؤمنون ذكرى رفع الصليب المقدّس في الرابع عشر من شهر إيلول ( سبتمبر ) من كل عام . ويرجع تاريخ هذه المناسبة إلى أن الملكة هيلانة ( 247 ـ 327 ) والدة الإمبراطور قسطنطين الكبير ( 274 ـ 337 ) ذهبت إلى أورشليم وبدأت تبحث عن الصليب الذي عُلِّقَ عليه السيد المسيح . وفي سنة 326 وُجِدَ الصليب في مغارة تحت الردم عند جبل الجلجلة . ولما رفعه رئيس أساقفة أورشليم على منصّة عالية وشهده الشعب صرخ : ( يارب ارحم ) . وهكذا ففي مثل هذا اليوم من كل سنة يرفع رئيس أساقفة أورشليم الصليب عالياً ليراه الشعب ويُكرّمه ويتبارك به .
كان الصليب في زمن الرومان آلة للتعذيب وكان الموت عليه موتاً ذليلاً لأن المصلوب كان أحياناً يُعَلَّق عليه حتى تتفتّت جثّته وتسقط على الأرض . ومع ذلك رضي السيد المسيح أن يُصْلَب متحمّلاً عار الصلْب كي يُخَلِّصَ العالم من الخطيئة والهلاك . وقد قال له المـــجد : " وَكَما رَفَعَ مُوسَى الحَيَّةَ في البريّةِ هكَذا يًنْبَغي أنْ يُرْفَعَ ابنُ الإنْسانِ لكي لا يَهْلِكَ كلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِهِ بَلْ تَكونُ لهُ الحَياةُّ الأبَدِيّة " ( يوحنا 3: 14 ـ 15 ) .
لقد عُلِّقَ الفادي على الصليب وسفك دمه المقدّس عليه فصار الصليب الذي كان عاراً ، آية من آيات الافتخار. كما قال القديس بولس بهذا الصدد : " فَإنَّ كَلِمَةَ الصَّليبِ عندَ الهالكينَ جَهَالَةٌ وأمَّا عِندَنا نحْنُ المُخَلِّصينَ فهيَ قُوَّةُ اللهِ " ( كورنثوس 1: 18 ) . وقال أيضاً : " وأمَّا مِنْ جِهَتي فَحَاشَا لي أن أفْتَخِرَ إِلاّ بِصَليبِ رَبِّنا يَسُوعَ المَسيحِ الذي بِهِ قَدْ صُلِبَ العالَمُ لي وَأنَا للعَالَم. " ( غلاطية 6 : 14 ) .
إن قيمة الصليب تُساوي قيمة مَنْ سُمِّرَ عليه . لقد صُلِبَ السيد المسيح فأصبح الصليب مقدّساً ومُكَرَّماً . وبه نُبَشِّر بفرح كل المسكونة كما قال القديس بولس : " لأنَّ اليَهُودَ يَسألونَ آيَةً واليونانيينَ يَطْلُبُونَ حكْمَةُ . وَلَكِنَّنا نَحْنُ نَكْرِزُ بالمَسيحِ مَصْلوبَاً لليَهودِ عَثْرَةً ولليونانيينَ جَهَالَةً " . ( كورنثوس 1 : 22 ـ 23 ) .
فنحن عندما ننظر إلى الصليب المقدّس ، نذكر مَنْ عُلِّقَ عليه فله الإكرام والمجد أمامه نسجد مستمدّين البركة السماوية .
إن الله بمُقتضى تدبيره الذي لا تُدْركه العقول قد قضى بأن يتألّم السيد المسيح ويُصْلَب ويقوم من بين الأموات حتى يُتاح لنا الخلاص نحن البشر .
كان العالم بأجمعه يتوقّع مجيء المخلّص من السماء ، وكان الشعب اليهودي أكثر الأمم إيماناً بذلك لأن الله وعدهم بأن يُرسلَ إليهم مُخَلِّصاً . وجاء السيد المسيح لهداية اليهود أوّلاً ، غير أنهم لم يتبعوه كما قال القديس يوحنا : " إلى خاصَّته جاءَ وَخَاصّتُه لم تقبَلْه " ( يــوحنا 1 : 11 ) إنّهم أرادوه ملكاً زمنيّاً وكأنّنا به يُجيبهم عن ذلك بقوله : " مَملَكتي ليسَت من هـذا العالَم " ( يوحنا 18 : 36 ) . أرادوه منتقماً جبّاراً ولكنه عَلَّمَ الناس أن يكونوا مثله بقولـه :
" تَعَلَّموا مِنّي لأَنّي وديعٌ ومُتَواضِعُ القَلْبِ . " ( متى 11 : 29 ) . أرادوه سفّاحاً يسفك دماء الأعداء ولكنّه أهرق دمه على الصليب ليُخَلّص العالم من ويلات الخطيئة . طلبوا صلبه بإلحاح من بيلاطس صارخين " ليُصْلَب " ( متى 27 : 22) ظناً منهم أنهم بقتلهم إياه يقضون عليه وعلى تعاليمه ، غير أنه خيَّبَ آمالهم وفتح للمؤمنين باباً للبنوّة وللرجاء كما قال القديس يوحنا : " وأمّا كُلُّ الذينَ قَبِلوهُ فأعطاهُمْ سُلطاناً أنْ يصيروا أولادَ اللهِ أي المؤمنون باسمـه "
( يوحنا 1 : 12 ) . ونزولاً عند رغبة اليهود ، أمر بيلاطس بجلد يسوع وصلبه . وسخر منه كل الذين كانوا يمرّون به ـ وهو على الصليب ـ وكذلك رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ يستهزؤن به ( متى 27 : 39 ـ 42 ) . ومع ذلك لم يلعنهم السيد المسيح بل طلب من الله الآب مُبْتَهِلاً : " يا أبتاهُ اغفِرْ لَهُمْ لأنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ماذا يَفْعَلون " ( لوقا 23 : 34 ) . وهنا تجلّى سموّه الإلهي ، فلا عجب ، إذ كان هو النور المُضيء في الظُلمة والظُلمة لم تُــدركه (يوحنا 1 : 4 ـ 8 ) .
قَبِلَ السيد المسيح الآلام والصلب والدفن طوعاً كما قال أشعياء النبي : " أمّا هو فَتَذَلّلَ ولم يفتَح فاهُ كشاةٍ تُساقُ إلى الذبحِ وكنعجةٍ صامتَةٍ أمامَ جازّيها فَلَم يفتح فَاهُ مِنَ الضُغطَةِ ومن الدينونةِ أُخِذَ . وفي جيلِه كانَ يَظِنُّ أنّهُ قُطِعَ من أرضِ الأحياءِ أَنّه ضُرِبَ من أجلِ ذَنْبِ شعبي
( اشعياء 53 : 7 ـ 8 ) .غير أنه قام من بين الأموات كم سبق وقال ( يوحنا2 : 19ـ 22)
إن لقيامته أهمّية عُظمى إذ إن رجاءنا يُبْنَى عليها كما قال القديس بولس : " إن كان المسيح لم يقم فتبشيرنا إذاً باطل ..... قام المسيح من بين الأموات وصار باكورة الراقدين " (كورنثوس15 : 14 ـ 20 ) وبذلك يُعلِن الرسول أن قيامة المسيح حقّقت لنا أيضاً أمل قيامتنا بعد الموت .
المسيح قام ـ وأيّد الإيمان به ، وأزال الجزع والقلق من قلوب تلاميذه الظاهرين والمُستترين خوفاً من اليهود وقضى على التـردّد في نفوس الكثيرين ممّن كــان يُخاطبهــم بالكلمـة ( مرقس 2 : 2 )
المسيح قام ـ وتمّت فيه النبوءات التي مرّت عليها الأعوام والقرون
المسيح قام ـ وأقام معه تعاليمه الروحية السامية المثمرة بالخير والطهر والبنيان ففهمَ تلاميذه والسالكون في إثرهم ما معنى قوله : " الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم إنْ لمْ تقعْ حبّةُ الحنطةِ في الأرضِ وتَمُت فهي تبقى وحدها . ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير . " ( يوحنا 12 : 24 ) .
وهكذا نحيا مع المسيح وبعد الموت ندوس الموت على مثاله ونقوم معه ونتمجّد . وبذلك لنا الحق أن نُرَنِّم ترنيمة القيامة الخالدة :
(( المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور ))
24/4/2011 المهندس جورج فارس رباحية