لملم الصيف أوراقه أخيرا ورحل، مخلفا وراءه عددا من الكوارث الطبيعية التى أيقظت العالم على حقيقة التغيرات المناخية وتأثيرها على الإنسان وبيئته. وكان نصيب البشرية منها عددا وافرا من الزلازل والبراكين والسيول التى ضربت هاييتى.. وإندونيسيا التى مازالت مهددة بتسونامى عجزت أجهزة الرصد بأحدث الوسائل التكنولوجية عن التنبؤ بموعده.. ثم باكستان التى أغرقتها السيول والفيضانات، وفى كل هذه الكوارث كانت الشعوب المغلوبة على أمرها هى الضحية. بعضها سارعت دول الغرب إلى إغداق المساعدات عليها مثل هاييتى المستعمرة الفرنسية القديمة. والبعض الآخر مثل باكستان واندونيسيا تركتا لمصيرهما. لم تعرف أى منهما غير قليل من الاهتمام العالمى وقليل من المساعدات. ولم يشفع لها انتماؤها لعالم إسلامى ممزق رغم ثرائه وكثرة شعوبه التى أضحت غثاء كغثاء السيل!
فى بلادنا يتحول الصيف إلى عبء ثقيل، حين تتضافر حرارة الجو وقيظ الشمس مع ما تعج به العشوائيات والشوارع والكفور من القمامة ومخلفات المجارى وطفح المياه لتجعل معظم المدن والأحياء فى مصر صورة من صور الخراب الذى تلحقه الزلازل والفيضانات بالبلاد الأخرى!
وفى كل صيف لابد أن تشهد مصر هجمة وبائية لفيروس من الفيروسات.. ان لم تكن إنفلونزا الطيور فإنفلونزا الخنازير التى أعلن رسميا أنها صارت من الأمراض المتوطنة فى مصر. وفى هذه السنة جاءت «الملتحمة» إلى عيون الأطفال والكبار من حيث لا يدرى أحد.. إلا أنها نتيجة طبيعية لدرجة هائلة من التلوث الذى نتنفسه ونعيش عليه، وتغذيه السحابة السوداء بأطنان من الدخان والغبار وتلوث المياه التى يجرى خلطها بالصرف الصحى!
هل أضحت مصر بذلك أحد أكثر الدول تلوثا وقذارة فى العالم؟ وهل فقدت الطبيعة فى بلادنا جمالها وبكارتها، وانطفأ سحر الريف الذى كان فى وقت من الأوقات مصدرا للإلهام ونبعا للعطاء والشعور بالرضا والقناعة؟ ولماذا ضاع الإحساس بالجمال فى بلد خلدت حضارته فنون الجمال وأقامت المعابد والأهرامات احتفاء بروعة الطبيعة وبقدرة الإنسان على التشييد والبناء والإيمان بالخلود؟!
تخطر فى ذهنى وتعبر خيالى مثل هذه الأفكار كلما وجدت نفسى خارج القاهرة، بعيدا عن أجوائها المفعمة بالعوادم، وعن زحام شوارعها والفوضى والعشوائية التى تميز إيقاع الحياة فيها.. فتجثم فوق عقل الإنسان وروحه، لتجعله أبطأ حركة وفهما وعزوفا عن المشاركة فى أى شىء، بل وعن التفكير السليم. وهو ما ينعكس بغير شك على قرارات المسئولين وسياساتهم المتضاربة. ولو سألتنى عن سبب الفشل الذى تمنى به الدول التى تصنف على أنها «دول فاشلة» لقلت لك إن جانبا كبيرا من الأسباب يرجع إلى فساد البيئة.
لا يشعر المصريون بفصول السنة وتغيراتها ولا يحتفلون بها كما تحتفل بها بعض شعوب العالم. فقد كان فيضان النيل فى شهور الصيف هو التغير البيئى الوحيد الحاسم فى حياتهم، باعتباره مصدر الخير والخصب والنماء.. أن يفيض النيل أو يغيض تلك كانت قضية حياتهم التى ارتبطت بكل شىء.. وحين كف النيل عن الفيضان ونجح الإنسان فى ترويضه، نزح الناس فى شهور الصيف إلى الشواطئ التى أصبحت مسرحا للاحتفال بالحياة ومباهجها، ومهرجانا سنويا للانفلات من أسر العادة والروتين اليومى.
الفقراء يؤثرون الصيف والأغنياء يرحبون بالخريف. فخيمة الصيف لا تحتاج إلى فراش أو غطاء، وهى بالنسبة لأهالى العشوائيات ومدن الصفيح من الفقراء والمعدمين خير ملجأ وملاذ. وحين يأتى الخريف فإنه يمسح أوزار الصيف وعرق الحر. ويعيد توزيع الألوان والأضواء على الأشجار والأغصان والزهور، بعد أن يسقط الأوراق الذابلة القديمة، ويدفن بذور الخصب فى رحم الطبيعة خوفا من برد الشتاء وتقلباته.. إلى أن يحين موعد بعثها مع الربيع من جديد.
حتى فى الطبيعة يظل القانون السرمدى هو التداول والتغيير: تداول الصيف والخريف، والشتاء والربيع، والحر والبارد، والخصب والجدب. وحين تنضو الطبيعة أثوابها يخلع الإنسان عن عقله وروحه كثيرا من القشور الزائفة والمظاهر الخادعة!
...................
"نقلا عن مجلة الشروق "
بقلم: سلامة أحمد سلامة