كلمات كتبت في يوم رحيله ..رحل زكي ناصيف. "قمر مشغرة" انطفأ. القمر المكتمل بإبداعه. صمت آخر عمالقة الموسيقى اللبنانية والعربية.
أحد أهراماتها السامقة. وأحد آخر الذين ما زالوا يؤمنون بالأغنية فنا صعبا، وبحثا مستمرا ودؤوبا وطويلا لاجتراع الجديد والمتميز.
حبة ناضجة تسقط من ذلك العنقود الذي بدأ يفرط مع رحيل الكبار ولا بدائل:
من عاصي الرحباني إلى فيلمون وهبه إلى عبد الوهاب وعبد الحليم والسنباطي والأطرش والموجي وأم كلثوم.
أمس سكت صوت المنجيرة الدافئ. رحل زكي ناصيف ذارفاً ثمانية وثمانين عاماً،
قضى أكثرها في استلهام التراث الفولكلوري اللبناني مؤسساً لذاكرة الأغنية اللبنانية.
ومعه رحل إلى الأبد الطاحون والمجوز والعرزال والدبكة. لن يطلوا الأحباب ولن تحكي نجوم الليل، وسوف نشتاق "كتير"
من فوق جبالنا ليطل علينا الصوت ببحته الجميلة حاملاً معه نسمات الوادي في دروب الهوى، وعبير زهورنا. ولن يصبّحنا فجر العيد من جديد.
غابت جنات بلادي، وماتت سنابل الحقول، برحيل الكبير زكي ناصيف، آخذاً معه نكهات بلادنا الحميمة ورباها الخضراء، وجمال الجبهات السمرة.
"يا حبيبي صار عمري 88 سنه، شو ناطر مني كون مثل الحديد". كانت عبارته التي قالها لأكثر من شخص كانوا يطمئنون إليه
في أثناء مرضه في مستشفى "أوتيل ديو" وبعدما عانى مشكلات في التنفس من التهاب الرئتين. ولم يمهله القدر
بعد خروجه من المستشفى وشكره لكل المطمئنين إلى صحته، التي بدت أنها كانت أضعف من إرادة الحياة،
نالت من قلبه الرهيف بالأمس نوبة قلبية، جعلت لبنان كله يبكي خسارته الكبيرة.
زكي ناصيف خَسارة لروح الموسيقى الفولكلورية اللبنانية. فقد كان والدها الروحي المعتق
بعطر زهورها، خسرنا بفقده موسيقى النفس ولغتها الإنسانية. عاطفتها وفكرها.
ثقافته الموسيقية العالية وإيمانه بجوهر الفولكلور الغني دفعاه إلى استنباط ألحان من عمق الأرض ومزاجها الشفاف المعطاء، المشرق.
كتب حكايات الضيعة والمدينة معاً، ولحنها في حب وحنوّ، ففعلت فعلها الطبيعي بكل قلب سمعها ودخلت وجدان اللبناني والعربي،
الموجود في وطنه والغريب عنها قربته منها.
لطالما حلم بأن لبنان "راجع يتعمر" فلهجت الألسن بالأغنية إبان الحرب الطويلة، حتى تحقق حلمه أو كاد وعاد الوطن إلى عافيته، وشفيت جراحه.
غنى لعاشقة الورد وللأحباب، ولنسيمات الوديان.
كل لحن من ألحانه فيه نكهة البلاد العريقة وبصمته واضحة تعرفه من خلالها. كان زكي ناصيف نسيج وحده،
ألحانه لم يستقِها من أحد ولم تشبه ألحان غيره ممن سبقه أو جاء بعده.
هو لبناني، شرقي، مغامر، يلحن للمجوز كما يلحن للبيانو والكمان. مفرداته استقاها من المدى الممتد أمام ناظريه من الوديان،
السهول، الجبال، النهر، الزهر، النسمات والطير الشادي والأرزات، عشق أرضه حقا فأبدع في عطائه الفني ألحاناً
وأغنيات كانت على لسان كل مغنّ وكل مواطن عبر عقود.
السيدة فيروز غنته: ع دروب الهوى، سحرتنا البسمات، من يوم تغربنا، أمي الحبيبة، أهواك بلا أمل،
بناديلك يا حبيبي، فوق هاتيك الربى، ع بالي يا قمر وغيرها.
وهو غنى دبكة الموسم، راجع يتعمر، هيهات يطلوا، ما نسي العرزال، حكيت نجوم الليل، أيامنا حكايات، تسألني الحسناء،
فوق جبالنا، جنات بلادي وغنى له كثيرون مثل السيدة نجاح سلام وصباح وغسان صليبا وآخرون.