في فيروزة عاشت الأهالي على المحبة المتبادلة من قبل اليوم الأول لرحيلهم إليها من قرية فيروزة الأم وهي فرتقة ..وكل ماكان يميز أهالي هذه القرية البديعة التعاون المشترك بين الأهالي لبناء قريتهم التي كانت نموذج فريد للقرية المثالية على مستوى الحياة الجماعية والأجتماعية وتجلى ذلك في مناسبات عديدة جدا معظم سكانها يعلمها أو حكيَّ لهم عنها من الأباء والأجداد ..
في فيروزة كانت ومازالت الأراضي الزراعية خصبة جدا بالرغم من شحة المياه الجوفية في السنوات الأخيرة ..ولكن سابقا كانت المواسم الزراعية البعلية خيرة جدا..حيث كان يزرع في أراضيها القمح والشعير والعدس والبقوليات والخضروات ..وأذكر من أيام الحصيدة في الحقول كيف كان سنابل القمح كانت تعلو في الإرتفاع المتر ونصف وكيف كانت المناجل تجمع الأغمار ومن ثم تجمع البيادر وتتم الدراسة ثم تجمع الحبوب في أكياس تملىء المخازن في الديار بينما يجمع التبن كعلف للحيوانات التي كانت تربى في القرية وكانت بأعداد كبيرة جدا ..
في الستينات كان هناك طاحونة واحدة في القرية يتم فيها طحن القمح للحصول على الطحين ومن ثم الخبز والحصول على البرغل أيضا الذي كان هو الأساس في الحياة اليومية.وكان هناك خبز الصاج وخبز التنور حيث كانت التنانير منتشرة وبكثرة وتقريبا في كل بيت ...ومن ثم تم إنشاء فرن متواضع لفاضل حنون أبو ماجد ..وأذكر كيف كنا في مثل هذه الأيام نذهب مع أهالينا إلى ذلك الفرن لخبز القراص الذي كان ومازال أطيب مايقدم كضيافة في مواسم الأعياد وخاصة في عيد الفصح المجيد بعد فترة الصيام المبارك ..ومن ثم تم جر الكهرباء إلى فيروزة وتم إنشاء فرن جديد كان متواضع في بداياته ومن ثم تطور بعد معانة كبيرة عاناها الأهالي من سوء إنتاج الخبز في أغلب الأوقات ..في هذا الوقت كان كل إنتاج الحبوب يباع إلى الدولة وربما يسمح بأن يأخذ كل مزارع مايحتاجه للمونة إن كانت من الطحين أو من البرغل وبعض الأحتياجات الأخرى بينما سابقا كان الفلاح يتصرف بإنتاجه لنفسه....وفي نفس الوقت تم إنشاء المؤسسات الأستهلاكية التعاونية وتم توزيع الكوبنات أو البونات على كل عائلة وذلك بحسب عدد الأفراد للحصول على بعض المواد التموينة كالسكر والرز والزيت والشاي وبعض المواد الأخرى بأسعار بسيطة جدا وكانت الدولة تتحمل القسم الأكبر من الأسعار والكل كان يشعر بفرق الأسعار مابين السوق والمؤسسات الأستهلاكية التعاونية خاصة للمواد التي توزع بالبونات ..بحيث كان البعض يبيع بالسوق مايفيض عنه من هذه المواد ...
وهنا لابد أن نتذكر كثير من الأمور الهامة ..كلنا عرف كيف تشكلت لجنة التبرع للكهرباء وكيف ساهمت الأهالي بقسم كبير من شبكة الكهرباء في القرية بالتبرعات الشخصية وكان لابد لكل من يحصل على ساعة كهرباء لابد من أن يبرز إشعار من اللجنة بأن قام بالتبرع أو دفع مايتوجب عليه حسب تقيمات اللجنة ..وبعد أن تم وصول الكهرباء بعدة سنوات ألتغى هذا الشرط الجزائي ..أي الكثيرون ممن رحلوا إلى فيروزة لم يساهموا أبدا بتمديد شبكة الكهرباء في فيروزة وقسم كبير منهم مازالت قيود نفوسهم في بلداتهم التي رحلوا منها ..
وبات من الصعب على البلدية أو المؤسسة الأستهلاكية أن تعرف كم هي مخصصات أهل القرية ..وفي نفس الوقت زادت الهجرات من القريةإلى بلاد الأغتراب ...وغالبية الأهالي التي سافرت كانت تملك بونات المواد الأستهلاكية ولكن وللأسف تركت تلك البونات بين أيادي الأقارب ومنهم الغني جدا ومنهم الفقير جدا ..وكان الغني مثلا يملك بونات لعدة عائلات مهاجرة ويذهب غالبا إلى المؤسسة الأستهلاكية ويستلم المخصصات لكل الأشخاص حسب البونات ..فلنتصور مثلا عائلة عدد أفرادها 4 أشخاص وكانت العائلة تستلم المواد التموينة لأكثر من 40 شخص لأنها تملك بونات لعائلات مهاجرة ..وحتما كل مايزيد عن أحتياجات العائلة كانوا يبيعونها بالسوق وبأسعار أضعاف ماكانوا يدفعونة في المؤسسة ..
وبينما بعض العائلات من أهالي فيروزة الأصليين التي كانت تقيم في فيروزة كانت غالبا ماتفقد مخصصاتها بسبب أن الكميات من المواد التمونية التي توزع على المؤسسات كانت لاتكفي لأهل القرية ..من جهة لغياب الإحصاء الحقيقي ومن جهة لطمع بعض العائلات في أستخدام بونات عائلات مهاجرة ..هذا الأمر معظمنا يعرفه وقد أستمر لسنوات عديدة ..وهنا نسأل من كان المسؤول عن هذا التصرف ..
وأنا ذكرت هنا أن البعض من الفقراء والأغنياء في القرية كانوا يستخدموا هذه الطريقة ...لاضير أن يستخدم الإنسان المحتاج هذه الطريقة ومن واجب كل من يزداد عنده القليل من السكر أن يقدمه لجاره إذا كان يعوزه وخاصة في مواسم الأعياد حيث كانت معظم العائلات تحتاج المزيد من السكر لصناعة القراص وبعض الحلويات وذلك بعد شهر صيام طويل ..ولكن كان بعض الأغنياء وفي وضح النهار يبيعون مايحصلون عليه من تلك البونات بأسعار السوق وهذا معيب جدا في مجتمع بني على المحبة إن هذا المثال البسيط لم ينطبق فقط علي البونات وإنما على أمور عديدة أخرى لاحاجة لذكرها ....إن بولس الرسول في كل رسائله التي كتبها كان يوصي بالتبرع للفقراء والمحتاجين وهو نفسه وبشخصه طلب المعونة من أهالي فيلبي عندما كان في عوزة وحصل عليها وبعث لهم برسالة يشكرهم فيها ..وكتب لهم " فرحت في الرب كثيرا عندما رأيت أنكم عدتم أخيرا إلى إظهار أهتمامكم بي . نعم . كان لكم هذا الأهتمام ولكن الفرصة ماسنحت لكم .ولا أقول هذا عن حاجة لأني تعلمت أن أقنع بما أنا عليه . فأنا أعرف أن أعيش في الضيقة كما أعرف أن أعيش في السعة وفي جميع الظروف أختبرت الشبع والجوع والفرح والضيع وأنا قادر على تحمل كل شيء بالذي يقويني ومع ذلك كان حسنا أن تشاركوني في محنتي وأنتم تعرفون يا أهل فيلبي أن ما من كنيسة منذ بدء عملي التبشيري عندما تركت مكدونية ، شاركني في حساب الأخذ والعطاء إلا أنتم وحدكم ..ففي تسالونيكي نفسها أرستلم إليَّ مرة ومرتين بما أحتجت إليه ،أقول هذا لا لأني أرغب في العطايا ولكن لأني أريد أن أرى الربح يزداد في حسابكم . فعندي الآن ما أحتاج إليه ، بل مايزيد عن حاجتي . صرت بسعة حال بعدما حمل إليَّ أبقروديتس كل عطاياكم . وهي تقدمة الله طيبة الرائحة وذبيحة يقبلها ويرضى عنها . والله يوفي حاجتكم كلها بما له من غنى عظيم في المسيح يسوع . المجد لله أبينا إلي أبد الدهور أمين. "
في هذا لكلام الذي كتبه بولس الرسول قبل حوالي ألفي عام يعطي درسا واضحا لمن يرغب أن يعتبر نفسه مسيحي حقيقي بالفعل ..وأعتراف بولس الرسول بأن أصبح لديه مايزيد عن حاجته ففي هذا مثالا واضحا يدين بعض التصرفات الفردية التي كانت تصدر من بعض الأفراد في أستغلال حصص الأفراد الأخرين في قرية نشأت على المسيحية ..وهذا كان خطأ يتحمله من أعطى البونات ومن أستخدمها وهو كان يعرف أنه ميسور الحال والبونات كما قلت سابقا.. فقط كمثال واحد من العديد من الأمثلة ..
إن بولس الرسول يقول : "إفرحوا دائما في الرب وأقول لكم أيضا إفرحوا ..ليشتهر صبركم عند جميع الناس .مجيء الرب قريب ، لاتقلقوا أبدا ، بل أطلبوا حاجتكم من الله بالصلاة والأبتهال والحمد ، وسلام الله الذي يفوق كل إدراك يحفظ قلوبكم وعقولكم في المسيح يسوع . وبعد أيها الأخوة فأهتموا بكل ماهو حق وشريف وعادل وطاهر وبكل ما هو مستحب وحسن السمعة وما كان فضيلة وأهلا للمديح . وأعملوا بما تعلمتوه مني وأخذتموه عني وسمعتموه مني ورأيتموه فيَّ، وإله السلام يكون معكم".
أنا لم أذكر هذا المثال في العطاء من فراغ ولكنه حقا كان واقع مازال الكثيرون يذكروه وفي مجالات عدة من مجالات الحياة ولايمكن أن ننساه ..وهو يناقض التعاليم المسيحية في المحبة والعدالة والتسامح والعطاء ..ولكن في نفس الوقت كانت هناك ولازالت نفوس خيرة معطاءة كريمة متسامحة مؤمنة تعمل في الخفاء ولاتحب الظهور ومارست العطاء بأشكال عدة ولم ترغب أبدا أن تظهر ..مارست المسيحية الحقيقية التي نادى بها بولس الرسول فأعطت بيدها اليمنى دون أن تخبر يدها اليسرى ولم تطلب الشكر من أحد ..وهبت مما زاد عن حاجتها بل أعطت من حاجتها اليومية ...وأعطت أكثر حتى من طاقتها.. وطبقت كلام بولس الرسول عندما كتب إلى أهل كنيسة كورنثوس حول جمع التبرعات :" تمموا الأن هذا العمل ليكون التتميم على قدر الرغبة لأنه متى ظهرت الحماسة في العطاء رضي الله على الإنسان بما يكون عنده لابما لا يكون عنده ..لا أعني أن تكونوا في ضيق ويكون غيركم في راحة بل أعني أن تكون بينكم مساواة . فسد رخاؤكم ما بعوزهم اليوم ، حتى يسد رخاؤهم مايعوزكم غدا ..الذي جمع كثيرا ما فضل عنه شيء والذي جمع قليلا مانقصه شيء "
إن هذا المثال البسيط لم ينطبق فقط على البونات وإنما على أمور عديدة أخرى لاحاجة لذكرها ..في قرية نشأت على المسيحية والبونات كما قلت سابقا...لأننا نذكر أن السيد المسيح كان قد علم الأمثال لتلاميذه وكان يكررها على مسامعهم عدة مرات في اليوم
إن العطاء لمن هو محتاج ليسد رمقه اليومي هو واجب إنساني لإستمرار الحياة ولكن العطاء المادي لايمكن أن يتفوق على العطاءات الأخرى التي قدمها الكثيرون من أبناء القرية في مجال التعليم والتوعية الطبية والإنسانية والعمليات الجراحية المجانية لإنقاذ حياة البعض وكذلك التبرع في الدم في الأوقات الحرجة لأشخاص نعرفهم أو لانعرفهم ..ومجال العطاء يجب أن لايحدد في حيز ضيق من مجالات الحياة بل يجب مقارنة العطاء في كل مجالات الحياة .لأن بولس الرسول قال : وتذكروا أن من زرع قليلا حصد قليلا ومن زرع كثيرا حصد كثيرا ، فعلى كل واحد أن يعطي ما نوى في قلبه ، لا آسفا ولا مجبرا ، لأن الله يحب من يعطي بسرور والله قادر أن يزيدكم في كل نعمة ، فيكون لكم كل حين في كل شيء مايكفي حاجتكم وتزدادون في كل عمل صالح "
_________________