قرأت هذا المقال في مجلة صدى الوطن في دترويت فأعجبني جدا واحببت أن أنقله الى اصدقائي في الموقع وبالاخص الساكنين خارج الوطن حيث اننا دائما نشعر بالحنين لبلدنا مهما طالت السنين!!
عندي حنين.. بس بعرف لمين!
مريم شهاب
الاحد, 12.25.2011,
عندما أشاهد نشرات الأخبار والبرامج التافهة على قنوات التلفزيون، أو عندما أسمع برامج الدعايات الفارغة من الراديو، أو التواجد في جلسات النميمة والزيارات غير الاجتماعية، أنطوي على نفسي وأشعر بالتعب من الغربة. أشتاق لأيام الصبا، يوم كان لضيعتي الجميلة، وجه تسبح على تقاطيعه كل آيات الطفولة والبراءة.
أيام كان التخلف واقعا، والتطور حلما بعيدا يداعب خيالي، يومها كان الانسان بسيطا مثل طفل الحكاية الذي أكلت العصافير فتافيت الخبز التي تركها خلفه لترشده إلى طريق العودة.
أحن للبدائية. إلى الصوت الحي في القرية وهو خارج من أعماقها مغنيا أعذب المواويل والميجانا. أشتاق الى الصدق، إلى البساطة وإلى المعاني التي محاها تيار التطور والعولمة. أشعر بالغربة في هذا الزمن وأرفض زمني وحاضري الذي جعل من كل طائفة وحارة في لبنان الصغير الجميل، ترفع علمها الخاص وتنعم بكل مظاهر الاستقلال والانفصال.
وأحزن على قريتي التي غيرت وجهها البريء الجميل عمليات التجميل القبيحة. أحزن على شعرها الأسود يئن تحت مقصات وصبغات الكوافير. أحزن على ضيعتي التي غيرت كحل عينيها العربي وصارت رموشها مستعمرة غريبة يعيث فيها كل أنواع الماسكارا الاصطناعية.
أفتقد أبواب البيوت العتيقة والطرقات الضيقة التي تكونت كل حبة تراب منها على حكاية من حكايات الحب والانتماء. أين الحارات والأزقة الضيقة والمنازل التي يتلصص فيها الجيران على بعضهم ويثرثرون عن حياتهم وموتهم وفرحهم وتعاستهم.
أغمض عيني وفي الحلم أدخل حارتنا القديمة، أدخلها وأجد أن جدرانها لم تعد تردد ضحكات الطفولة. ألملم وأجمع ما أستطيع من أجزاء عمر مضى وشتات نفس مبعثرة. أنظر إلى الأرض التي عانقت أقدامنا كل شيء فيها. لا أجدها. لقد أصبحت طرقات مزفتة ونهبا لعجلات السيارات الغليظة ولم يعد أحد يمشي.
يرتفع بارومتر الحزن في صدري، وأطلب من أذني أن ترجع الى الزمن الذي كنا فيه نغني من القلب وليس من ميكروفونات ومكبرات الحناجر. أحاول أن أرى نفسي وأهلي وجيراني. لا أستطيع. أنظر إلى المدى وأرى بيوتا ولا أرى الناس. أرى ضياعي وضياع أولادي وأولاد أولادي. تتراءى لي هناك مدينة كانت يوما قرية صغيرة. صارت البيوت البسيطة قصورا وفيلات ذات ألوان غريبة وأبوب مقفلة وحولها أسوار حديدية غليظة.
أضع المنظار المقرب على عيوني الدامعة وأعاود البحث. أحاول أن أتبين وجه البلدة الصغيرة وحاراتها المتناثرة وملامحها. أحاول ولكني أجد الفراغ والوحشة الذي يخفي خلفه دماء الوجه الطفولي المذبوح، ذلك الوجه البريء الذي كان يوما ما وجه قريتي.
يبدو أني أضعت الدرب، فأنا هنا في ديربورن. وضيعتي هناك في جنوب لبنان. لم تعد ضيعة. أعاود قراءة شريط الأخبار أسفل الشاشة. ضاعت القدس ونأت بعيدا. لم تعد عربية. ضاعت الخرطوم وضاعت بغداد وتونس وطرابلس الغرب وعدن الجنة المفقودة، والبقية سوف تلحق بها. كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت لست أدري.
لماذا يكون الحاضر أسوأ من الماضي؟ إذا انهارت دمشق وضاعت واختطفتها أيادي السوء الحمقاء مثلما اختطفت القاهرة.. فماذا سيبقى لنا؟
بعد خمسين سنة، سوف تكتب حفيدتي: كانت جدتي تحدثني عن قريتها الجميلة المفقودة وسوف تقرأ في كتب التاريخ أسماء مدن كانت عواصم لبلدان عربية ضيعها أصحابها كما أضاعوا الأندلس والقدس من قبل