معروف أن الأساطير حكايات شعبية تتناقلها الأجيال شفويّاً زمناً طويلاً قبل أن تُقيِّدها الكتابة، وتجري أحداثها في بدايات الزمن الأزليّ، وتحكي أصل الكون والإنسان والحضارة، وتحمل دلالات "دينية مقدسة"، وشخوصها آلهة وأنصاف آلهة وأبطال فائقوالكمال. وهكذا فإن سردها يتطلب طقوساً أقرب إلى السِّحر، وشعائرَ تغالي في الطهر والنقاء. من أجل ذلك كلِّه، أرجوك، أيها القارئ الكريم، أن توقد الشموع معي، وتتلو ترانيم العشق والوجد، قبل أن نقترب من (عشتار) في حندس هذا الليل السومريّ الموغل في مغارات الزما ن والمكان.
(عشتار) ربّة الحُبّ والخصب
(عشتار) شابة ممتلئة الجسم، ذات صدر نافر، وقوام جميل، وخدَّين مُفعمين بالحيوية، وعينين مُشرقتَين. يتوفَّر فيها، إلى جانب جمالها الأخّاذ، سموالروح، مع رهافة الطبع، وقوة العاطفة، والحنو على الشيوخ والأطفال والنساء. في فمها يكمن سرُّ الحياة، وعلى شفتيها تتجلى الرغبة واللذة، ومن أعطافها يعبق العطر والشذا. يكتمل بحضورها السرور، ويشيع مع ابتسامتها الأمن والطمأنينة في النفوس. غالبا ما نشاهدها وهي تجوب الحقول بخفَّة ورشاقة، فتتفجَّر الينابيع خلفها بالماء والعطاء، وتُزهر الأرض بالسنابل والنماء.
وقع في غرامها الشعراء، فخلّدوها بأعذب الأوزان وأحلى القوافي. وهام بحبِّها الأدباء، فوهبوها أجمل النصوص الملحميَّة. وعشقها الفنانون، فرسموها على أرشق الأختام الأسطوانية وصنعوا لها أرقى التماثيل التي تكاد تنطق بالحياة. وولع بها الموسيقيون فنغّموها لحناً راقصاً على أوتار العود وفوهة الناي.
تلكم هي (عشتار) إلهة الخصب والحبّ والجنس لدى سكان وادي الرافدين القدماء. ظهرت أول مرة في بلاد سومر في جنوب العراق، قبل أكثر من ستة آلاف عام، إما بشخصها المرسوم على الأختام الأسطوانية وبعض المنحوتات، وإما بالرمز الذي يدلّ عليها في الخطّ المسماريّ وهوالنجمة الثمانية التي تشير إلى كوكب الزهرة، ألمع الكواكب. وقد سمّاها السومريون ((عينانا)). وهي في أساطيرهم ابنة اللإله (سين) إله القمر. وأمها الإلهة ننكال، وأخوها الإله (أوتو) إلاه الشمس، وأختها الإلهة (إيرشيكال) إلهة العالم السفلي، عالم الأموات. وهي أعظم الآلهات وأسماهن منزلة. وكان مركز عبادتها الأصليّ مدينة (الورقاء) عاصمة بلاد سومر، التي كانت تُعدّ من أهمّ المراكز الدينيّة والحضاريّة لعصور طويلة.
أوجه (عشتار) وتجلياتها
وتكمن أهمية الإلهة (عينانا) في أن الإنسان أدرك منذ القدم أن بقاءه يتوقف على أمرين أساسيين هما الغذاء والتناسل. فبدون الغذاء يموت الإنسان جوعاً، وبدون التناسل يفنى الجنس البشريّ تماماً. وقد جمعت (عينانا) في شخصها الخصبَ والجنسَ معا؛ فهي، من ناحية، تمثّل خصب الطبيعة بمياهها ونباتاتها وحيواناتها وهكذا يتوفر الغذاء للإنسان، كما تمثّل، من ناحية أخرى، الرغبة الجنسيّة التي ينتج عنها الاتصال بين الذكر والأنثى فيضمن الإنسانُ تناسلَه وتكاثرَه.
ونظراً لأهمية ((عينانا)) تلك، فقد انتقلت عبادتها من السومريين إلى الأقوام الأخرى التي احتكت بهم أو تأثرت بثقافتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كالأكديين الذين سمّوها ((عشتار))، وشعوب جنوب الجزيرة العربية الذين أطلقوا عليها لقب (عثار أو عطار)، والكنعانيين والعبرانيين الذين سمّوها (عاشرا أو عشتروت)، وورد اسمها (أستر) في التوراة، والإغريق الذين لقبوها بـ (إفروديت)، والرومان الذين جعلوها (فينوس). ونظراً لأن الأكديين (البابليين والآشوريين) هم الذين سيطروا على بلاد سومر منذ عام 1750 ق.م. وورّثوا ثقافتهم لمن بعدهم، فإن الاسم الأكدي ((عشتار)) هوالذي شاع بين أهالي البلاد.
أساطير الخصب السومرية
ويقترن اسم الإلهة ((عينانا)) بعدد من الأساطير السومريّة المدونة بالخط المسماري. فهناك أسطورة تحكي تفاصيل رحلتها إلى مدينة (أريدو) السومريّة، مركز الإله (أنكي) إله الحكمة والمعرفة. وكانت الغاية من تلك الرحلة أن تحصل ((عينانا)) على النواميس الإلاهية لفنون الحضارة من الإله (أنكي) وتنقلها إلى مدينتها (الورقاء) لتجعل منها مدينة متحضِّرة.
وتسرد أسطورة سومريّة أخرى لنا كيف أن الإلهة ((عينانا)) نقلت ذات يوم شجيرة تنبت على ضفة نهر الفرات إلى مدينة (الورقاء) وزرعتها في "بستانها المقدّس" على أمل أن تنمو تلك الشجيرة وتصير شجرة سامقة الأغصان فتصنع من خشبها عرشاً وسريراً لها. وعندما كبرت الشجرة وحان وقت قطع أغصانها اكتشفت أن أفعى قد اتخذت من أسفلها مخبأ، وأن طيراً بنى في أعلاها عُشّاً، وأن عفريتة استقرت في وسط جذعها. فاستنجدت ((عينانا)) بأخيها (أوتو) إله الشمس الذي أسند المهمة إلى البطل المشهور (جلجامش)، فجاء هذا البطل متسلِّحاً بدرع سميك وفأس ثقيلة، واستطاع أن يقتل الأفعى، وعند ذاك فرّ الطير وهربت العفريتة إلى الخرائب المهجورة، فقطع (جلجامش) أغصان الشجرة وحملها هدية إلى ((عينانا)) لتصنع منها عرشاً وسريراً.
عشّاق إلهة الحبّ والجنس
ولما كانت ((عينانا)) مرهفة الحسّ جامحة الرغبة جذّابة الملامح ساحرة القول، فقد تعددت قصص غرامها وكثر عشّاقها. وكلُّ واحد منهم يطمع في الفوز بها، لتهطل الأمطار على أراضيه، وتكثر الغلال في حقوله، وتزداد محاصيله، ويرفل بالرفاء والغنى.
وتذكر ملحمة جلجامش أن الإلهة ((عينانا)) نظرت ذات يوم إلى الملك جلجامش، عاهل الورقاء، بعد أن عاد ظافراً من معركته الرهيبة مع العفريت (خمبابا)، المُوكل بحراسة غابات الأرز، فأسرها جماله، وفتنتها رجولته، فعرضت عليه أن يتزوَّجها. ولكن الملك الشجاع جلجامش رفض عرضها خوفاً من تَقلّب أحوالها وخشية خيانتها له، ولم يتردد في الإفصاح عن مشاعره الحقيقية، فتمادى في جرح مشاعرها بقوله:
(( ما أنتِ إلا مَوقد سرعان ما تخمد ناره في البرد
أنتِ باب لا ينفع في صدِّ ريح عاصفة
أنتِ قصرٌ يتحطم في داخله الأبطال
أنتِ قصرٌ يتحطم في داخله الأبطال
أنتِ بئر تبتلع غطاءها))
ثم يذكّرها بخياناتها السابقة فيقول:
(( فأيّ من عشّاقك أحببتِ إلى الأبد؟
وأي من رعاتك مَن طاب لك على الدوام؟
تعالي أسمّي لك عشّاقك…
وبعد ما أحببتِ طير الشقرتق المرقّط
ضربتِه وكسرت جناحه
وها هو قابع في البساتين يصيح يا جناحي
ثم أحببتِ الأسد الكامل القوة
ولكن حفرتِ له سبعَ وسبعَ حفر
وأحببتِ الحصان المجلّي في المعركة والسباق
ولكنك كتبت عليه الجري سبعة فراسخ مضاعفة
وحكمتِ عليه بالعدو شوط سبع ساعات مضاعفة
وقضيتِ عليه أن لا يَرِد الماء إلا بعد أن يعكّره…
ومن ثم أحببتِ راعي القطيع
الذي كان يكدِّس لك أرغفة الخبز المحمَّصة على الدوام
ويذبح لك الجداء كل يوم
ولكنك ضربتِه ومسخته ذئباً
حتى صار رفاقه في الرعي يطاردونه
وصارت كلابه تعضّ فخذيه…
فإذا ما أحببتني فإنك ستجعليني مثلهم))!
انتقام إلهة الحبّ والخصب
وقد ثارت ثائرة (عينانا) فَشَكَت جلجامش إلى أبيها، الإله آنو، وطلبت منه أن يخلق ثوراً سماويّاً يستطيع منازلة جلجامش والقضاء عليه، وهدَّدت أباها بأنه إذا ما رفض طلبها فإنها "ستفتح أبواب العالم السفلي فيخرج الأموات ليأكلوا الأحياء". وحاول الإله آنوان يُقنع ابنته (عينانا) بأن خلق الثور المطلوب سيكون نذيراً بحلول سبع سنين عجاف في البلاد فيجوع الإنسان والحيوان. ولكنَّها طمأنته بأنها احتاطت للأمر وخزنت ما يكفي من الطعام والعلف. وهكذا لم يَجد أبوها بُدّا من خلق الثور السماويّ. ودارت معركة رهيبة بينه وبين جلجامش الذي استعان بصديقه أنكيدو. وأخيرا أمسك أنكيدوبالثور السماوي الهائج من ذيله وثبته ليتمكن جلجامش من تسديد طعنة سيف قاتلة إلى الثور بين السنام والقرنين.
ويتساءل الدكتور فاضل عبد الواحد علي عن مغزى هذه الأسطورة فيقول:
"لا شك في أن ما ذكره جلجامش عن ماضي (عشتار) وتقلُّبها بين العشّاق وما قاله أنكيدو لها من عبارات جارحة كان تشهيرا واضحاً بالإلاهة. وإذا ما عرفنا أن اسم (عشتار) يرتبط أصلا بطقوس الخصب التي تؤكِّد أهمية الجنس لاستمرار الحياة، فيكون من المعقول أن يتساءل المرء عمّا إذا كان استهجان جلجامش يعكس بالضرورة ردّ فعل اجتماعيّ، على الأقل من وجهة نظره لبعض القضايا الطقسيّة التي كانت تجري باسم هذه الإلاهة في معابدها." كالبغاء المقدس على سبيل المثال
زواج (عينانا) و(دموزي)
وفي نهاية المطاف تلتقي (عينانا) الراعي (دموزي) (أو (تموز) كما يسميه الأكديون)، إله الرعي، ويخفق قلبها لحبِّه خفقاناً ينسيها كلَّ عشاقها السابقين. التقت به ذات ليلة عندما كانت ترقص وحدها متألقة في حلبة الرقص لامعة مثل كوكب الزهرة في سماء ربيعية. وضع يده بيدها واحتضنها فحاولت الإفلات منه راجية إياه أن يخلي سبيلها لترجع إلى أمها فقد تأخرت عن موعد عودتها إلى البيت. ولكن ((دموزي)) أشار عليها أن تبقى معه وتخبر أمها بأنها كانت تستمتع بالموسيقى والرقص والغناء مع صديقة لها في ساحة المدينة، وفي غمرة الفرح نسيت الوقت وموعد الرجوع إلى المنزل. ثم يتقدم الراعي (دموزي) لخطبتها وتعيش معه سعيدة في "بيت الحياة" فتتجدد الحياة بزواج إلهة الخصب بإله الرعي.
هذا الموضوع هو في الاصل قراءة في كتاب ((عشتار) ومأساة (تموز)) للدكتور فاضل عبد الواحد علي (أستاذ جامعي عراقي)(دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1999) 184 صفحة. إن هذا الكتاب مصنف رائع قيّم حقاً، يجمع فيه مؤلفه بين الأساطير الشعبية والحقائق التاريخية الموضوعية والأساليب الأدبيّة الرفيعة. وتتضافر مهارة الناشر مع جهود المؤلف في وضع المادة العلميّة على ورق صقيل، بطباعة متقنة، وإخراج رائق، وشكل جميل جذّاب.