تشي غيفارا
الموت ينام بالقرب من أحلامه :
" سأقضي ما تبقى من أيام حياتي أبحث عن جثته . في كل مكان: في كوبا في فنزويلا، في بوليفيا، لا يهم. فأنا لا أصدق أنهم استطاعوا القضاء عليه وأنا لا اصدق انه مات ولا أصدق أنهم أحرقوه."
لم يصدق الوالد أنه مات كان يتصور أن الموت يهرب من تشي وأنه سئم مطاردته .
وكان الموت بالنسبة الى "تشي" الحقيقة اليومية يرافقه خطوة خطوة كالربو والزفير والشعلة المتململة والنوم . كان ينام بالقرب من أحلامه ، يشاطره في أحلامه ، ينافسه في أحلامه .
مرة ، قال لرفيق له كان يقاتل بجانبه في الأدغال ، والرصاص ينهال عليهما :
-"أتدري كيف أتمنى أن أموت ؟كما تمنى قصة بطل "جاك لندن “. أدرك انه سيتجمد حتى الموت في أراضي ألاسكا البيضاء المقفرة ،فاستند بهدوء الى شجرة ، واستعد لمواجهة الموت بصمت وكبرياء . كم أتمنى الآن لو أستريح على جذع شجرة ،ليهدأ الزفير داخلي ، وأموت ، بعد أن أفرغ رصاص بندقيتي في الجنود القادمين من وراء هذه الأشجار . "
كان ذلك سنة 1957 ، قبل الدخول الى المدينة والانتصار .
ومرة ، قال لكاسترو ، في الرسالة الأخيرة التي وجهها إليه:
- ذات يوم ، سئلنا عن الشخص الذي ينبغي إنذاره أم إعلامه عند موت أحدنا.
وفوجئنا جميعا بهذه الامكانية الحقيقية . ثم ادركنا أن الثائر الحقيقي "اما أن ينتصر أو يموت . وكثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل . "
كان ذلك سنة 1965 .
ومرة ثالثة ، قال في البيان الثوري الذي وزعه في نيسان 1967 :
-" لا يهمني متى واين سأموت ."
لكن يهمني أن يبقى الثوار منتصبين ، يملأون الارض ضجيجا ، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين .
ثم سقط أخيرا في الخريف ، مع سقوط أوراق الاشجار التعبة .
لكنه لم يحقق امنيته التي رددها امام صديق له في فترة النضال الاولى: لم يمت وهو مستند الى الشجرة ، بل سقط مجندلا في واد صغير ضيق ، بتسع رصاصات ، ربما أقل ،ربما أكثر . والتقطوه وحملوه ووضعوه على طاولة عالية ،ثم قالوا للصحافيين والمصورين والعالم أجمع :
"- هذا هو "تشي" غيفارا . لقد انتصرنا عليه ."
بدأت المرحلة الاخيرة من المطاردة الني استمرت أكثر من سنتين ،واستعملت الولايات المتحدة مختلف الوسائل للقضاء على موجة حرب العصابات التي يقودها "تشي" غيفارا ، في نيسان 1967 ، بعد أن القت السلطات البوليفية القبض على المفكؤ الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه ، واتهمته بالتعاون مع غيفارا وأنصاره ، وسجنته وعذبته لتنتزع منه اعترافا بمكان غيفارا .
وبعد ذلك بفترة قصيرة ، أعلن رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس بأنه واثق هذه المرة من القبض على غيفارا حيا أو ميتا .
ولم يكن بارينتوس يعتمد في عملية مطاردة واصطياد غيفارا على رجاله وحدهم ، ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عن غيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه ، بل كان يعتمد على قوات متخصصة في حرب العصابات والتصدي للثوار بوسائل علمية مدروسة دقيقة .
***
القبعات الخضر والحرب المضادة :
ففي باناما، أنشأت وزارة الدفاع الاميركية سنة 1949 مدرسة حربية وسلمتها للجنرال بورتر . وفي هذه المدرسة يتدرب جنود أميركيون من مختلف أنحاء اميركا الجنوبية والشمالية ، على يد ضباط يمنازون بكفاءة علمية عالية ، ويتخرجون متخصصين بالحرب في مناطق أميركا اللاتينية الصعبة الشائكة .
لكن هذه المدرسة ادخلت في السنوات الاخيرة بابا جديدا على منهاجها ، وهو على تدريب الجنود على اصول واساليب حرب العصابات ، لمواجهة موجات الثوار في اميركا اللاتينية . ويستمر التدريب اربعين اسبوعا" ، يخضع خلالها الجنود لاشد وأقصى أنواع التدريب العسكري ، ويضع في الظروف نفسها التي سيتعرض لها حين يواجه رجال العصابات في الجبال والغابات .
كان هؤلاء الجنود ، المدربون على ايدي القبعات الخضر - وهو اللقب الذي يطلق على مدرسة باناما - هم الذين يطاردون غيفارا ، وينصبون له الفخ تلو الفخ ، لايقاعه والقضاء عليه .
واستمرت هذه العملية شهورا، حتى جاء الخريف ، واطل شهر تشرين الاول ، غاذا بالجنرال بارينتوس يعلن للصحافيين ان القوات المسلحة ، وهو يقصد فيها القوات التي تدربت في مدرسة باناما ، تحاصر جماعة من رجال العصابات وعلى رأسها القائد رامون وهو احد اسماء غيفارا المستعارة .
وفال بارينتوس هذه المرة سوف نقبض على "تشي" ولن يستطيع ان يهرب منا " .
لكن القوات لم تستطع ان تقبض الا على ثائرين من رجال " رامون " اعترفا بأن تشي هو فعلا قائدهما وأنه موجود في مكان ما بالقرب من منطقة فاليغراندي .وقال الرجلان بأن مرض الربو قد اشتد على غيفارا ، ولم يعد يستطيع التنفس الا بصعوبة ، وانه لا يتحرك الا على ظهر بغل ، وهو لا يهتم بشيء ، ويظهر احتقارا بالغا لحياته .
وبعد ايام من القبض على الرجلين ، وفي مساء بوم الاحد 8 تشرين الاول ، دارت معركة طاحنة بين القوات المسلحة وبين رجال العصابات في منطقة هيغوبراس بالقرب من فالنغراندي واستبسل الثوار ، وفي النهاية ستة من رجالهم ، وبينهم تشي غيفارا .
وتقول بعض الروايات البوليفية عن موت غيفارا ، ومنها رواية القائد الاعلى للقوات البوليفية الجنرال الفريدو اوفاندو ، ان غيفارا قال قبل وفاته ، وهو في ساعات احتضاره الاخيرة: " انا "تشي" غيفارا. لقد فشلت ". لكن الكولونيل سانديكو ، وهو الذي قاد الحملة المسلحة ضد غيفارا وثواره ، ذكر أن تشي ظل فاقدا وعيه حتى مات .
وهناك رواية اخرى ، نسبتها احدى الصحف البوليفية الى بعض الضباط الذين طاردوا تشي غيفارا ، وتقول ان غيفارا اسر حيا ، وحاول الطبيب معالجته من الجروح التي اصيب بها لكن الالم كان شديدا عليه ، ومرض الربو كان يمنعه من التنفس الا بصعوبة .
وقضى ليلة الاحد في حالة نزاع شديد ، يئن من الاوجاع والزفير ، يطلب من الطبيب أن يعالجه ، حتى قضى عليه الام في صباح الاثنين بعد ان خارت قواه تماما وعجز الطب عن اسعافه .
ورواية أخرى تقول ان غيفارا تعرض للتعذيب بعد القاء القبض عليه ، لكنه لم يعترف بشيء بقتله احد الضباط برصاصة سددت الى قلبه .
وكما تعددت الروايات حول مقتله ، تعددت الروايات حول طريقة تعقبه والقاء القبض عليه. ومن هذه الروايات ولعلها الاقرب الى الصحة ، ان احد رجال العصابات ، من رفاق " تشي " القدامى ، وشى به الى السلطات البوليفية بعد ان أغرته الجائزة التي خصصتها هذه السلطات للقبض على عليه ، وهي في حدود خمسة الاف دولار .
وكان مؤلما حقا أن تشي الذي امن طوال حياته بالاخوة الحقيقية والصداقة والاخلاص والتضحية بين البشرية ، وعاش وعاش على هذه الاخوة والصداقة والاخلاص والتضحية ن وتنتهي حياته بان يبيعه رفيق سلاح قديم ، لان المال كان اقوى من القيم والمبادئ التي يمثلها غيفارا او يدعو اليها .
ولم تصدق عائلة تشي انه مات . لا الاب ، ولا الشقيق ، ولا أي فرد من افراد العائلة . وما زالوا ينتظرون بين اللحظة والاخرى ان يحمل اليهم البريد ، او صديق من الاصدقاء ، رسالة من الابن المشرد ، يعلن فيها للعالم انه ما زال حيا ، ويسخر ، كعادته من الموت .
منذ اختفائه قتلوا تشي عدة مرات . وفي كل مرة مان ينفض الموت عنه ، ويبدو انه اقوى واصمد .
هذه المرة ، يبدو ان تشي اقتنع انه مات . وان جثته احرقت فعلا ، كما قالت السلطات البوليفية . ولعله استراح ، لعله لم يعد يضايقه زفير الربو ، ولا المطاردة القاسية المستمرة .
مساء الاحد 15 تشرين الاول ، يقف فيديل كاسترو ، رفيق تشي في النضال ، ويعلن في خطاب دام ساعتين ، وبلهجة حزينة حزينة : اننا متأكدون تماما من موت غيفارا . لقد درسنا جميع الوثائق التي تتعلق بموته : الصور ، فقرات يومياته التي نشرت ، الظروف التي رافقت لحظاته الاخيرة وتأكدنا للاسف أن تشي مات فعلا .
وانا لا اعتقد بان للحكومة البوليفية مصلحة في اختراع كذبة كبيرة كهذه ، قد تنكشف بعد ايام قلائل . كان يطارد غيفارا في الاسابيع الاخيرة اكثر من 1500 جندي ، مدربين احسن تدريب ، واسطاع هؤلاء ان يقضوا في النهاية عليه . ثم حاولت السلطات البوليفية القضاء ايضا على اسطورته ، فلفقت العبارات الاخيرة التي زعمت بان تشي تفوه بها ، والتي تعلن فشله . لكن النضال سيستمر بعد موت تشي والحركة الثورية لن تتوقف .
***
أميركا اللاتينية 20 جمهورية و535 انقلابا" :
عشرون جمهورية تمتد على طوال 15 الف كيلومتر ، وتحتل 15% من الكرة الارضية . 3 قرون من السيطرة الاستعمارية . 535 انقلابا واكثر من الف حركة تمرد عسكرية خلال 150 سنة من الاستقلال ، اذ نالت دول أميركا اللاتينية استقلالها السياسي بين 1810 و 1830 ، وانتظرت كوبا وحدها حتى القرن التاسع عشر لتحصل على الاستقلال . 23 مرة تدخلت الولايات المتحدة في شؤون اميركا اللاتينية . 230 مليون نسمة اليوم ، 300 مليون نسمة عام 1970 ، 600 مليون في نهاية القرن . نصف سكان اكيركا اللاتينية لا يصل دخلهم السنوي الى 100 دولار . 140 مليون يعملون يعملون في أسوأ الظروف بسبب سوء التغذية والمعاملة القاسية. 100 مليون أمي ومريض .
هذه هي اميركا اللاتينية التعيسة بالاقرام .
هل اميركا اللاتينية فقيرة لان الموارد الطبيعية تنقسها ؟
لا ، ابدا .
لا يمكن مقارنة أي قارة اخرى بأميركا اللاتينية ، من حيث نسبة الاراضي الخصبة والصالحة للزرع ، ومن حيث الثورات والامكانيات الطبيعية .
- فنزويلا " تعرق " بالنفط المتدفق من ابارها .
- بوليفيا مليئة بمناجم القصدير .
- تشيلي غنية جدا بالنحاس .
- البرازيل والبراغوي محشوتان بالحديد .
- الغويان مشهورتان بالالمينيوم .
ما هي اذن اسباب تخلف اميركا اللاتينية ؟
لأن الفارق بين ما تنتجه وما تستهلكه لا يستثمر بطريقة تغني المجموع تدريجيا .
المورد الاساسية لدول اميركا اللاتينية هي الزراعة . لكن الزراعة تتقاسمها فئتان :
- الفئة الاولى ، فئة الاغلبية الساحقة التي تشكل الفلاحين الصغار .
- الفئة الثانية ، فئة الملاكين الكبار الذين يشكلون 1.5 % من السكان ، ويحتكرون اكثر من 50% من الاراضي .
الفلاحون الصغار يزرعون حقولا متواضعة ويجهلون مختلف انواع التقدم الفني والتكنولوجي والزراعي . انتاجهم ضئيل ، ويستدينون من المالكين الكبار ومن المرابين بفوائد مرتفعة جدا ، تؤدي بهم اغلب الاحيان لان يرهنوا محاصيلهم لفترة 20 سنة .
بالسنة الى المالكين الكبار ، نجد ان لهم انواع زراعة خاصة بهم : قصب السكر ، البن والقطن . هذه الاصناف ، هي للتصدير الخارجي لا لتغذية الاسواق المحلية الداخلية . والفائض المالي الضخم للمالكين الكبار ، ينتهي على شكل ارصدة كبيرة في المصارف الاجنبية او في الاستهلاكات المقرفة الضخمة كالقصور والخدم الذين لا يحصون ، زالسيارات العديدة ، وما الى ذلك .
سؤال : هل هناك أمل ، يوما ما ، في أن يتخلى هؤلاء الملاكون الكبار عن بعض الاراضي للذين لا يملكون أي قطعة أرض ؟
الجواب بديهي وواصح : لا . هذه الطبقة الحاكمة المتأصلة جذورها في ملكية الاراضي ، لا يمكن ان تتخلى طوعا عن اسباب وجودها .
من يرغمها؟
لا أحد ، سوى الثوار .
ويلاحظ المتتبع لاحوال وأوضاع أميركا اللاتينية ، ان ليس هنتك نزاعات مصالح أساسية بين الملاكين الكبار والرأسماليين : الملاكون الكبار يستثمرون جزءا" كبيرا من اموالهم في المدينة ، والتجار والصناعيون وأصحاب المصارف يشترون الاراضي .البورجوازية في اميركا اللاتينية تملك اليوم الاراضي والرأسمال ، فهناك اذن امل ضئيل في حدوث اصلاح زراعي حقيقي في ظل الرأسمالية .
والنتيجة ؟
تحالف سياسي اجتماعي يوصد الابواب أمام التقدم الاقتصادي ، ويعيش في رعب دائم من نقمة شعبية جماهيرية متوقعة .
من يضمن قوة هذا التحالف السياسي الاجتماعي واسمراره ؟
الجيش .
الجيش يبتلع 40 أو 50 % من معظم موازنات دول أميركا اللاتينية .
و لكن ، هل يكفي التضامن مع الجيش ؟
لا .
يجب التحالف مع قوة خارجية جبارة تضمن " الاستقلال والحرية " لهذا التحالف .
ووجدت غالبية دول أميركا اللاتينية ، أن التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة ، الى حد رهن الاستقلال الوطني معها ، هو أفضل طريق للاستمرار .
وهكذا ، نرى أن الشركات الاميركية الكبرى هي التي تسيطر على معظم اقتصاد دول أمريكا اللاتينية . وهذه الشركات هي :
- ستاندرت أوبل ، شل ، غولف ، سوكوني ، وهي تسيطر على نفط فنزويلا .
- ايرون مينيغ واوربنكو ، وهما فرعان من شركة " يونايتد ستايتز ستيل "
و" بتيليم ستيل " ، تسيطران على حديد فنزويلا والبرازيل .
- اندرسون كلايتون تسيطر على قطن البيرو والمكسيك .
- يونايتد فروت كومباني ، تسيطر في اميركا الوسطى على أقتصاد غواتيمالا ونيكاراغوا وهندوراس .
هذه الشركات الضخمة وامثالها ، " تصدر " القسم الاكبر من الارباح الى الولايات المتحدة ، بدلا من استثمارها في مشاريع داخل دول أميركا اللاتينية .
الصورة واضحة : لا يكفي أن تمتلك أميركا اللاتينية الثورات الوطنية الضخمة لتصبح غنية ويعيش أهلها برخاء ، بل يجب أستغلال هذه الثروات بطريقة عادلة ومنطقية .
***
طبقة الفلاحين تستيقظ بعنف :
ان مشكلة العشرين جمهورية في أميركا اللاتينية ليست نيلها استقلالها السياسي . وقد مضى على ذلك فترة طويلة ، بل هي عدم الاستقلال الاقتصادي . ولا يمكن ممارسة السلطة السياسية دون السلطة الاقتصادية . وهكذا هو جوهر الصراع الدائم بين الانظمة والطبقات الحاكمة بين الثوار المتمردين .
والواقع أن جميع الحركات الثورية في أميركا اللتتينية ، وهي المشهورة بأنها منبع وارض الانقلابات والديكتاتوريات والاضطرابات المستمرة ، كانت تقوم بها حتى السنوات الاخيرة ، قوى من الطبقة المتوسطة تعمل لمصلحة سكان المدن والطبقات المتوسطة والعمال ، وتحتقر أو تتجاهل مشاكل الفلاحين . وهطذا الاحتقار مستمر للفلاحين المتروكين تحت سيطرة زعمائهم التقليديين ، هو من أخطر وأبرز اثار التململ السياسي والاجتماعي والعسكري في اميركا اللاتينية . وطبقة الفلاحين التي عاشت هذه السنوات الطويلة في الانزواء والاحتقار والتجاهل من قبا بورجوازيي المدن ، تحاول اليوم أن تستيقظ بعنف من سباتها العميق ، وتحتل مكانها .
ان اميركا اللاتينية لن تنمو بشكل متناسق ومتطور الا حين تسيطر نفسها على فائق اقتصادها ، بطريقة تتيح استثمار هذا الفائض في الزراعة المنتجة وفي المصانع وفي انتاج وسائل الانتاج . وهذا يعني القضاء على الاقطاعية ومصاريف الجيوش الباهظة والمؤسسات الاجنبية الضخمة .
وهنا يبرز التناقض المأساوي :
بالنسبة الى اميركا اللاتينية ، فان المشكلة الكبرى هي النمو الاقتصادي . ولكن بالنسبة الى الولايات المتحدة ، فان المشكلة الاساسية هي الاستقرار والامن اي المحافظة على الاوضاع والانظمة الحالية لدول اميركا اللاتينية ، هذه الاوضاع والانظمة التي تعتبر جسرا" متينا يربط دول اميركا اللاتينية بالولايات المتحدة . والمحافظة على الامن يعني ايضا بالنسبة للولايات المتحدة الحد من التوسع والمد الشيوعي والدفاع عن افكار العالم الحر .
هذا الوضع دفع الولايات المتحدة لتقوية تحالفها مع البورجوازيات والجيوش الوطنية . لذلك نرى مثلا في باناما مركز لتدريب الجنود على محاربة الثوار ورجال العصابات ، وتعليمهم جميع اساليب والوسائل الكفيلة بالقضاء على محاولات الثوار في قلب انظمة الحكم . ويتخرج من مركز باناما سنويا اكثر من 3 الاف ضباط من جيوش اميركا اللاتينية ، يلتحقون بعد تخرجهم بجيوشهم الاصلية ويشكلون الكادرات الرئيسية فيها .
ونرى ايضا ان الجيش البرازيلي أنشأ في شمال شرقي البرازيل معسكرات لتدريب الفلاحين الشبان ، الذين تترواح أعمارهم بين السادسة عشرة والخمسة والعشرين ، على أصول مكافحة حرب العصابات .
وفي الولايات المتحدة نفسها ، هناك معهد " فورت براك " المتخصص في تخريج عدد كبير من الخبراء في التجسس والتخريب والحرب النفسية ، والذين يوزعون نشاطهم في اميركا اللاتينية .
واميركا اللاتينية هي ، بالاضافة الى هذا الوجه الصارم ، قارة رومانطيقية حزينة تعيش في أنغام الكلمات اكثر مما تعيش على محتوى هذه الكلمات . وكبار الذين ساهموا في تحرير واستقلال دول اميركا اللاتينية هم من العاطفيين والرومانطيقيين .
وكان آخر من هؤلاء الحالمين ، رافعي شعار التحرر : " تشي " غيفارا سقط في الاطار الكبير الذي وهب حياته لتحريره والدفاع عن استقلاله الحقيقي .
***
التاعسون مصدر القوة في العالم :
كانت اميركا اللاتينية ، بتاريخها المليء بالانفجارات والثورات والانقلابات ، هي الاطار الكبير الذي شب داخله ارنستو غيفارا وانتفض عليه ، محاولا تغييره . كان هذا الاطار هو الذي أعطى ثورة غيفارا معناها الحقيقي وحدد حجمها وبرر وجودها .
لكن هناك اطارا اصغر نشأ داخله ارنستو غيفارا وانتفض عليه بدوره ساعيا نحو الاطار الكبير ليندمج داخله . وهذا الاطار الصغير هو السنوات الاولى من حياته ، من الطفولة الى عهد الشباب والانطلاق .
لم يكن ارنستو غيفارا " طبيعيا " منذ ولادته سنة 1930 في روزاريو بالارجنتين ، وفي قلب عاءلة بورجوازية محترمة . كان والده يدعي انه مهندسا معماريا والواقع انه كان يدير ورشات بناء . اما والدته فبريطانية الاصل ، تعيش على التقاليد الاصلية والبروتوكولات .
كان نحيلا ، وكان مصابا بالربو . لكن عينيه منذ صغره كانتا مضيئتان . ووالدته في حرصها على حياته ، كانت تلف جسده بالقطن ، خزفا من الشمس والرطوبة والهواء .
ادرك ارنستو منذ سنواته الاولى انه يختلف عن شقيقيه وشقيقتيه ، ويلاحظ ان والدته لا تعتني باحد كما تعتني به ، وتظهر الحرص الشديد على طعامه ونومه ويقظته . شعر انه مدلل اكثر من اللزوم . فانتفض من القطن الذي يلف جسده ، وثار عليه ، واخذ يمارس جميع انواع الرياضة :
ركوب الدراجات ، والخيل ولعبة الركبي حتى الارحاق ، كي يثبت لنفسه انه لا يمكن لاحد ان يفرض اية قيود عليه .
وفي سن الرابعة عشرة ، وارنستو ما زال يركب الدراجات ويلهث وراء الفتايات وهو يطاردهن ، قبض على والدته ، وعذبت في سجون حاكم الارجنتين بيرون ، وكانت الغربة قاسية جدا بالنسبة الى ارنستو : ان يرى امه ، التي قدت السنوات وهي تغشى على صحته من الاعتلال والضعف ، وتسهر الليالي قربه محاولة ان تخفف من زفير صدره ، فجأة في السجن ، تعذب على ايدي بعض القساة ، وهو لا يستطيع ان يفعل شيئا " .
ولعله في تلك الفترة ، ادرك معنى الظلم . وشعر كم هو قاس ان يكون الانسان مظلوما ، والاخرون ينعمون بالحياة .
لكن هذا التمزق الذي انتابه ، كان مجرد عاطفة صبي في الرابعة عشرة ، لا يعي تماما ابعاد القسوة والظلم والالم . ويقال ان ارنستو ، اراد ان يفجر الثورة والنقمة التي في داخله على السلطات الحاكمة ، نزل الى الشار ع وتخانق مع بعض زملائه ، وانه يومذاك نال علقة محترمة .
ولعب نفوذ العائلة دورا كبيرا ، فافرج عن والدة ارنستو بعد فترة قصيرة من سجنها .
انهى ارنستو دروسه الثانوية ، وكان عليه ان يختار بحكم انتمائه الى عائلة بورجوازية ، بين مهنتين : المحاماة او الطب .
وحين سأله والده السؤال التقليدي :
هل تريد ان تصبح محاميا? او طبيبا? ؟
كان جوابه سريعا" واختار مهنة الطب .
وكان ارنستو يعتقد انه بالطب سيساعد كل مريض على التحرر من مرضه . ومن غريب الصدف ، ان ارنستو سيختار التخصص في الامراض الحساسة التي يصعب مداواتها .
وعلى مقاعد الدراسة الجامعية ، يكشف ارنستو غيفارا شيئا يختلف عن ابعاد وآفاق الطب الحديث واسرار الجسم البشري ، حين يلتقي مع الافكار الثورية ويقرأ كتب ماركس ولينين وتروتسكي ، بالاضافة الى اطلاعه على الثورة الفرنسية ومفكريها .
كان ارنستو شغوفا الى حد كبير بقراءة أعمال ماركس ولنين وتروتسكي ، وكان يفضل كتابات تروتسكي لانها تحمل في طياتها منابع الثورة الدائمة . وادرك غيفارا ان الثورة الحقيقية التي ينشدها لا تقتصر على التحرر من امراض الجسد ولا على التحدي الفردي للمصائب والظروف الطبيعية ، بل الثورة الحقيقية هي الثورة الشاملة العميقة ، التي تقلب تربة الارض رأسا على عقب ، لتزرع فيها الخصب والحياة الجديدة . وبقيت هذه الافكار راسخة في ذهن غيفارا ، حتى انتهاء فترة التدريب العسكري .
لكن نوعا من الزهق والسأم ينتاب غيفارا , فيشعر معه بأن مهنة الطب ليست شيء ، وأن شيئا" ما ينقصه ، شيئا" ما في داخله يناديه لأن يخرج من بيئته الضيقة ، فينطلق ويشاهد الناس .
***
مئات العيون جائعة مترددة :
وذات يوم من عام 1954 ، وارنستو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر ، يقرر أن يكتشف حدود ما وراء حدود بلاده ، فيترك العائلة وينطلق في السكوتر فيقطع السهول الشاسعة ويصعد الجبال ذات الطرق الضيقة الملتوية ، ويشاهد مئات العيون ، الاف العيون ، جائعة مترددة . شاهد هذه المرة عالم البائسين والعطلين عن العمل والباحثين عن الحرية والمكتوبين والمظلومين ، وتذكر عبارة لسان جوست كانت قرأها وهو يتعلم الفرنسية ، ويدرك الان تماما معناها الحقيقي ، تقول التاعسون هم مصدر القوة في العالم .
حين شاهد الوجه الاخر للانسانية المتقدمة المزدهرة ، شعر بقوة غريبة تتجاذبه ، وسؤال كبير يلح عليه كأنه يصفعه ويريد ان يوقظه : ماذا يعني أن تكون طبيبا" وتفتح عيادة في شارع كبير ان تصلح الاجسام وتداويها ، بينما هناك الملايين محتاجون الى طب من نوع آخر ، يغير كل حياتهم لا جزءا صغيرا من أجسامهم ؟
وادرك ان مهنته الحقيقية ليست الطب ، وان التحرر الصحيح لا يعني فقط خروج الانسان من القطن الذي يلف جسمه ، بينما هناك الملايين يلفها قطن اكثر ايلاما وقسوة بالنسبة الى النفس البشرية .
ويعود غيفارا الى المنزل ، ويقول لوالده انه لن يمارس الطب ، ولن يفتح عيادة ، ولن يستقبل الزبائن ، ولن يتزوج ويستقر في بيت هادئ ، ولن ينجب الاطفال بل سيرحل .
ونرى ايضا ان الجيش البرازيلي أنشأ في شمال شرقي البرازيل معسكرات لتدريب الفلاحين الشبان ، الذين تترواح أعمارهم بين السادسة عشرة والخمسة والعشرين ، على أصول مكافحة حرب العصابات .
الى أين سأله والده ؟
- الى أي مكان ، اجاب ارنستو ، لا الحدود تعني لي شيئا" ولا الاوطان ولا الانظمة ولا القواعد الاجتماعية ولا القوانين . الذي يهمني ، هو ان في العالم ناس تأكل وتهضم ، والناس تجوع ولا تعرف ان تهضم .
- يبدو انك متعب قال الوالد . استرح ، وغدا نتحدث من جديد في مشاريع المستقبل .
فعلا ، كان ارنستو تعبا .
لكن تعبه لم يكن تعبا" عابرا ، تذهب به ليلة راحة واحلام هنيئة . كان تعبه تعب ملايين التاعسين في العالم . ولم يكن ليرضى بأن يستريح من هذا التعب ، ما لم يسترح الملايين من المتعبين .
ونام ارنستو تلك الليلة وفي الصباح غادر المنزل .
***
يصفق الناس وراءه بحرارة :
للمرة الاولى في حياته "يلبط " غيفارا الكرسي الذي كان يستقر عليه ، ويتخلى عن مجتمعه وعائلته ، لينطلق في دروب الثورة ، يكشف دنيا المظلومين والمتعبين والتاعسين .
ومنذ ذلك اليوم ، بعدما صفق والده الباب وراءه بغضب وحزن ، حين قال له " ان حياته الحقيقية تبدأ وراء الحدود " ، نرى ارنستو غيفارا في كل مظاهرة او اضراب او معركة او ثورة ، من اجل الحرية .
في بيرو ، في تشيلي ، في بوليفيا ، في كولومبيا ، في فنزويلا ، في غواتيمالا حيث يصبح احد مستشاري الرئيس الثائر جاكوبو آربنز اثناء ثورته على الطبقة الاوليغاشية المحلية الحاكمة وعلى نفوذ الشركات الاجنبية (ولاسيما الاميريكية ) الكبرى .
< في FONT على ، . بيرو تشيلي بوليفيا كولومبيا فنزويلا غواتيمالا حيث يصبح احد مستشاري الرئيس الثائر جاكوبو آربنز اثناء ثورته الطبقة الاوليغاشية المحلية الحاكمة وعلى نفوذ الشركات الاجنبية (ولاسيما الاميريكية ) الكبرى>
وبعد سقوط اربنز ، يهرب غيفارا الى المكسيك ويشتد عليه مرض الربو بسبب رطوبة الجو .
وفي تلك الفترة ، يلتقي غيفارا حبه الاول .
لم يكن حبه الاول عنيفا ، بل كان شفقة اتخذ شكل " العرفان بالجميل " ، وهذا اسوأ وأقسى أنواع الحب كما سيقول بعد سنوات .
واشتد المرض على غيفارا ، وتعددت النوبات الخطيرة التي كانت تنتابه ليلا نهارا ، فاضطر الى اللجوء الى مستشفى صغير ، ليعالج نفسهويجتاز مرحلة الخطر.
وساعده اخلاص الممرضة ، واسمها هيلدا غايدا ، التي تكبره بعشر سنين والتي سيتزوجها وهو خارج المستشفى معافى ، اعترافا منه بفصلها عليه وحياته .
وبعد خروجه من المستشفى معافى ، ينطلق غيفارا في الادغال الكثيفة ، ويلتقي براوول كاسترو الذي يقدمه الى شقيقه فيديل .
كان ذلك في صيف 1956 .
ويقول غيفارا بعد سنوات مضت على هذا اللقاء ، في رسالة الاستقالة الشهيرة :
" خطأي الوحيد ، يا فيديل ، انني لم اثق بك لحظات لقائنا الاول ، ولم ادرك صفاتك الثورية النبيلة . "
ورغم الحذر الذي سيطر على اللقاء الاول بين غيفارا وكاسترو الثائر فأن كلا من الاثنين كان يشعر بأنه محتاج الى الاخر : غيفارا كان يرى في كاسترو الثائر الذي يريد ان يحقق ثورة في بلدة كوبا ويخلق من هذه الثورة انموذجا للثورات الاخرى في اميركا اللاتينية ، وكاسترو كان يرى في غيفارا الانسنا الثوري الصافي الرقيق الاحساس المثقف والواسع الاطلاع .
ومنذ 1956 ، حتى انتصار الثورة في كوبا ، ولحظة الفراق الاخيرة ، كان غيفارا وكاسترو رفيقي نضال واحد مشترك ، ورفيقي احلام وامال .
***
(غرانما) :
يروى " تشي " غيفارا في كتابه " ذكرايات الحرب الثورية " فصولا عن الاحداث التي رافقت رحلة النضال الثوري و مهدت لانتصار الكاستروية في كوبا
ولعل من ابرز ما في الكتاب ، وما في الذكريات ، قصة الفشل الاول وقصة الانتصار الاول.
في 26 تشرين الثاني 1956 ، اقلع من المكسيك يخت " غرانما " في طريقه الى كوبا ، حاملا على ظهره فيديل كاسترو وشقيقه راوول وغيفارا ، بالاضافة الى 81 ثائرا" .
لم يكد الثوار ينزلون الى شاطئ كوبا ، حتى داهمتهم قوات باتسيتا ، فلم ينج منهم سوى 12 رجلا ، كان بينهم فيديل وراوول وغيفارا . ولجأوا الى جبال " سييرا مايسترا " ليبدأوا المسيرة الطويلة نحو الحكم في كوبا " .
وفي تلك الفترة ، اظهر غيفارا براعة ونشاطا لا حدود لهما , كان يشترك في تجنيد الرجال الجدد ، ويتولى تدريبهم على السلاح ، وتلقينهم اصول واساليب وتكتيك حرب العصابات ، ويقرأ لهم كتب الادب وسير الثورات ورجال التاريخ العظماء .
وكان غيفارا يؤمن بأن كتب الادب وسير الابطال ضرورية للثوار بقدر ضرورة البندقية والمدفع .
وكان يؤمن كل ما يطلبه الرجال والرفاق : اقام مصنعا للقنابل اليدوية ، انشأ فرنا لصنع الخبز ، نظم مدرسة لتعليم الفلاحين القارءة والكتابة ، وكانوا يلجأون اليه حين يحتاجون الى نصيحة ما ، ويختلفون في أمر من الامور .
ويروي غيفارا في كتابه " ذكرايات الحرب الثورية " قصة المعركة الاولى التي هزم فيها الثوار ، وهي معركة " الغيريادي بيو " .
يقول غيفارا :
" في كانون الثاني 1956 ، بعد تعرض ياخت " غراما " للهجوم ومقتل معظم الرجال ، ولجوئنا الى الجبال " سييرا مايسترا " ، اكتشفت قوات باتيستا المكان الذي نختبئ فيه ، وهو وهو مكان يعرف باسم " اليغريادي بيو " .
" كنا مرهقين بعد رحلة طويلة مؤلمة ، وان شئت الحقيقة ، فقد كانت رحلة مؤلمة اكثر منها طويلة ، مشينا ساعات لا تحصى عبر البرك والمستنقعات . وكنا نرتدي احذية جديدة ، وكنا جميعا قد اصبحنا مصابين ببثور والتهابات في اقدامنا .
ولم تكن احذيتنا الجديدة والنباتات الفطرية هي عدونا الوحيد على اية حال .
وكان كل ما بقي من معداتنا الحربية هو بنادقنا ، واحزمة الطلقات وكمية صغيرة من الذخيرة المبللة . و كانت مؤونتنا الطبية قد اختفت ، وتركنا " جربندياتنا " في المستنقعات و كنا قد قضينا الليلة السابقة في احد حقول القصب التابعة لمصنع نيكويرو للسكر .
استطعنا ان نهدئ من حدة جوعنا وعطشنا بمص اعواد القصب . ولم يكن الحراس الذين يبحثون عنا في حاجة الى اي أثر ليتعقبوا خطواتنا على اية حال .
فقد كان الرجل الذي عمل مرشدا لنا قد خاننا وكشف امرنا كما اكتشفنا فيما بعد .
لقد تركناه يذهب وهذا هو خطأ ارتكبناه عدة مرات في كفاحنا الطويل حتى تعلمنا انه لا ينبغي عندما نكون في مناطق خطرة ، ان نثق في اشخاص مدنيين نجهل سجلهم الشخصي .
عندما طلع علينا صباح يوم 5 كانون الاول كنا لا نكاد نقوى على السير و على شفا الانهيار ، حتى اننا كنا نسير مسافة قصيرة ، ثم نتلمس فتررة طويلة من الراحة .
وصدرت الاوامر بأن نتوقف عند احد حقول القصب في غابة قريبة من الادغال الكثيفة . ونام معظمنا طوال ساعات الصباح .
وعند الظهر بدأنا نلاحظ علامات نشاط غير عادي . لقد بدأت طائرات السلاح الجوي من طراز " بايبر " مع نوع اخر الطائرات الصغيرة ، الى جانب طائرة خاصة ، تحوم فوق المكان الذي نختبئ فيه . ومضى رجالنا يقطعون ويقصون اعواد القصب دون ان يدركوا ان رؤيتهم كانت واصحة تماما من هذه الطائرات التي كانت عندئذ تحوم ببطء وعلى ارتفاع منخفض .
كنت انا طبيب القوات وكأن من واجبي ان اعالج الاقدام المصابة بالبثور . وما زلت اتذكر آخر مريض لي ذلك الصباح ، كان اسمه " همبرتو لاموثي " وكان ذلك اليوم هو آخر يوم له في الحياة . وما زلت اذكر كيف يبدو متعبا ومرهقا وهو يمشي من المركز الذي اقمته للاسعافات الاولية الى موقعه ، وكان لايزال ممسكا حذائه في يده .
وكنت انا والرفيق <<الميدا مونتاني>> نستند الى شجرة ونتناول حصتنا الهزيلة من الطعام – نصف قطعة سجق وقطعتين من الخبز الجاف – عندما حطمت الصمت طلقة نارية واعقبها مباشرة وابل من الطلقات نزل على قواتنا .
ولم تكن بندقيتي من اجود الانواع ، وكنت انا قد طلبت هذه البندقية عمدا بسبب سوء حالتي الصحية نتيجة هجمات الربو الذي ازعجني طوال الرحلة في البحر ، ولم أكن اريد أن أتحمل مسؤولية فقدان سلاح جيد . ولا أكاد أستطيع ان اتذكر ما حدث بعد الموجة الاولى من الطلقات النارية .
تقدم مني الميدا يطلب اوامر ، ولكن لم يكن هناك من يصدر الاوامر ، وقيل لي فيما بعد ان كاسترو كان يحاول عبثا تجميع الرجال في حقل قصب السكرالمجاور الذي يمكن الوصول اليه ببساطة بعد عبور الطريق . وكان الهجوم المفاجئ بالضافة الى عنف النيران ، اكبر من طاقتنا .
***
صندوق الذخيرة وصندوق الادوية :
عاد الميدا ليتولى قيادة مجموعته ، والقى صندوقا من الذخيرة عند قدمي ، وعندما عاتبته على هذا العمل نظر الي وعلى وجهه علامات الضيق ، وتمتم كما لو كان يقول : اليس هذا الوقت الذي ينبغي ان الازم فيه صناديق الذخيرة ؟ ثم مضى في طريقه نحو حقل قصب السكر واختفى . وقد قتله رجال باتيستا بعد قليل .
ربما كانت هذه هي المرة الاولى التي اواجه فيها مشكلة الاختيار بين اخلاصي للطب وواجبي كجندي ثوري . فهناك عند قدمي حقيبة مليئة بالادوية وصندوق من الذخيرة تاركا الادوية وبدأت اعبر المكان المكشوف متجها الى حقول قصب السكر . واذكر ان فوسينو بييز كان راكعا يطلق الرصاص من مسدسه الاوتوماتيكي وبالقرب مني رفيق يدعى أربونتوزا كان يحاول الاتجاه نحو حقل قصب السكر .
وفجأة شعرت بضربة حادة في صدري وبجرح في رقبتي . لقد أصابتني احدى رصاصات جنود باتيستا ، وتصورت على على وجه اليقين اني ميت . وكان اربنتوزا يتقيأ وينزف دماء غزيرة من ثقب عميق احدثته رصاصة من عيار 45 ملليماترا وكان يصرخ " لقد قتلوني " وبدأ يطلق نيران بندقيته بلا هدف محدد .
وانبطحت ارضا واستدرت نحو فوستينو وقلت لقد اصبت ونظر الي فوستينو وكان لا يزال يطلق النار وقال " لا يهمك " ولكنني استطعت ان ادرك من نظرته انه يعتبرني ميتا بالتأكيد .
اطلقت رصاصة في اتجاه الادغال وانا لا أزال منبطحا على الارض وكان ذلك بشعور غريزي مماثل لشعور الجرحى الاخرين . وبدأت على الفور افكر في أفضل طريقة للموت ، وتذكرت قصة لجاك لندن حيث أن البطل ، وقد ادرك انه لا بد سيتجمد حتى الموت في الاراضي المقفرة في الاسكا استند بهدوء الى شجرة واستعد ليموت بطريقة كريمة . وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي خطر لي في تلك اللحظة .
وسمعت رجلا" راكعا على ركبتيه يقول انه من الافضل لنا ان نستسلم لكن صوتا ، علمت فيما بعد انه صوت كاميلو ، صاح قائلا" : لا . . لا ينبغي أن يستسلم احد هنا . وأعقب ذلك بكلمة من اربعة حروف . واقبل احد الرفاق وهو يجري مسرعا ويتنفس بصعوبة . وأراني جرحا احدثته رصاصة ، وكنت على يقين من أن الرصاصة لا بد ان تكون قد اخترقت الرئتين وقال لقد جرحت . فأجبته ببرود وأنا ايضا ثم زحف والفاق الاخرون الذين لم يصابوا نحو حقل قصب السكر ، وللحظة بقيت وحدي مستلقيا ، انتظر الموت . لكن الميدا أقبل علي وحثني على التقدم باتجاه حقل قصب السكر .
ورغم الامي القاسية ، جررت نفسي الى حقل القصب حيث رأيت الرفيق راوول سوريز الذي اطارت ابهامه رصاصة بندقية .
ثم تحول كل شيء الى خلية من الطائرات التي تحلق على ارتفاع منخفض وتضرب الحقل بنيران مدافعها الرشاشة ، مما ضاعف الارتباك والفوضى ، وسط مشاهد مؤلمة ومشاهد تثير الضحك . كان هناك مثلا احد الرفاق الثقيل الوزن وهو يحاول بأقصى جهده ان يختبىء وراء عود واحد من اعواد القصب ، بينما راح رجل آخر ، وسط كل هذا الاضطراب يصرخ بلا سبب قائلا : ((الصمت)) .
ونظمنا مجموعة بقيادة الميدا كانت تضم الملازم راميرو فالديز والرفيقين شاو وبنيتيز . وعبرنا آخر ممر بين صفوف القصب ثم وصلنا بسلام الى الادغال . وفجأة سمعنا صيحات صادرة من حقل القصب: ((حريق))! ورأينا السنة اللهيب وأعمدة الدخان ترتفع عاليا. ولا استطيع ان اتذكر ماذا حدث بالضبط اذ كنت اشعر بمرارة الهزيمة ، وكنت واثقا من انني سأموت. وواصلنا السير حتى خيم الظلام واصبح من المتعذر علينا ان نستمر ، فقررنا ان ننام متلاصقين معا كرزمة واحدة . كنا نكاد نموت من الجوع والعطش ، وضاعف البعوض من عذابنا.
"كانت هذه اول معركة لنا في 5 كانون الاول عام 1956 في ضواحي نيوكويرو. وكانت بداية ما اصبح فيما بعد جيش الثوار."
و يروي غيفارا في كتابه "ذكريات الحرب الثورية" ايضا حكاية المعركة التي انتصر فيها الثوار للمرة الاولى.
يقول غيفارا:"كان اول انتصار لنا نتيجة هجوم على حامية صغيرة من حاميات الجيش عند مصب نهر لابلاتا. وسرى فينا اثر هذا الانتصار سريان الكهرباء. لقد كان اشبه بدوي النفير ، يشير الى ان جيش الثوار موجود بالفعل ومستعد للقتال. لقد كان تأكيدا جديدا لاملنا في النصر الكامل.
"في 14 كانون الثاني 1957 ، بعد فترة قصيرة من الهجوم لامفاجيء في"اليغريادي بيو" توقفنا عند نهر ماجدلينا. كانت هناك ارض صلبة تمتد من سييرا وترتفع فيما بين نهري ماجدلينا ولابلاتا. واصدر فيديل اوامره بالتمرين على هدف كمحاولة اولية لتدريب قواتنا. وكان بعض الرجال يستخدمون السلاح لاول مرة. ولم يكن احد منا قد استحم لايام كثيرة ، وانتهزنا الفرصة فذهبنا للسباحةز واستطاع الذين كانوا قادرين على ذلك ، ان يستبدلوا ملابسهم بملابس نظيفة.
في ذلك الحين كانت اسلحتنا تتألف من 9 بنادق ذات منظار وتسع بنادق شبه اوتوماتيكية ومدفعين رشاشين وبندقية عيار 16 .
بعد ظهر ذلك اليوم تسلقنا آخر تل قبل ان نصل الى اطراف لابلاتا . وكنا نقتفي اثرا حدده لنا خصيصا فلاح يدعى "ملكويداس الياس".
***
عشرة الاف دولار لقتل كاسترو :
وكنا قد استخدمنا هذا الرجل بتوصية من مرشدنا ايتميو . كان مرشدنا هذا شيئا اساسيا ، وكان مثالا للفلاح الثائر . ولكنهم قبضوا عليه وارهبوه فيما بعد ، وبدلا من ان يقتلوه عرضوا عليه 10 الاف دولار ورتبة ملازم اذا استطاع ان يقتل كاسترو . وكاد ايتميو ينفذ الصفقة لولا انه كان يفتقر الى الشجاعة ، ومع ذلك ، فقد كان مفيدا جدا للعدو لانه ابلغ عن موقع عدة معسكرات من معسكراتنا .
وفي تلك الفترة ، فترة الهجوم على الحامية ، كان ايتيمو يخدمنا باخلاص وكان واحدا من كثيرين من الفلاحين الذين يحاربوا الملاكين الكبار من أجل اراضيهم .
وفي 15 كامون الثاني أبصرنا ثلاث ثكنات لابلاتا التابعة للجيش ، وكانت لا تزال في طور البناء . وشاهدنا رجالا انصاف عراة يتحركون هنا وهناك في الثكنات ، واستطعنا ان ندرك انهم جنود . ولم نقم بمناورتنا و قررنا تأجيل الهجوم حتى اليوم التالي .
وفي فجر اليوم التالي بدأنا نراقب مركز الجيش . وكان الذورق قد 1هب اثناء الليل ولم نشاهد احد من الجنود في أي مكان . وفي الثالثة بعد الظهر قررنا نقترب من الطريق المؤدي الى الثكنات ونلقي نظرة . ولم يهبط الليل حتى كنا قد عبرنا نهر ابلاتا واتخذنا مواقنا على الطريق ، ثم قبدنا على اثنين من المزارعين كان احدهما من مرشدي الحكومة .
وعندما اكدنا لهما انه لن يصيبهما أي أذى ، قدما الينا معلومات ثمينة منها ان عدد جنود الثكنات 15 جنديا ، وانه سوف يمر بنا في اية لحظة شيكو اوزوريو وهو من أسوأ مراقبي العمال سمعة في المنطقة . وكان مراقبوا العمال يعملون لحساب اسرة لافيتي التي أنشأت لنفسها القطاعية هائلة كانت تحميها بفرض جو من الارهاب بمساعدة اشخاص امثال شيكو .
وبعد قليل ، ظهر شيكو على ظهر بغل ومعه صبي زنجي . وكان مخمورا . وتقدم سانشيز وأمره بالتوقف باسم حرس الريف فأجاب شيكو على الفور : بعوضة وكانت هذه هي كلمة السر .
كنا نبدو كمجموعة من القراصنة . ولكن شيكو كان مخمورا الى درجة ان استطعنا خداعه .
وتقدم فيديل كاسترو ، وبدت على وجهه تعابير الغضب ، وقال أنه كولونيل بالجيش جاء ليتحرى كيف لم تتم تصفية الثوار . وأعلن أنه سيذهب الى الغابات حيث يجد الثوار الذين يبحث عنهم .
ثم وجه كاسترو كلامه الى شيكو وقال ان الجيش لا يؤدي مهمته كما يجب .
واعترف شيكو بأن الحراس يقضون معظم وقتهم داخل الثكنات ، يأكلون ولا يعملون شيئا واحيانا يخرجون في جولات لا فائدة منها . واكد شيكو انه يجب اباجة الثوار .
وسألناه بحذر عن الاشخاص الذين يتعاونون مع السلطات ولااشخاص الغير المتعاونين من سكان المنطقة فبدأ يتكلم ونحن نسجل الاسماء . وعندما كان شيكو يقول عن شخص ما أنه سيء ، كنا نفهم أنه من أصدقائنا . وهكذا ، تجمع لدينا 24 اسما من المتعاونين مع سلطات باتيستا وكان شيكو لا يزال يثرثر .
وشرح لنا كيف قتل اثنين من الرجال ثم اضاف : ولكن جنرالي باتيستا اطلق سراحي على الفور .
وسأل فيديل شيكو عما يمكن أن يفعله اذا امسك بكاسترو ، فأجاب بحركة معبرة سوف امزقه . ثم قال وهو يشير الى حذائه ، وكان من نوع الاحذية المكسيكية التي يرتديها رجالنا : انظروا . ان الحذاء هو حذاء أحد اولاد الكلاب الذين قتلناهم . ودون ان يدري وقع شيكو وثيقة اعدامه .
وبناء على اقتراح فيديل كاسترو وافق شيكو على مرافقتنا الى الثكنات حتى نفاجئ الجنود ونثبت لهم انهم غير متأهبين وغير لائقين للقيام بواجبتهم .
وبينما كنا نقترب من الثكنات ، يتقدمنا شيكو ، كنت لا أزال غير واثق من انه لم يفطن الى اللعبة . لكنه تابع سيره ، وهو لا يعلم شيئا وكان يردد بعض الاغاني الشعبية البذيئة .
عندما عبر شيكو النهر واقترب من الثكنات ، فال له كاسترو ان الاصول العسكرية تقضي بأن يقيض السجين . ولم يقاوم الرجل ومضى في سيره كسجين هذه المرة ، دون ان يدرك تماما حقيقة اللعبة . وقال لنا ان الحراس الوحيدين يقفون عند مدخل الثكنات التي لا تزال قيد البناء وعند منزل مراقب العمال .
وقادنا شيكو الى مكان قريب وذهب أحد الرفاق ليستكشف المكان ثم عاد يقول ان ما قاله شيكو صحيحا . وكنا على وشك الاستعداد للاقتراب من الثكنات ، عندما اجبرنا الى النسحاب الى الغابات ، حتى يمر ثلاثة من الحراس الخيالة . وكان هؤلاء يدفعون امامهم رجلا يحثونه على السير بوحشية وهم يتبعونه على ظهر الخيل .
مر الحراس على مسافة قريبي مني ، وسمعت الفلاح يتوسل ويقول : انا واحد من اباعكم . وجاء الرد من احد الرجال ، عرفنا فيما بعد ان العريف بازول : اخرس واستمر في السير والا الهبت ظهرك بالسوط .
وتصورنا ان الفلاح سيكون في مأمن من الخطر اذا ظل خارج من الثكنات وقت هجومنا عليها . ومع ذلك ففي اليوم التالي ، عندما سمع الحراس في نبأ الهجوم قتلوه في الحال .
كانت لدينا 22 قطعة سلاح معدة للهجوم . وكانت فترة حاسمة لاننا كنا نفتقر الى الذخيرة . وكان لا بد من الاستلاء على ثكنات الجيش لانا الفشل كان يعني ببساطة اننا سنفقد كل ذخيرتنا ونصبح عاجزين تماما .
كان كل من جوليو دياز الذي قتل فيما بعد في معركة وكاميلو سينفيغوس من اشهر قادة ثوار كوبا وقد قتل في حادث طائرة وفيتر ومور اليس مسلحين ببنادق شبه اوتوماتيكية . وكان عليهم ان يحاصروا المنزل الواقع الى اليمين والذي تظلله اشجار النخيل . أما فيديل كاسترو ويونيرسو سانشيز ولويس كريسبو وغارسيا وفاجاردو وأنا فكان علينا ان نهاجم الوسط . وترك لراوول كاسترو ومجموعته ، والميدا ومجموعته مهاجمة الثكنات من الشمال .
واقتربنا حتى مسافة حوالي 40 مترا . وفي ضوء القمر المكتمل ، بدأ فيديل كاسترو الهجوم باطلاق النار من رشاشه ثم تبعته بنادقنا . وبعد فترة طلبنا من العدو الاستسلام فورا ، ولكن الجواب جاء سلبيا .
وأبدى الحراس مقاومة أعنف مما كنا نتوقع . وكان احد العرفاء يرد بنيران بندقيته كلما طلبنا من الجنود الاستسلام .
ثم صدرت الينا الاوامر باستخدام القنابل اليدوية البرازيلية القديمة التي كانت لدينا . وقذفت انا وكريسبو ما معنا من قنابل ولكنها لم تنفجر . وقذف راوول أصبع من الديناميت ولم ينفجر ايضا" . واصبح من الضروري ان نقترب من المنازل ونشعل فيها النيران حتى ولو غامرنا بأرواحنا . وقام يونيفرسو سانشيز بمحاولة فاشلة كما فشل سينفيغوس أيضا" .
وأخيرا اقتربت انا ولويس كريسبو من احدى المزارع واشعلنا النيران .
وكشف لنا اللهب ان المكان كان مخزنا لجوز الهند . ولكن الحريق ادخل الرعب في نفوس الجنود فكفوا عن القتال . وحاول احجهم ان يهرب ، لكنه وجد نفسه امام فوهة بندقية لويس كريسبو الذي اطلق عليه رصاصة اصابته في صدره . وكاميلو سينفيغوس المتحصن وراء الشجرة ، يطلق النار على العريف الذي كان يحاول الهرب .
قضت رصاصتنا على مقاومة الجنود فأصبحوا عاجزين عن الدفاع عن انفسهم .
وكان سينفيغوس اول من دخل المنزل الذي كنا نسمع منه صيحات تطالبنا بالاستسلام . وبسرعة جمعنا كمية من غنائم الحرب : 8 بنادق ومدفع رشاش طومسون وحوالي الف رصاصة . وكنا قد استهلكنا حوالي 500 رصاصة . وبالاضافة الى لك ، استولينا على احذمة طلقات ، ووقود وسكاكين وملابس وبعض الاطعمة . كانت خسائر الجنود : قتيلين وخمسة من الجرحى وثلاثة اسرى .
ولم يصب رجالنا باي خدش ، واشعلنا النيران في مساكن الجنود . وبعد ان اعتنينا بالجرحى وكان ثلاثة منهم في حالة خطيرة ماتوا فيما بعد . وانضم احد الجنود فيما بعد الى قواتنا تحت قيادة راوول كاسترو ، وتمت ترقيته الى رتبة ملازم لكنه مات في حادث طائرة اثناء الحرب .
كان موقعنا بالنسبة الى الجرحى على النقيض من اسبداد الجيش . فجنود باتيستا لم يكونوا يقتلون الاسرى الجرحى فحسب ، بل كانوا يتركون رفاقهم الجرحى ويهربوا .
وكان لهذا الفارق يبيننا وبين معاملة الجنود تأثير كبير على العدو ، ولعب دورا مهما في انتصارنا .
وقد اصدر فيديل كاسترو اوامره باعطاء الادوية الى الاسرى لكي يتولوا العناية بالجرحى . وانتزعت من هذا القرار ، لانني شعرت كطبيب ملتزم بأن الضرورة تقتضي توفير الادوية الموجودة بين ايدينا لرجالنا نحن . لكن كاسترو اصر على رأيه ، ووزع الادوية بنفسه على الجرحى . واذكر تماما انني ندمت بيني وبين نفسي فيما بعد ، حين تذكرت هذا الحادث . وبعد توزيع الادوية ، تفقدنا الاسرى ، واطلقنا سراح جميع المدنيين .
كانت هذه اول معركة ينتصر فيها جيش الثوار . وفي هذه المعركة ، كان لدينا من الاسلحة اكثر مما كان لدينا من الرجال . ولم يكن الفلاحون قد اصبحوا مستعدين بعد تمام الاستعداد للانضمام الينا . ولم يكن هناك اي اتصال بالقواعد في المدن على الاطلاق .
وتابع الثوار طريقهم ، وتابعوا نضالهم ومعاركهم ضد جنود باتيستا ، وكانت كل معركة وخطوة تجلب لهم المزيد من الانصار والمؤيدين . ولم تطل نهاية عام 1958 حتى اصبح عدد الثوار ما لا يقل عن 10 الاف ثائر . وكان موعد هؤلاء مع باتيستا غي هافانا ، ليلة رأس السنة ، في 31 كانون الاول 1958 .
***
البشر مسؤولون لا الطبيعة والظروف :
وفي تلك الفترة ، كانوا يعزون مصائب كوبا الى الطبيعة القاسية او الظروف الصعبة او حكم التاريخ القاسي . وجاء كاسترو وغيفارا ، ومعهما النظرة الثورية العميقة التي تبحث عن المسؤولين بين البشر انفسهم ، ولا تتهرب فتنسب الظلم والبؤس الى الظروف والاقدار .
كانت الاسابيع الاولى التي اعقبت دخول كاسترو كاسترو وغيفارا هافانا واستيلاء الثوار على الحكم ، اسابيع ابتهاج ورضى . وبالرغم من ان كاسترو لم يدخل في الحكومة الاولى